بطاقات الائتمان والتكييف الفقهي (4/3) (WORD)
مدة
قراءة المادة :
45 دقائق
.
بطاقات الائتمان والتكييف الفقهي (4/ 4) استعرضْنا في مقالَيْن سابقَيْن تعريفَ بطاقة الائتمان، وبيان خصائصها، وحُكم أخْذ رسوم الإصدار والتجديد، والعلاقة بيْن مُصدِر البطاقة وحاملها، والعلاقة بين التاجِر ومُصدِر البطاقة، ونستكشف - إنْ شاء الله تعالى في هذا المقال - بقيةَ أحكام البطاقات الائتمانية، وعلاقاتها المتداخلة.
المبحث التاسع: العَلاقة بين بنك التاجر (غير مصدر البطاقة) وبيْن التاجر:
في الفصل السابق، تكلمْنا عن العلاقة بيْن التاجر وبيْن مُصدِر البطاقة، إذا كان بنك التاجرِ هو البنكَ نفسه الذي أصْدر البطاقة، ولكن في حالاتٍ كثيرة يكون بنك التاجر ليس هو البنكَ الذي أصدر البطاقة، فقد يكون البنكُ الذي أصدر البطاقة بنكًا محليًّا، أو بنكًا أجنبيًّا في بلدٍ آخر؛ وبالتالي فإنَّ التاجرَ سوف يُقدِّم فاتورة البيع إلى البنك الذي يتعامَل معه، والذي بدَوْره يُقدِّم هذه الأوراقَ إلى البنك الذي أصدر البطاقةَ إنْ كان بنكًا محليًّا، أو إلى المنظَّمة الراعية إنْ كان بنكًا أجنبيًّا، وسوف يتقاسَم بنك التاجر مع البنك المُصدِر للبطاقة العمولةَ التي تُؤخَذ من التاجر.
والسؤال: ما حُكْمُ أخْذِ بنك التاجر هذه العمولةَ مِن التاجر إذا لم يكن هو مُصدِرَ البطاقة؟
القول الأول:
يرى أكثرُ أهل العلم أنَّه لا حَرَجَ على بنك التاجر مِن أخذ عمولة على تحصيلِ دَين التاجر؛ لأنَّ حقيقة عمله هو الوكالة في تحصيلِ الدَّين وتوصيله، وإذا كان دَورُه يقتصر على الوكالة في التحصيلِ، فإنَّ المال الذي يأخذه إنَّما هو أُجرة على الوكالة في تحصيلِ الدَّيْن وتوصيله، والوكالة بأجرٍ جائزة، وقد يتخلَّل هذه العمليةَ قرضٌ ليس مِن طبيعتها، بل هو خِدمة مِن البنك المحصل لعميله التاجر، فقد يُودِع البنك المحصل في حسابِ التاجر قبل تحصيله، ويكون الفرقُ بيْن الإيداع والتحصيل - إنْ كان البنك محليًّا - ساعات محدودة، وإنْ كان بنكًا أجنبيًّا قد يستغرِقُ ذلك ثلاثة أيَّام على الأكثر، وهذا الإيداع لا يُؤثِّر على البنك؛ لوجودِ حساب التاجر لديه، فلو امتَنع مُصدِرُ البطاقة أو أفلس، فإنَّ الدَّين لا يدخُل في ضمانِ البنك المحصل، بل يرجع على التاجر به، وهذا ما نصَّتْ عليه اتفاقيةُ فيزا التاجر، حيث جاء فيها: "ثانيًا: في حالِ رفض البنك مُصدِر البطاقة دفْعَ أوراق المبيعات المقدَّمة مِن التاجر، فإنَّ على التاجِر رَدَّ جميع الدفعات المسدَّدة له إلى البنك فورًا".
وهذا يدلُّ على أنَّ البنك لا يضمن عمليةَ السداد، ممَّا يجعل حُكمَه مختلفًا عن حُكم بنك مُصدِر البطاقة، الذي يقوم بعمليةِ الضمان، والله أعلم.
القول الثاني:
ذهَب بعضُ الباحثين إلى تحريمِ ما يأخذه بنكُ التاجر من عمولة.
وجه التحريم:
أنَّ بنك التاجر إذا قام بتسديدِ المبالغ المستحقَّة للتاجر حالاًّ، ثم رجَع بها على المصدِر مع خصْم عمولته وعمولة المُصدِر، فقد قام بإقراضِ التاجر بالفائدة المئوية؛ لأنَّه يُحصِّل هذه المبالغ كاملة مِن المصدر، وهو بدوره يُحصِّلها من الحامل، فالعملية تَصير قرضًا جرَّ نفعًا، وهو حرامٌ، وليس مجرَّد وكالة مِن التاجر، وإذا كانتِ العملية تستغرق ثلاثةَ أيام، فالأجَلُ موجودٌ، والفائدة كذلك، فتتحوَّل العمليةُ إلى إقراضٍ بفائدة.
تاسعًا: في تكييف العلاقة بين المنظَّمة الراعية للبطاقة وبقية أطراف البطاقة:
يعتقد بعضُ الباحثين أنَّ المنظَّمات الراعية لبطاقات الائتمان كالفيزا والمستركارد وغيرها، منظَّماتٌ غير ربحية، وهذا يخالف الواقع؛ لأنَّك حين تُقدِّر هذه الرسوم التي تأخذها المنظَّمة على بلايين البطاقات المصرفية، إضافةً إلى رسومِ العضوية في المنظَّمة، ورسوم عمليات التفويض والمقاصَّة التي تُجريها بيْن الأطراف المتعدِّدة - تُدرِك حجمَ الأرباح التي تَجنيها تلك المنظماتُ مِن وراء هذه العمليات.
ويمكن تكييف عملِ هذه المنظَّمات كأجيرٍ مشتركٍ يعمل لمصلحة أعضاء متعدِّدين، ويأخُذُ على خِدمته أجرًا متَّفقًا عليه، وهو نسبة معينة من كلِّ عملية تقوم بها.
فإنْ كانتِ البطاقات بطاقاتٍ رِبويةً تعتمد الفائدةَ مقابلَ تقسيط الدَّيْن، وتعتمد غرامةَ التأخير على حاملي البطاقات، فإنَّ عمل تلك المنظَّمات سيكون مُحرَّمًا؛ لأنَّ عملها حينئذٍ سيقوم على تيسير عملية الإقراض بالفائدة، فعَملُها وأُجرتها على ذلك حرام، أمَّا إذا لم يترتَّبْ على وساطتِها فوائدُ رِبويَّة محرَّمة - كما في بِطاقات الائتمان المنضبطة - فأُجرتها صحيحة، ولا حرَج في دفْع الرسوم لها، والله أعلم.
المبحث العاشر: في أخْذ الرسوم على عملية السَّحْب النقدي:
كثيرٌ مِن بطاقات الائتمان لا يتوفَّر فيها إمكانيةُ السَّحْب النقدي، وإنَّما يتوفَّر فيها إمكانية شِراء السِّلَع والخِدْمات، وبعض بطاقات الائتمان يتوفَّر فيها إمكانيةُ السحب النقدي، ولهذه العملية حالتان:
الأولى: السَّحْب النقدي مِن مُصدِر البطاقة، وتكييف هذه العملية بأنَّها عمليةُ قرْض مِن مُصدِر البطاقة؛ تنفيذًا لعقد الائتمان الذي يشمل وعْدًا بالقرض.
الحال الثانية: أن يكون السحبُ النقدي مِن غير مُصدِر البطاقة، وهذه العملية يتحصَّل منها عقدان:
العقد الأول: عقد قرْض بين حامِل البطاقة والبنك المسحوبِ منه النقد.
العقد الثاني: عقد ضمان بيْن البنك المسحوبِ منه النقد، وبين مُصدِر البطاقة؛ لأنَّ القرض لن يتمَّ إلا بعدَ موافقة مُصدِر البطاقة وتفويضه بإتْمامِ العملية.
أخذ رسوم على عملية السَّحْب النقدي:
هذه الرسوم إن كانتْ تكاليفَ فعليةً تكَّبدها المقرضُ في سبيل تقديم القرْض، فهذه لا بأسَ بتحميلها المقترض؛ لأنَّ مَن يستفيد مِن هذه الخدمات يجب أن يدفعَ تكاليفها، والمقرِض محسنٌ في قرْضه لا يجب عليه أن يتحمَّل نفقات القرْض، إلا أنَّ هذه التكاليف يجب أن تُحسب بدقَّة؛ لأنَّ أيَّ زيادة فيها ستؤدِّي إلى الوقوع في الرِّبا، ويجب أن تكون مبلغًا مقطوعًا لا أن تكون العمولةُ نِسبية؛ لأنَّ تكاليفَ نفقات القرض واحِدة، مهما اختلف مقدارُ القرْض، وما زاد على التكاليفِ الفِعلية فأخْذُها يُعتبر محرَّمًا؛ لأنَّه مِن قبيل الفائدة على القرْض، وهذا مُحرَّم بالإجماع.
