أرشيف المقالات

من أخطاء الجنائز

مدة قراءة المادة : 24 دقائق .
من أخطاء الجنائز
 
الحمدُ لله وحْدَه، والصلاة والسلام على من لا نبيَّ بعدَه، وعلى آله وصحْبه ومَن والاه.
 
أمَّا بعدُ:
فإذا مات الميِّت فإنَّه يجب على أقاربه خصوصًا، وعلى إخوانه المسلمين عمومًا، أن يلتزموا بشَرْع الله، وأن يقوموا بفِعل ما أوْجب الشرع عليهم فعله تُجاهه، وأن يحذروا مِن الميل والانحراف عن شَرْع الله، وذلك بارتِكاب مخالفات شرعيَّة منكَرة، وأخطاء فادِحة، ومِن هذه المخالَفات والأخطاء ما يأتي:
أولاً: عدم الإسراع في تجهيز الجنازة، وتأخير دفنها لغير ضرورة:
ففي ذلك مخالفةٌ لأمر النبي صلَّى الله عليه وسلَّم بالإسراع في تجهيزِ الجنازة؛ فعَن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: ((أسْرِعوا بالجنازة، فإنْ تكُ صالحةً فخير تقدِّمونها، وإن يكُ سِوى ذلك فشرٌّ تضعونه عن رِقابكم))[1].
 
قال ابن عثيمين - رحمه الله -:
"الإسراع في الجنازة يشمَل الإسراعَ في تجهيزها، والإسراع في تشييعها، والإسراع في دفْنها، وذلك أنَّ الميِّت إذا مات، فإمَّا أن يكون صالحًا، وإما أن يكون سِوى ذلك، فإنْ كان صالحًا فإنَّ حبْسَه حيلولة بينه وبين ما أعدَّه له الله مِن النعيم في قبره؛ لأنَّه ينتقل من الدُّنيا إلى خير منها، وإلى أفْضل؛ لأنَّه حين احتضاره ومنازعته الموت يُبشَّر، يقال لرُوحه: أبشري برحمةٍ مِن الله ورضوان، فيشتاق لهذه البُشرى، فيجب أن يتعجَّل، وأن يعجل به، فإذا حبس كان في هذا شيءٌ مِن الجناية عليه والحيلولة بيْنه وبين ما أعدَّه الله له مِن النعيم، وإنْ كان غيرَ صالح - والعياذ بالله - فإنَّه لا ينبغي أن يكون بينَنا، ويَنبغي أن نسارِع بالتخلُّص منه؛ ولهذا قال النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم: ((أسْرِعوا بالجنازة))، أسرعوا بها في تجهيزها وتشييعها ودفْنها، لا تؤخِّروها، ((فإنْ تكُ صالحةً فخير تقدِّمونها إليه))؛ يعني: خير ممَّا انتقلت منه تقدِّمونها إليه؛ لأنَّها تقدم - جعلنا الله وإيَّاكم منهم - إلى رحمة الله ونعيم وسرور ونور، فتقدمونها إلى خير، ((وإن تكُ سوى ذلك))؛ يعني: ليست صالحة ((فشرٌّ تضعونه عن رِقابكم)) تسلمون منه؛ لأنَّ ما لا خيرَ فيه لا خير في بقائه.
 
إذًا يُستفاد من هذا الحديث أنَّه يُسنُّ الإسراع بالجنازة وألا تؤخَّر، وما يفعله بعضُ الناس اليوم إذا مات الميِّت، قالوا: انتظروا حتى يقدم أهله من كل فجٍّ، وبعضهم ربما كان في أوربا أو في أمريكا، وربما طال ذلك يومًا أو يومين، فهذا جناية على الميِّت وعصيان لأمر الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم: ((أسْرِعوا بالجنازة))، أهله إذا جاؤوا وقد دُفِن يصلُّون على قبره، الأمْر واسعٌ والحمد لله، وهو إذا تأخَّر