وهذا ما نصَّ عليه قرارُ مجمع الفقه الإسلامي رقم 13 (1/ 3) في دورته الثالثة بعمان، بخصوص أجورِ خِدمات القروض، حيث جاء فيه: "أولاً: يجوز أخْذُ أجور عن خِدمات القروض على أن يكونَ ذلك في حدودِ النفقات الفِعلية.
ثانيًا: كلُّ زيادة على النفقات الفعلية محرَّمة؛ لأنَّها من الرِّبا المحرَّم شرعًا".
بقي إشكالٌ آخرُ: أنَّ المنظمة الراعية للبطاقة تقوم باحتسابِ رسوم السَّحْب لصالِح البنك المسحوب منه النقْد، حتى لو كان بنكًا إسلاميًّا؛ لأنَّها تقوم بذلك بشكلٍ تلقائي، ولا يُمكن التعديلُ فيه، فلا يستطيع مُصدِر البطاقة أن يَطلُبَ مِن المنظَّمة الراعية ألاَّ تحتسب له الفائِدة، وقد أخذتِ البنوك الإسلاميَّة مِن هذه النسبة المحسوبة موقفين:
الموقف الأول: يرى جوازَ أخْذ هذه النِّسبة، مِثل بيت التمويل الكويتي، وندوة البركة؛ على أساس أنَّها مقابل خِدمات يقدمها البنك.
ففي الأسئلة الموجَّهة إلى هيئة الفتوى والرقابة الشرعيَّة في بيت التمويل الكويتي جاءَ في السؤال السادس:
"ما هو الرأيُ الشرعيُّ في العمولة التي يتقاضاها بيتُ التمويل مِن البنوك الخارجية لقاءَ دفْع مبالغ نقدية لحَمَلة بطاقة فيزا عملاء هذه البنوك؟
الجواب: إنَّ العمولةَ التي يأخذها بيتُ التمويل كمبلغ مقطوع، إضافةً إلى نِسبة مئوية عن إجمالي المبلغ المسحوب، هي عبارةٌ عن أجْر على الخِدمة المصرفية التي يُقدِّمها بيت التمويل بما فيها مِن تكلفة نقْل الأموال، واستخدام وسائلِ الاتصالات التي تختلف تكلفتُها من بلد إلى بلد؛ لتمكينِ حامل بطاقة فيزا البنك الخارجي من سحْب النقود.
وإنَّ أخْذَ هذا الأجر جائزٌ شرعًا، سواء أكان مبلغًا مقطوعًا، أم بنسبة مئوية أو كِليهما؛ لأنَّ إعطاء المبلغ هو على سبيلِ القرض الحسن، والمعاملة بالمِثْل بين بيت التمويل الكويتي والبنوك الأخرى المنضمَّة إلى منظَّمة فيزا".
ويناقش: بأنَّ هذا العقد عقدٌ مركَّب مِن عقدين: أحدهما: القرْض، والآخر: الإجارة، ولا يجوز الجمعُ بين القرْض وبيْن عقْد الإجارة، وهذا النهيُ مُجمَعٌ عليه كما سبَق بيانُه في الجمْع بيْن البيع والقرْض، والإجارة نوْع من البيع، إلا أنَّها بيعُ منافع، كما أنَّ أخْذ العمولة بالنسبة دليلٌ على أنَّ الأخذ لا يتعلَّق بالنفقات الفِعلية، وإذا كانتْ هيئةُ الفتوى في بيت التمويل ترَى أنَّ إعْطاء المبلغ هو مِن قَبيل القرْض الحَسَن، فإنَّ أخذ العمولة على هذا القرض، وتحديد العمولة حسبَ النسبة المئوية للقرض، لا يَجعله مِن قبيل القَرْض الحسَن، بل مِن قبيل الرِّبا المحرَّم.
الموقف الثاني: رأتْ بعضُ الهيئاتِ الشرعية أن تضعَ صندوقًا خاصًّا لهذه الفوائد المحتسبة، ثم تتخلَّص منها.
يقول الشيخ مصطفى الزرقا - رحمه الله -: "هذه المشكلةُ قد تُدورِكَت بأنَّ البنك الإسلامي الذي يُريد أن يصدر بطاقة يُشترَط عليه أن يُنشئ صندوقًا خاصًّا لديه لتلك الفوائدِ التي تحتسب له رغمًا عنه، وليس بطلبٍ منه، وتأتيه على المبالِغ التي استعملتْ فيها البطاقة، وهذا الصندوق ما يتجمَّع فيه يُوجَّه إلى جِهات الخير الإسلاميَّة شأن سائرِ الفوائد التي تحتسب لبعضِ المودعين في البنوك، ولا يُريدون أن يَقعوا في المحرَّم، فهم يصرفونها كما في فتوى المَجْمع الفِقهي في مكَّة".
المبحث الحادي عشر: في الخِدْمات المقدَّمة لصاحب البطاقة:
يَمنح مُصدِر البطاقة حامليها بعضَ الخِدمات، وسوف نذكُر هذه الخِدمات، ونذكُر حُكمها الشرعي:
(أ) تقديم التأمين إذا استخدَم بطاقةَ الائتمان في تسديدِ ثمن تذْكرة الطيران بقِيمة محدَّدة، ويشمل التأمينُ نوعين منه:
التأمين على الحياة، والتأمين التجاري القائِم على جبْر الأضرار كالتأمين الطبِّي حالَ السَّفَر، والتأمين على الأمْتِعة في السفر.
حُكم تقديم هذه الخِدمة من الناحية الفقهية:
الحُكم الفِقهي لهذه الخِدمة هو الحُكم نفسه فيما لو اشترَك حاملُ البطاقة في هذه الخِدمة مباشرةً، وقد نشرتُ في مجلَّة القصيم في عدد سابق عن حُكم التأمين، وانتهيت ُفيه إلى أنَّ التأمين التجاري القائم على جبْر الأضرار يُعتبر من عقود الغرَر، تُبيحه الحاجةُ الملحَّة، وأمَّا التأمينُ على الحياة فهو مِن عقود الرِّبا، فلا يجوز بحال، وهذا ما توجَّهت له الهيئةُ الشرعية بشركة الراجحي المصرفية.
فقد جاء في قرارها ما نصُّه: "لا يظهر للهيئة حتى الآن ما يُوجِب تحريمَ التأمين المسؤول عنه، ومِن ثَمَّ لم ترَ ما يوجب الاعتراض على أن تُمارس شركة الراجحي إجراءَ تأمين تجاري في معاملاتها الشرعية التي تحتاج فيها إلى تأمين، وغنيٌّ عن البيان أنَّ الكلام عن التأمين التجاري هنا لا يشمل التأمينَ على الحياة".
(ب) التخفيض والجوائز:
بحيث يتمتَّعُ صاحبُ البطاقة عندَ الشراء مِن بعض المحلات على بعضِ السِّلع والخدمات، كما يحصُل على بعض الجوائز والهدايا.
فإنْ كان لهذه التخفيضات رسومٌ، فإمَّا أنْ يدفعها مصدِر البطاقة، وأما أن يدفعَها حاملُها.
فإنْ دَفَع الرسوم حاملُها فإنَّ هذه الرسوم مشتملة على غرر، فتكون محرَّمة؛ لأنَّ دافع هذه الرسوم قد يَغنم أكبرَ ممَّا دفَع، وقد يغرم، ولا يأخذ شيئًا، وهذا نوعٌ من القمار.
وإنْ دفَعها مُصدِر البطاقة أو كانت مجَّانًا بلا رسوم مطلقًا، فإنَّ الخلاف في جوازها مثل الخلاف في الهِبة المشتملة على غَرر.
فالجمهورُ على منْع الهِبة المشتملة على غرر.
وذَهَب المالكية إلى صحَّة عقد الهِبة المشتمل على غرَر، وأنَّ باب التبرُّعات أوسعُ مِن باب المعاوضات، وأنَّ الموهوب له إن غنم فهو من قبيل التبرُّع، وإن لم يغنمْ لم يخسر شيئًا، وهذا اختيارُ ابن تيمية.
(ج) الحصول على بعضِ الخدمات المميزة، كالدخول لصالاتِ الانتظار المخصَّصة لرجالِ الأعمال في المطارات ونحوها.
وهذا لا حرَجَ في دفْع الرسوم لها، ولا فرْق بين أن يدفعَها مُصدِر البطاقة أو حاملها.
المبحث الثاني عشر: في شراء الذهب والفِضَّة عن طريق بطاقات الائتمان:
اختلَف العلماءُ في هذه المسألة:
فقيل: لا يصحُّ شراء الذهب أو الفِضَّة ببطاقة الائتمان مطلقًا؛ أي: سواء كانت البطاقةُ مغطاة، أو غيْر مغطاة.
وهذا اختيارُ الشيخ الصديق محمد الأمين الضرير.
وقيل: يصحُّ مطلقًا، لا فرْقَ بين كون البطاقة مغطاة، أو ليست مغطاة، اختاره بعضُ الباحثين، كالشيخ عبدالستار أبو غدة، والشيخ نزيه حماد، والشيخ يوسف الشبيلي، وغيرهم.
وقيل: يجوز شراء الذهب والفِضَّة إنْ كانت البطاقة مغطَّاة، ولا يجوز إن كانتِ البطاقة غيرَ مغطاة، اختاره بعضُ الباحثين، وبه صدرَ قرار مجمع الفقه الإسلامي.
وجه مَن قال: لا يجوز شراء الذهب والفضة مطلقًا:
يقول الشيخ الصديق محمد الضرير: "الفورية المطلوبة شرعًا في شراءِ الذهب والفِضَّة غير متحقِّقة في الشراء بالبطاقة؛ لأنَّ حامل البطاقة عندما يُقدِّم البطاقة للتاجر يتسلَّم الذهب، ويُوقِّع على القسيمة، لا يدفع الثمنَ للتاجر، والذي يدفع الثمنَ للتاجر هو بنكُ التاجر، أو البنك المصدِر للبطاقة عندما يُقدِّم التاجر إليهما القسيمة بعدَ فترة يتَّفق عليها، وهذه الفترة في حالة بنك التاجر تَصِل إلى ثلاثة أيَّام مِن تسلُّمه قسيمة البيع.
وهذا مختلِف عمَّا جاء في فتوى بيت التمويل الكويتي مِن أنَّ القسيمة تُصرَف فورًا حالَ تقديمها إلى بنك التاجر.
وحتى لو صحَّ ما في الفتوى مِن أنَّ بنك التاجر يدفع ثمنَ الذهب فورًا عندما تُقدَّم إليه القسيمة، فإنَّ شرْط التقابض في المجلس لا يكون متحقِّقًا؛ لأنَّ المجلس الذي يجب أن يتحقَّق فيه التقابض، هو مجلس الشراء الذي يتمُّ بين حامل البطاقة والتاجر الذي يَبيع الذهب، وليس مجلسَ تقديم القسيمة لبنك التاجر.
وقياس بطاقة الائتمان على الشيك؛ لأنَّ كلاًّ منهما أداةُ وفاء، قياس مع الفارق، والفارق: هو أنَّ الشيك أداةُ وفاء في الحال، فيكون قبضُه حُكميًّا لمحتواه، وبطاقة الائتمان أداة وفاء في المآل؛ لأنَّ التاجر لا يستطيع أن يحصُلَ على ثمن الذهب الذي اشتري بها إلا بعدَ فترة من الزمن، وهذا هو المأخذُ الشرعي".
وجه مَن قال: يصحُّ شراء الذهب ببطاقة الائتمان مطلقًا:
استدلَّ الشيخ يوسف الشبيلي لصحَّة الشراء بالبطاقة الائتمانية بما يلي:
1- أنَّ فواتير البطاقة الائتمانية تُعتبر واجبةَ الدفع مِن قِبل البنك المصدِر، ولا يتوقَّف ذلك على وجودِ رصيد للعميل لدَى البنك من عدمه، ولا على الوفاءِ الفِعلي من قِبل العميل، فالفاتورة تُعتبَر ملزمة، وحتمية في حقِّ البنك.
والشرط الأساسي فيها هو تثبُّتُ البائع مِن شخصية العميل، ومطابقتها للمدوَّن في البطاقة، ومطابقة توقيعه على القَسيمة، وتوقيعه على البطاقة، والتأكُّد مِن سريان صلاحيةِ البطاقة، فإنْ تثبَّت من هذه الأشياء، فالفاتورة تُعتبَر مُلْزِمةً للبنك، وواجبةَ الدفع، حتى ولو لم يكن البائعُ قد حصَل على تفويض خاصٍّ بهذه العملية مِن البنك إذا كان ذلك ضِمنَ الحدود المتَّفق عليها.
وعلى هذا، فالفاتورة ليستْ مُجرَّد شيك، بل هي في قوَّة الشيك المصدق، أو الشيك المحرَّر مِن البنك؛ لذا فالقبضُ في البطاقة الائتمانية يَنبغي أن يُلحَق بالقبض بواسطة الشيك المصدق، أو الشيك المحرَّر مِن قبل البنك، وقد ذهَب عامَّةُ الباحثين المعاصرين - كما تقدَّم - إلى أنَّ الشيك إذا كان مصدقًا، أو محرَّرًا من قِبل البنك، فإنَّه يقوم مقامَ قبض محتواه.
2- ولأنَّ البطاقة الائتمانية أصبَح لها مِن القَبول عندَ الناس ما يُضاهي أو يفوق الأوراقَ النقدية والتجارية، والقبض يستند في كثيرٍ من أحكامه إلى العُرْف، فمَن يلزم الناس بشكلٍ معيَّنٍ من أشكال القبض، فعليه الدليل، فإنْ تعلَّل بأن العُرْف قاضٍ بعدم اعتباره، فهذا بحسب عِلْمه واطلاعه، وإلا فإنَّ العالَم برُمَّته يتَّجه إلى عصر اللانقد، والبائع يُفضِّل - بلا تردُّد - قبضَ الثمن عن طريقِ البطاقة على قبضه نقدًا؛ لكونه أحوطَ وأضبط، وأضمنَ وأسلم، وأحفظَ لماله، وليس أَدَلُّ على ذلك مِن الكم الهائل بعدد الصَّفقات التي تجرى سنويًّا بالبطاقات الائتمانية، التي تتجاوز تريليونات الدولارات، فدعوَى أنَّ العُرف جارٍ بعدم قَبولها دعوى مردودة، وغير سائغة، بل وحتَّى في البلاد الإسلاميَّة بدأتْ هذه البطاقات تكتسح الساحة، وتستحوذ على النصيب الأكبر مِن قيمة الصفقات.
ولا شكَّ أنَّ مَصدَر هذا القَبول هو الضمانُ البنكي لأيِّ قِيمة يتم الشراء بها وَفقَ الشروط والضوابط المتَّفق عليها، فالبائِع سواء كان بنكًا أم غيره، حين يقبض القسيمة، فقدْ عدَّ نفسه قابضًا للقِيمة، ولا يكترث لعمليةِ صرْف هذه القسيمة أو تحويلها لحسابه، ولا يخشَى مِن عدم قَبولها لدَى البنك المصدِر، حتى إنَّ مِن الشروط المتفق عليها أنَّ البطاقة لو فُقِدت أو سُرِقت، واستخدمها غيرُ صاحبها الشرعي، فالبائع لا يتحمَّل تبعةً لهذا الاستخدام، وحقُّه ثابت له في محلِّه، حتى ولو ثبَت أنَّ مستخدمها غيرُ صاحبها ما دام قد قام بالواجِب عليه؛ وإنما الذي يتحمَّل التبعةَ هو البنك المصدِر إذا تمَّت الصفقة بعدَ إخطاره بضياع البطاقة، وأمَّا قبل الإخطار فالذي يتحمَّل العميل؛ لأنَّه قد فرَّط بعدم التبليغ.
3- وجود الأجَل في صرْف قسيمة البيع لا يُؤثِّر في الحُكم؛ لأنَّنا إذا اعتبرْنا قبض القسيمة كقبض المحتوى، فلا فرْق بين أن يتمَّ الصرف آنيًّا، أو بعدَ حين؛ لأنَّنا نعتبر أنَّ القبض قد تمَّ باستلام قسيمة البيع، فالشرط هو أن يتمَّ تحرير القسيمة حالَّة، وأما صرف قِيمتها فلا فرْقَ بيْن أن يكون آنيًّا أو مؤجَّلاً؛ لأنَّ هذا الاعتراضَ واردٌ على كلا الحالين، ففي الأولى ينتفي التقابُض، وفي الثانية ينتفي الحلول؛ ولذا فإنَّ مِن التناقض ما ذهب إليه بعضُهم من التفرقة بين البطاقات التي يشترط مُصدِرها مهلةً لتأمين تغطية قِيمة القسيمة، والبطاقات التي لا يَشترط مصدرها ذلك، فإمَّا الإباحة في الجميع، وهو الصحيح، أو المنع في الجميع.
ومِثل هذا الاعتراض يَرِدُ على الشيك المصدق، فمَن أوْجب على قابضه أن يصرفَه حالاًّ، لزِم على قوله أن يَنتفي القبضُ في المجلس حتَّى مع الحلول، وإلا كان تناقضًا.
والتأجيل قد يكون ملازمًا للشيك، ولو كان مصدقًا أو محرَّرًا مِن قِبل البنك، في كثيرٍ من الأحيان، فعَلى سبيلِ المثال: لو حُرِّر الشيك بعدَ ساعَة إقْفال البنك، أو في نهايةِ الأسبوع، أو في بلد لا يوجد فيها فرْع للبنك المسحوب عليه، أو تماهَل التاجرُ في صرْف الشيك، أو كان التاجر يتعامل مع غير البنك المسحوبِ عليه، ورغب في إيداعِ الشيك في حسابِه (إذ المقاصة بيْن البنوك تستلزم عِدَّةَ أيام).
وقد اعتبر كلٌّ مِن مجلسي مجمع الفقه التابع للرابطة، ومجمع الفقه التابع للمنظَّمة: أنَّ قبض الشيك في الحوالات المصرفيَّة يقوم مقامَ قبضِ محتواه، مع أنَّ صرف الشيكات في الحوالات يستلزم وجودَ أجَل لانتقال المستفيد إلى البلد الذي يرغَب في تحويل النقْد إليه.
4- وقد يرِدُ على الشراء بالبطاقة الائتمانية أنَّ حاملَ البطاقة قد يشتري وليس لديه رصيدٌ لدَى البنك المسحوب عليه، فيكون تحريرُه للقسيمة بلا رصيد.
ويجاب عن ذلك:
بأنَّ المقصود مِن قبض البائع هو تسلُّمه للقِيمة، سواء كان الدافعُ هو المشتريَ أو غيرَه، فلو أنَّ شخصًا اشترى ذهبًا، وسدَّد عنه القِيمةَ في مجلس الشراء شخصٌ آخر، صحَّ الصرْف؛ لوجود التقابض.
قال الشافعي: "مَن صَرَف مِن رجل دراهم بدنانير، فعجزتِ الدراهم، فتسلَّف منه دراهم فأتمَّه جميعَ صرْفه، فلا بأس".
فما دام البنك المصدِر ملتزمًا بتسديدِ قِيمة الفاتورة للبائع، فتوقيع العميل على القَسيمة يقوم مقامَ مباشرته التسليم.
والموجب لهذا البسطِ هو توجُّهُ كثير مِن هيئات الفتوى إلى تحريمِ إجراء العقود التي يُشترطُ لها التقابُضُ بالبطاقة الائتمانية، ومِن ذلك شراء الأسهم، أو الوَحْدات الاستثمارية التي مِن موجودتها نقود، والمُؤمَّل في هذه الهيئات أن تُراجِعَ فتواها تلك، فإنَّ التعامل بالبطاقات أصبحَ له مِن القَبول ما يفوق النقودَ الورقية في كثيرٍ من البلدان، والله أعلم"؛ اهـ، نقلناه بحروفه على طولِه؛ لقوَّته، وخشية أن يكون اختصارُه مفسدًا له.
وجه مَن اشترط أن تكون البطاقة الائتمانية مغطَّاة:
يرَى هذا الفريقُ أنَّ شراء الذهب ببطاقة الائتمان غير المغطاة؛ أي: التي لا تحتاج إلى رصيدٍ مِثل: الفيزا، أو المستركارد، أو أمريكان إكسبرس، فهذه لا يجوز شراءُ الذهب أو الفضَّة بها؛ لعدم تحقُّق القبْض في مجلس العقد، ولأنَّ البطاقة عندما تُمرَّر على الجهاز لا يُخصَم مِن رصيده، وإنما يحصُل التاجر على الموافقةِ للبيع، وهو ما يُعرَف بالخصمِ مِن السقف الائتماني، فليس هذا بقَبْض لا حقيقةً ولا حُكمًا، أمَّا القول: إنَّ وجودَ قسيمة الدفْع الموقَّعة مِن قِبل حامل البطاقة قبضٌ حُكمي، وإنَّ التاجر سيأخذ حقَّه، فهذا لا يعني الجواز؛ لأنَّ التاجر بهذه القَسيمة ضَمِنَ حقَّه فقط، ولم يقبضِ المال، إنما يقبضه بعدَ فترة، وضمان الحقِّ لا يعني القبض؛ لأنَّ زيدًا التاجر لو وثق مِن عمرو، فباعَه الذهب أو الفضَّة بالأجَل، لما جاز ذلك؛ لعدم تحقُّق القبض (قبض الثمن في المجلس)، حتى لو أنَّ عمرًا كتَب في ورقة أنَّ عليه لزيدٍ كذا، فحِينها سيأخذ زيدٌ حقَّه، سواء أكان عمرٌو حيًّا أم ميتًا، مع ذلك لم يصحَّ هذا البيع؛ لتأخُّرِ الثمن، فهذا تمامًا حاصلٌ في قسيمة الدفْع، ولو تأملنا حقيقةَ معاملة البطاقة غير المغطَّاة لوجدناها مبنيَّةٌ على الدَّيْن والكفالة، فحاملها إذا قبَض السلعة - كالذهب مثلاً - يصبح مَدينًا للتاجر، ثم يبرز البطاقة، وبذلك يُقدِّم كفيله للتاجر - وهو البنك المُصدِر، أو شركة الفيزا مثلاً - والتاجر يَثِق في هذه الجِهات، ويَقبل الكفالة أي: يَقْبل الدَّيْن أو الشراءَ إلى أجَل؛ لأنَّه يضمن الوفاءَ له، حينها نعلم تأخُّرَ قبض الثمن، وعدم تحقُّقه ولو حُكمًا؛ لأنَّ الشيء إذا كان ممَّا يُتناول باليد كالنقود والذهب، قبضُه يكون بتناوله باليدِ فورًا، وبالتالي لم يتحقَّقِ القبض الحُكْمي.
وقد تضمَّن قرارُ مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظَّمة المؤتمر الإسلامي، في قراره رقم: 108 (2/ 12) 2، بشأنِ موضوع بطاقات الائتمان، وفيه: "لا يجوز شراءُ الذهب والفِضَّة، وكذا العملات النقدية بالبطاقة غير المغطَّاة".
وعندي أنَّ هذا القول هو أضعفُ الأقوال الثلاثة؛ لأنَّنا إما أن نقبل بالقبض عن طريقِ البطاقة أو لا نقبل، أمَّا التفريق بين أن تكون البطاقة مغطَّاة أو غير مغطاة، فهذا لا تأثيرَ له في حقيقة القبض، فالبنك لم يكن مجرَّدَ كفيل في هذه المعاملة، بل هو كفيلٌ ووكيلٌ بالدفْع، وحسم المبلغ لمصلحة البائع لا يختلف بيْن أن يكون الرصيد مغطًّى أو غير مغطًّى، فالمبلغ يدخُل في رصيد البائع مباشرة، لكن الاختلاف في الرجوع، فإنْ كان للمشتري رصيدٌ كان الرجوع إلى رصيده، وإن لم يكن له رصيدٌ رجع البنك إلى المشتري نفسه، وطالبَه بالسداد، أمَّا البائع فهو قد استلَم حقَّه في الحالين مباشرةً عندَ مرور البطاقة على جهازِ البيع.
الراجح:
الذي أميل إليه أنَّ القبض ببطاقة الائتمان قبضٌ حُكمي صحيح لا يختلف عن القبض بالشيك المصدَّق، ولا عن القبض بالشيك المحرَّر من لدن المصرف، إن لم تكن أقوى منهما، وأنَّ البطاقة إذا كانتْ خالية من شروطٍ محرَّمة، فالبيع والشراء بها سائغ، وأنَّ قبض قسيمة الشراء يُعتبر قبضًا لما تحتويه، والله أعلم، وسوف نتناول - إن شاء الله تعالى - بشيءٍ من البسط أنواعَ البطاقات، وتاريخها، وتكييفها التكييف الشرعي في بابِ المعاملات المصرفية، بلَّغَنا الله ذلك بحوله وقوَّته، وإنَّما الذي حملَنا على بحثها هنا هو مسألة قبْض المبيع.
المبحث الثالث عشر: صرْف العملات عن طريق استخدام بطاقات الائتمان:
عرفْنا في البحث السابق حُكمَ شِراء الذهب والفضَّة عن طريق دفْع الثمن ببطاقات الائتمان، ونُريد أن نبحثَ في هذه المسألة حُكم ما إذا ترتَّب على الشراءِ صرفُ عملة بأخرى، وفي أحيانٍ كثيرة تكون عمليةُ الصرف مِن لازم الشراء، وإنْ لم يقصد المتعامل ببيعه وشرائه صرفَ نقود بأخرى؛ وذلك أنَّ البطاقة لمَّا كان لها صفة العالمية، وكان صاحبُها يستطيع أن يستخدمَها في معظم دول العالَم، فإذا اشترى سلعًا فإنَّ مُصدِر البطاقة يسدِّد عن حاملها فورًا بعملة البلد المستخدَمة فيه، ثم يعود على حاملها ليُسدِّد له بعملة أخرى، خلالَ مدَّة السماح المجَّانية، فهذه عمليةُ صرفٍ المقصودُ منها استيفاءُ ما وجب على المستفيد، وليس المقصودُ منها المعاوضة، فما حُكم هذه العملية؟
أمَّا مَن منَع شراء الذهب والفضَّة ببطاقة الائتمان، فقد منَع الصرف فيها، حيث لا فرْقَ عنده بيْن المسألتين.
وهناك مِن أهل العلم مَن أجاز المسألتين، فلم يفرِّق بينهما، وفي الحالين أدلَّتهم في هذه المسألة هي أدلَّتهم في مسألة بيع الذهب ببطاقة الائتمانِ وشرائه، وسبَق بحثُها في المسألة السابقة، فأغْنَى عن إعادته هنا.
وهناك فريقٌ ثالث مِن أهل العلم أجاز شراءَ الذهب والفضة ببطاقة الائتمان، كما أجاز السحبَ النقدي بالبطاقة، ولو لم يكن هناك تغطيةٌ في رصيده، إذا لم يتقاضَ المُصدِر فوائدَ أو عمولة على الاقتراض زائدةً عن النفقات الفِعلية لتقديمِ هذه الخدمة، ومنَع من الشراء بها سلعًا إذا ترتَّب على هذا الشراء صرفُ عملة بأخرى، وهذا القولُ هو الذي يعتبر فيه إضافة على المسألةِ السابقة، ونُريد في هذا المبحث أن نطَّلع على وجهة نظر مَن يرى هذا القول، ومقدار وجاهة هذا القول، ومِن هؤلاء الدكتور نزيه حماد.
وقد اعتمدَ في قوله على التحريمِ على ثلاثة محاذير:
المحذور الأول: في التأخُّرِ في قبْض بدل الصرف.
وذلك أنَّ مُصدِر البطاقة يُجري الصرفَ مع حاملها إلى العملة المحلية بمجرَّدِ سداده بالعملة الأخرى، ولا يُطالِب حاملَها ببدل الصَّرْف إلا عندَ إصدار الفاتورة لاحقًا، مع إعطائه مهلةَ سماح مجَّانية للسداد...
وهذا التراخي غيرُ جائز شرعًا في قولِ سائرِ أهل العلم؛ لأنَّه من ربا النسيئة (ربا البيوع)، الذي هو ذريعةٌ إلى ربا النسيئة (ربا الديون)، الذي هو صُلْب الربا وأساسه.
المحذور الثاني: في وقتِ سِعْر الصرف.
يقول الشيخ عبدالستار أبو غدة: "في حالاتٍ عديدة يقوم العميل حامل البطاقة باستخدامِ بطاقته لسدادِ قيمة مشتريات أو خِدمات تختلف عن عملةِ حساب البطاقة التي يتعامل بها مع البنك المُصدِر، وحيث إنِّ هذا الأخيرَ يدفع تلك المبالغَ لمستحقِّيها بالدولار عادة، فإنَّ تسويةَ المعاملة تحتاج إلى عمليةِ صرْف أو تحويل المستحقَّات مِن الدولار إلى العملة المحليَّة.
فبعضُ البنوك المُصدِرة تقوم بعملية الصرْف على أساسِ السعر المعلَن لديها في يومِ قيد قِيمة تلك المشتريات أو الخدمات على حسابِ العميل حاملِ البطاقة، أو بزيادة نِسبةٍ معلومة.
وبعضُ البنوك يعتمد سعرَ الصَّرْف السائد في التاريخ الذي تمَّ فيه سدادُ القيمة مِن جانب البنك نيابةً عن العميل حاملِ البطاقة.
وبعضها يعتمد سعرَ الصرف السائد في تاريخ استلامِ بيان المبالغ المستحقَّة من المنظَّمة العالمية".
مع أنَّ الواجب أن يُعتمد سعرُ الصرف في يومِ سداد المستفيد للقرْض الذي عليه، كما في حديثِ ابن عمر، قال رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((لا بأسَ أن تأخذها بسِعر يومِها ما لم تتفرَّقَا، وبينكما شيء)).
المحذور الثالث: اجتماع الصَّرْف والقرض.
يقول الشيخ عبدالله بن محمد العمراني: "عقْدُ الصرف نوعٌ من البيوع، فلا يجوز اجتماعُه مع القرض؛ لحديث: ((لا يَحِلُّ سلفٌ وبيع))؛ لئلاَّ يؤدي إلى المحاباة في سِعْر الصرف مِن أجْلِ القرض.
والواقع يدلُّ على أنَّ سعر الصرف في العمليات التي تَجري ببطاقة الائتمان أعْلَى مِن سعر الصرف السائد في ذلك الوقت في العمليات التي تَجري بدونها، وعلى هذا التركيبِ في هذه الحالة - فيما يظهر - يُؤدِّي إلى المنع؛ خروجًا مِن شُبهة الربا".
وأرى أنَّ هذا لا يدخُل في النهي عن سلَف وبيع؛ لأنَّ الأصل في بطاقة الائتمان القرضُ وحْده، وأمَّا الصرف فيأتي تبعًا، وهو مِن باب الاستيفاء، وليس مِن باب المعاوضة وطلَب الرِّبح؛ ولذلك نشترط أن يكونَ ذلك بسعر يوم الصَّرْف؛ حتى لا يكونَ هناك محاباةٌ في الصرف، ولو كان ذلك مِن باب سَلَف وبيع، لمَا صحَّ فعل ابن عمر، حيث كان يَبيع ويصارف، فهو يبيع الإبلَ بالدراهم، ثم عندَ الاستيفاء يأخذ الدنانير، فهو جمْع بين دَين وصرف وبيع.
فالبيع جاء مِن قول ابن عمر: "كنَّا نبيع الإبل..".
وأما الدَّيْن؛ فلأنَّ الثمن يبقى دَينًا في ذِمَّة المشتري؛ لأنَّه لو كان حالاًّ لما احتاج أن يبيعَ ابن عمر بالدراهم ويأخذ الدنانير؛ لأنَّه كان بالإمكان أن يبيعَ مباشرةً بالدنانير، ولا يحتاج إلى عمليةِ المصارفة، ما دام لن يربحَ فيها، ولكن ابن عمر كان يترُك الثمنَ دَينًا في ذِمَّة المشتري.
ولا فرْقَ بين أن يكونَ الدَّينُ جاء مِن قرض أو مِن بيع.
وأما الصرف؛ فلأنَّه إذا جاء وقتُ الاستيفاء، ولم يكن مع المشتري جنسُ الثمن المطلوب منه صارفه ليستوفيَ حقَّه، فكانتِ المصارفة هنا مِن باب الاستيفاء، وليستْ مِن باب المعاوضة؛ ولهذا كان هذا مشروطًا بحيث لا يربَح عليه، وأن يكون مقبوضًا في مجلسِ العقد.
وأمَّا مَن يرى جوازَ ذلك، فإنَّ عمدتَه في الجواز حديثُ ابن عمر، فقد رَوى أبو داود الطيالسي، قال: حدَّثَنا حمَّادُ بن سلمة، عن سِمَاك بن حرْب، عن سعيد بن جُبير، عن ابن عمر، قال: كنتُ أبيع الإبل بالبقيع، فأبيع بالدنانير، وآخُذ الدراهم، وأبيع بالدراهم، وآخذ الدنانير، فأتيتُ رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وهو يريد أن يَدخُل بيت حفصة، فقلت: يا رسولَ الله، إني أبيع الإبل بالبقيع، فأبيع بالدنانير، وآخُذ الدراهم، وأبيع بالدراهم، وآخُذ الدنانير، فقال رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((لا بأسَ أن تأخذَها بسِعر يومها ما لم تتفرَّقَا، وبينكما شيء))؛ [اختُلف في رفْعه ووقفه، ورجَّح شُعبةُ والدارقطني وقْفَه].
فالمطلوب في صرْف ما وجَب في الذمَّة أمران:
الأول: أن يتمَّ التقابضُ في المجلس، بحيث لا يتفرَّقَا وبينهما شيء.
الثاني: ألاَّ يربح في عملية الصرْف؛ لأنَّ المراد مِن الصرف هو الاستيفاء، وليس المعاوضة، وحتى لا يربح فيما لم يَضمن؛ فقد روى أبو داود الطيالسي من طريق حمَّاد بن زيد، عن أيوبَ، عن عمرو بن شُعَيب، عن أبيه، عن عبدالله بن عمرو، قال: "نَهى رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - عن سَلَف وبيع، وعن شَرْطين في بيع، وعن بيعِ ما ليس عندَك، وعن رِبْح ما لم يضمن"؛ إسناده حسن، وسبَق تخريجه.
فإذا عُلِم هذا، فإنَّ تنزيلَ مسألة الصرْف في بطاقة الائتمان على حديثِ ابن عمر، لا يخلو مِن حالين:
يقول الدكتور عبدالله السعيدي:
"الأول: أن يكون للعميلِ رصيدٌ في البنك يقابل مصروفاتِه.
والثاني: ألاَّ يكونَ له رصيدٌ في البنك يقابل مصروفاتِه.
فإنْ كان الأول، فإنَّ سعر الصرف الذي يَنبغي الاعتبارُ به: هو سعره يومَ أداء البنك للطرَف الثالث (المستفيد)؛ إذ هو اليوم الذي قامتْ فيه الحاجةُ إلى المصارفة، فكان الاعتبارُ بسِعْره؛ لحديث ابن عمرَ السابق.
وإنْ كان الثاني، وهو أنَّ العميلَ ليس له رصيدٌ يقابل مصروفاتِه، والفرْض أنَّ المصرف قام بالأداءِ عنه، فإنَّ المصرف حينئذٍ يكون مقرضًا له، فإذا استدعَى الأمر المصارفةَ فإنَّ سعرَ الصرف الذي يَنبغي الاعتبارُ به: هو سعرُه يوم أداء العميل للبنك؛ إذ هو اليوم الذي قامتْ فيه الحاجةُ إلى المصارفة، فكان الاعتبارُ بسعره؛ عملاً بحديثِ ابن عمر المتقدِّم".
وفي الحالين لا يُعتبر هناك عمليةُ تأخُّرِ في قبْض بدل الصَّرْف؛ لأنَّه في الحال الأولى يكون لدَى البنك رصيدٌ للعميل، فهو في ذِمَّته مال للمستفيد، وما في الذِّمة في حُكم المقبوض.
وفي الحال الثانية لم تَجرِ عمليةُ الصرف إلا عندَ حضور المستفيد ليؤدِّيَ ما وجَب عليه في ذِمَّته من قرْض للبنك أو لمُصدِر البطاقة؛ وبالتالي تكون عمليةُ الصرف قد تمَّت في حضورِه مع حصولِ القبض الحقيقي الواجب شرعًا، فليس في المسألة عمليةُ تأخير.
فإنْ كان واقع الحال كما ذَكره الدكتور عبدالله السعيدي، فالقول بالجواز مُتَّجه؛ لأنَّه لا محذورَ شرعًا في عمليةِ الصَّرْف، والله أعلم.
وإنْ كان واقعُ الحال غيرَ ما ذكره الدكتور، فلا مانعَ مِن اشتراط ذلك بين مُصدِر البطاقة والمستفيد، والأمر ليس صعبًا، خاصَّة أنَّ الشيخ عبدالستار أبو غدة نقَل اختلافَ التعامل بين بطاقة وأخرى - كما نقلْناه عنه - فلا مانعَ مِن اشتراط ذلك، وأنْ يتولَّى بنك المستفيد وضْعَ هذا الشرط ضمنَ العقد، ولن يتضرَّر أحدٌ منهما.
وقد صدَرتْ فتوى في شأنِ هذه المسألة في نَدوة البركة الثانية عشرة، وقد جاء نصُّها:
"يجوز اتِّفاق البنك المُصدِر مع حاملِ البطاقة على تحويلِ قِيمة المبالغ المستحقَّة، باستخدامِ السِّعْر المعلَن لدَى البنك يومَ إجراء قيد العملية لصالح التاجر (يوم السداد)، وذلك بالحسْمِ مِن حساب حاملِ البطاقة إنْ كان فيه رصيد، أو بإقراضِ البنك له بدون فوائدَ، بإضافة المبلغ إلى حسابِه المكشوف، ثم الحَسْم منه إنْ كان البنك قد وافق على إقراضه في هذه الحالة، ويعتبر شرطُ التقابُضِ متوفرًا، وهو مِن قبيل القبض الحُكْمي؛ لأنَّ هذا صرف ما في الذِّمة، وهو جائزٌ عندَ جمهور العلماء".
المبحث الرابع عشر: في الدخول في العقد الرِّبوي لمن ينوي أن يدفع في الوقت:
لو تضمَّن عقدُ إصدار البطاقة نصًّا ربويًّا، فهل يجوز الدخولُ في العقد لمَن ينوي أن يدفعَ في الوقت، ولا يضطر إلى الوقوع في الرِّبا؟
هذه المسألة ترجِعُ إلى مسألةٍ سابقة، وهي هل عقْدُ الرِّبا عقد باطل، أو عقد فاسد يمكن تَصحيحُه؟
فمَن قال: إنَّه عقد باطل، فلا يرى جوازَ الدخول فيه؛ لأنَّ العقود الباطلة لا يمكن تصحيحُها بحالٍ.
ومَن رأى أنَّه عقد فاسد، رأى أنَّ بالإمكان تصحيحَ العقد، ومِن تصحيح العقد أن يَدفعَ المستحقَّاتِ في الوقت، ولا يضطر إلى الوقوع في الرِّبا، ومِن تصحيحه أيضًا إسقاطُ الزيادة الرِّبوية، وهذا مذهب الحنفيَّة مطلقًا في عقود الربا، سواء كان ناتجًا عن بيع أو قرْض، ووافَقَهم الحنابلةُ في القرض خاصَّة.
دليل هذا القول:
الدليل الأول:
أنَّ بيع الرِّبا من العقودِ الفاسِدة عند الحنفية؛ وذلك لأنَّ الخلَل لم يتطرَّق إلى رُكن البيع، فالبيع جائزٌ بأصله من حيثُ إنه بيع، وإنما مُنِع مِن أجل وصفِه من حيث كونُه رِبًا؛ لاشتماله على زيادة محرَّمة، فعلى هذا يسقطُ الربا ويصحُّ البيع؛ لأنَّ الحُكم يدور مع عِلَّته وجودًا وعدمًا، فإذا فسَد لوجود هذا المفسِد، فينبغي أن يَصِحَّ إذا زال المفسِد، والله أعلم.
جاء في "الدر المختار": "القرْض لا يتعلَّق بالجائزِ مِن الشروط، فالفاسدُ منها لا يُبطله".
وجاءَ في شرْح "منتهى الإرادات": "ولا يَفسُد القرْض بفساد الشروط".
الدليل الثاني:
يُستدلُّ لهم أيضًا بما رواه البخاريُّ من طريقِ هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: جاءتْ بريرة، فقالت: إنِّي كاتبتُ أهلي على تِسع أواقٍ، في كلِّ عام أوقية، فأعينيني، فقالتْ عائشة: إنْ أحبَّ أهلُكِ أن أعُدَّها لهم عدةً واحدة، وأعتقكِ فعلتُ، ويكون ولاؤكِ لي، فذهبتْ إلى أهلها فأبَوْا ذلك عليها....
فسَمِع بذلك رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فسألني، فأخبرتُه، فقال: ((خُذيها، فأعتقيها، واشترطِي لهم الولاء، فإنَّما الولاءُ لمَن أعتق))، قالت: عائشة، فقام رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - في الناس، فحَمِد الله، وأثْنَى عليه، ثم قال: ((أمَّا بعد، ما بال رجال منكم يشترطون شروطًا ليستْ في كتابِ الله، فأيما شَرْط ليس في كتابِ الله فهو باطِل، وإنْ كان مائةَ شرْط، فقضاءُ الله أحق، وشَرْط الله أوثق...)).
وفي روايةٍ للبخاري ومسلِم، من طريقِ نافع، عن ابن عمر، وفيه: ((لا يَمنعكِ ذلك، فإنَّما الولاء لمَن أعتق)).
وجه الاستدلال:
أنَّ شرْط الولاء للبائع لا يجوز في العقْد، ومع ذلك فإنَّ اشتراطه لا يمنع المشتري مِن الشراء ما دام أنَّ هذا الشرط باطل، وهذا كافٍ في الاستدلالِ به في المسألة التي معنا، فإنَّ المشترطَ هنا هو مُصدِر البطاقة، وليس حاملَها.
وقد ذهَب إلى جوازِ الدخول في عقْد الائتمان، إذا كان الرجلُ يعلم من نفْسِه أنَّه يُسدِّد في المهلة المحددة، فضيلةُ الشيخ محمد تقي العثماني، وبهذا يقول: "نرى في كثيرٍ من المعاملات أنَّ مِثل هذه الغرامة يحملها رجلٌ مسلِم، والمعاملة في أصلها ليستْ رِبوية، فقد رأيتُ في كثيرٍ مِن البلاد أنَّ شركة الكهرباء - مثلاً - تَفرِض على مستهلك الكهرباء أنه إذا لم يُسدِّد فواتيرَ الكهرباء في مدَّة محدَّدة فإنه يحمل غرامة، فهل نستطيع أن نقول: إنَّ شراء هذه الكهرباء بسببِ هذا الشرْط حرام؟ لا نستطيع أن نقول: إنَّ الدخول في هذه العملية حرامٌ مِن أجل أنَّ شركة الكهرباء تَفرِض غرامةً في صورة عدم التسديد، فكذلك هنا إذا فَرضتِ الشركة المُصدِرة على حامل البطاقة أنه إن لم يُسدِّدْ في خلال تلك المدة فإنَّه يُفرَض عليه غرامة، فبمجرَّد هذا الشرط لا يُقال: إنها عمليةٌ محرَّمة لا يجوز الدخولُ فيها لمسلم، فإذا كان مِن نِيَّتي وعزمي الصادق أنِّي سوف أُؤدِّي هذا المبلغَ في خلال المدة، فإنَّه يَحِلُّ لي شرعًا أن أدخُلَ هذه العملية، فإنَّ العقد أصله ليس عقدًا رِبويًّا، وإنما جاءتِ الغرامة لعارضِ التأخير في السداد مِن غير أن يكونَ لحاملِ البطاقة أيُّ خيار، فأظنُّ أنَّ هذا ليس مانعًا شرعيًّا من الدخول في هذه المعاملة، ومِن الحصول على هذه البطاقة".
وأجيب:
بأنَّ الاستدلالَ بحديثِ بَريرَةَ هو قياسٌ مع الفارق، فالشَّرْط في شراء بَريرة شرْطٌ باطل، والمشتري يستطيع أن يُبطلَه؛ لأنَّ التحاكم بين المتنازعين سيكون إلى الشريعة، بينما الشَّرْط في البطاقة الائتمانيَّة الرِّبويَّة لا يستطيع أحدٌ أن يبطله، ولا يستطيع أن يمتنِعَ حاملُ البطاقة عن دفْع الفوائد إذا ما تأخَّر عن السداد في الموعِد المحدَّد، وسيكون التحاكُمُ عندَ التنازع إلى القوانين الوضعية والمحاكم التجاريَّة الملزِمة، وغير الملتزِمة بالأحكام الشرعيَّة، والركون إلى أنَّه مستعدٌّ للدَّفْع بالوقت اللازم، ولن يضطرَّ إلى دفْع الفوائد والغرامات - هذا أمر لا يُمكن القطعُ به؛ لأنَّه أمرٌ متعلِّق بالمستقبل، ولا يَدري الإنسانُ ما يطرقه فيه.
الدليل الثالث:
استدلَّ لهم بعضُ العلماء المعاصرين بأنَّ عقود الائتمان ليستْ من عقود المعاوضات، وقد نصَّ بعضُ العلماء على أنَّ العقد إذا كان من التبرُّعات كالهبة، والقرْض، أو مِن الإطلاقات كالكَفالة والحَوَالة، والوكالة، أو مِن التقييدات كالحجر، أو مِن الإسقاطات كالطلاق والعِتق، ففي هذه التصرُّفاتِ إذا اقترن العقدُ بشرْط فاسد صحَّ العقد ولُغِي الشرْطُ مطلقًا، بخلاف عقودِ المعاوضات المالية التي لم يرضَ المتعاقد فيها بمبادلةِ مالِه بمال الآخَرِ، إلا بناءً على قَبول هذا الشَّرْط، فإذا فاتَ عليه هذا الشرْطُ لفساده كان غيرَ راضٍ بالمبادلة، فيفسد العقد؛ لأنَّ مِن أهم شروطه التراضيَ بين المتعاقدين؛ قال - تعالى -: ﴿ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ ﴾ [النساء: 29]؛ ولهذا اختَلَف حُكم الغَرر في عقود المعاوضات عنه في العقود الأخرى، فلا يُؤثِّر وجودُ الغرر في عقود التبرُّعات للسببِ نفسِه.
ويناقش:
بأنَّ عقود الائتمان تؤول إلى المعاوضة، فإنَّ فيها قرْضًا، أو وعدًا بالقَرْض، والقرض وإنْ كان تبرعًا في الابتداءِ إلا أنَّه معاوضةٌ في الانتهاء، والله أعلم.
وقيل: يجب ردُّه إلا إنْ فات، فيَجِب فيه القِيمة دون الثمن المسمَّى لفسادِه، وهذا مذهبُ المالكية.
ووجهه: قال ابنُ رشد في "بداية المجتهد": "مالكٌ يرى أنَّ النهي في هذه الأمور إنما هو لمكانِ عدم العدْل فيها - أعني: بيوع الربا والغَرر - فإذا فاتتِ السلعة فالعدلُ فيها هو الرجوعُ بالقِيمة؛ لأنَّه قد تُقبَض السِّلْعة وهي تساوي ألفًا، وتُردُّ وهي تساوي خمسمائة، أو بالعكس؛ ولذلك يرى مالكٌ حَوَالة الأسواق فوتًا في المبيع الفاسِد".
وأمَّا الشافعية، ورواية ابن وهْب عن مالك، فإنَّهم يُبطلون العقدَ مطلقًا، ولا يُصحِّحونه، ولا يُفرِّقون بين الفاسد والباطل في وجوبِ الردِّ.
المبحث الخامس عشر: في أضرار البطاقة:
للبطاقة أضرار اقتصادية كثيرة، منها:
الأول: الوقوعُ في مشاكلَ اقتصاديةٍ كبيرة؛ نتيجةَ منح الائتمان لأشخاصٍ غير مؤهَّلين ائتمانيًّا؛ وذلك نيتجة دخولِ المصارف فيما بينها على التنافُسِ المحموم في كسْب العملاء، وذلك بتقديمِ التسهيلات والإغراءات بأساليبَ مغرية جدًّا تقوم بتسهيلِ الحصول على البطاقة مِن خلال إيصالها إلى العميل في منزلِه أو في مقرِّ عمله، بأقلِّ قدْر مِن الشروط؛ لكسْبِ أكبرِ شريحة مِن الشباب، وتقديم فُرَص ائتمان تصِل إلى أضعافِ دخْل هؤلاء الشباب، وتقديمُ الائتمان لأشخاصٍ غير مؤهَّلين ائتمانيًّا له ضررٌ مزدوج على المصارِف وعلى الأفراد:
أمَّا ضرره على المصارف، فإنَّ مِثل هذا قد يُوقِع البنوكَ في الديون المعدومة، وهذا له أضرارٌ اقتصادية جَمَّة.
وأمَّا ضرره على الأفراد، فإنَّ هؤلاء الشباب مع تواضُع دخْلهم، وقِلَّة خِبرتهم، وانعدام الثقافة المصرفيَّة لديهم، وقِلَّة الوعي بحقيقة البطاقات الائتمانية، وجهلهم بالفوائدِ والغرامات المترتِّبة عليها، كل ذلك ممَّا يُفاقِم المشاكل، فالشبابُ لا يعرف كيف يُرتِّب أوضاعَه المالية، ولا يعرف كيف يسيطر عليها، وإذا وجَد أنَّ بإمكانه الشراءَ لوجودِ الائتمان، فإنَّه يشتري ما يحتاجه وما لا يحتاجه دونَ أن يُدرِكَ أنَّ هذه المبالغَ الإضافية التي أُضيفت إلى دخْله هي على شكل قروض عالية الفوائد، ولا يُدرك هذا إلا بعدَ أن تأتيَه الفاتورة مِن البنك، وبعد أن يقَع الفأس في الرأس، وقِلَّةٌ مِن الناس مَن يستخدم هذه البطاقاتِ للحالات الحَرِجة فقط.
الثاني: الدخول في دوَّامة الديون، ممَّا يَستنزِفُ دخْلَ الأسرة، ويضطرُّها إلى التقشُّفِ في الأمور المعيشيَّة الضروريَّة.
فلا أحدَ يستفيد مِن إغراقِ المجتمع كافَّة بديون استنْزافية تأتي على مدَّخَرات ربِّ الأسرة؛ ليكونَ ذلك على حسابِ دخْل الأسرة وحاجاتها ورفاهيتها، وأنْ تكون الأُسرةُ كلُّها من ربِّ الأسرة إلى أصغرِ فردٍ فيها مرهونين لهذه الديون، ولوقتٍ طويل جدًّا، ليجد ربُّ الأُسرة أنَّ راتبَه يتبخَّر على شكل أقساط: قِسط للبيت، وآخَر للسيارة، وقِسط ثالث للأثاث؛ ليكونَ ذلك على حسابِ نفقات الأسرة الضروريَّة المعيشيَّة.
ولقد وصَف مشاركون في استطلاعٍ أجْرَتْه صحيفةُ (الاتحاد الإماراتية) في عددها الصادر يوم السبت 7/ 4/ 2007م البطاقاتِ الائتمانيةَ بأنها أسرعُ الطرق للسقوطِ في دوَّامة الديون التي يغرق فيها يوميًّا المئاتُ، بل الآلاف! ويعجزون عن الخروجِ منها، مطالبين المصرفَ المركزي والجِهات المعنية بتنظيمِ العمل في القطاع المصرفي بالدولة، بالرقابة على البنوك فيما يخصُّ العروضَ المغرية التي تُقدِّمها للعملاء للحصولِ على بطاقات ائتمانية، خاصَّة الشباب الذين ما زالوا في بدايةِ حياتهم.
"إنَّ الأخبارَ الصادرةَ من شركة "فيزا" العالمية تُشير إلى أن متوسِّط إنفاق حاملِ البطاقة المُصدَرة من السعودية يبلغ (3000) دولار، وهو يَزيد قُرابةَ الضِّعْف عن المتوسط العالمي البالغ (1600) دولار، كما تُشير الأخبارُ إلى أنَّ السوق السعودية تستحوذ على أكثرَ مِن ثُلُث البطاقات التي أصدرتْها شركة "فيزا" في الشرق الأوسط، ويمكن أن نتوقَّع الحال نفسها في الأنواع الأخرى مِن بطاقات الائتمان".
"وفي تقريرٍ للتطوُّرات الاقتصادية صَدَر عن مؤسَّسة النقد (ساما)، يذكُر أنَّ قروض البطاقاتِ الائتمانية استمرَّتْ في الارتفاع خلالَ عام 2006م مِن 4.6 مليَّارات في الرُّبُع الأول، إلى 5.5 مليارات ريال في الرُّبُع الثاني، ثم إلى 6.7 مليارات في الربع الثالث، وصولاً إلى 7.3 مليارات ريال في الرُّبُع الأخير؛ أي: بزيادة 600 مليون ريال عن سابقه".
فإذا عَلِمْنا أنَّ 70% مِن التركيبة السكَّانية للمجتمع السعودي تقَع في الفئة العمرية أقل مِن ثلاثين عامًا، وهذه الشريحةُ هي المستهدَفة مِن هذه البنوك؛ لكثرةِ احتياجاتها للائتمانِ؛ نتيجةَ قِلَّة الدخْل، وقِلَّة الخِبرة، وانعدام الوعي المصرفي - إذا عَلِمْنا هذا أدركْنا حجمَ المشكلة التي نحن مُقبِلون عليها إنْ لم يُتداركِ الوضع من مؤسَّسة النقد، بوضْع القيود على مِثل تلك البطاقات للحدِّ مِن إصدارها، حيث يتطلَّب إصدارُها ملاءةً معيَّنة وسِنًّا معينة، وذلك مِن خلال مراجعةِ دخْله، وكشْف حسابه لمدَّة سَنَة كاملة؛ ليتضِحَ بذلك قدرتُه على التعامل مع تلك البطاقة، كما أنَّ الإعلام مطالَبٌ بلعب دَور مهمٍّ جدًّا في توعية الناس وترشيدهم في الإنفاق، وعدم بثِّ الدعايات لبطاقات الائتمان مِن خلال وسائلِ الإعلام، أو على الأقل عَمَل دعايات مضادة تُبيِّن خطورةَ مِثل هذه البطاقات.
ويجب أخْذ الاعتبارمن تَجارِب الأمم ممَّن حولنا؛ لتجنُّبِ أوضاع مماثلة نحن مُقدِمون عليها، "ففي تقرير اقتصادي وصَفت صحيفةُ الفاينينشال تايمز اللندنية مديوني البطاقات بـ (عبيد البطاقات الائتمانية)، وذلك خلالَ أزْمة البطاقات الائتمانية في تايوان، التي تَسبَّبتْ في إفقار الشعب، وهدَّدت النظام المصرفي التايواني بالانهيار جرَّاءَ التساهل في الإقراض؛ ممَّا حدَا بالحكومة إلى التدخُّلِ لمعالجة الأزمة بحلولٍ جذرية وعاجلة، ومنها إعادة دفْع القرْض الأصلي فقط، إذا ما وصل عبءُ الفائدة إلى ضِعْف مبلغ القرْض الأصلي".
وإنَّ ربَّ الأسرة - خاصَّة إذا كان مِن أصاحب الدخول البسيطة - مُطالَبٌ أن يكون إنفاقُه بحجم دخْله وراتبه الشهري، وأن يكون البديلُ للائتمان المصرفي أن يتَّفق مع المحل التجاري القريب مِن المنزل أن يَفْتَح له حسابًا، بحيث يشتري منه ويُسجِّل على الحساب إلى حين استلامِ الراتب؛ ليكونَ ذلك بلا فوائد، وإذا بلَغ الدَّين مبلغًا معينًا أوقَف صاحبُ المحلِّ الدَّيْن إلى حين السداد.
الثالث: أنَّ هذه البطاقات المنتشِرة اليوم تُعتبَر من أكبرِ الأسباب في توجيهِ الديون إلى الحاجاتِ الاستهلاكيَّة غير الإنتاجيَّة، والتوسُّع فيها بسببِ وجود هذه التسهيلات، بدلاً مِن صرفها على المجالات الاستثماريَّة المفيدة للاقتصادِ والمجتمع.
الرابع: إمكانية تزويرِ البطاقة واستخدامها استخدامًا غيرَ قانوني يُوقِع المصارف في تكاليفَ باهظة، فقد نشَرَتْ جريدة الحياة اللندنية في يوم السبت الموافق 18/ 8/ 2007م أنَّ أربعةَ مصارفَ سعوديةٍ تعرَّضت لعمليةِ احتيالٍ على البطاقات الائتمانية المُصدَرة لعملائها إلى عددٍ مِن دول العالَم، أبرزها دول جنوب شرق آسيا، ما أدَّى إلى تكبُّدها خسائرَ تُقدَّر بنحو 32 مليون دولار حسب ما ذكرتْه الصحيفة، والله أعلم.
هذه إشارةٌ إلى بعضِ أضرارها الاقتصاديَّة على المجتمع والفرْد، وبهذا أختم البحثَ عن البطاقات الائتمانية، سائلاً المولى - عزَّ وجلَّ - أن أكونَ قد أسهمتُ مع غيري في كشْف ملابسات هذه المنظومة المتداخِلة مِن المعاملات المالية الوافِدة إلى مجتمعنا.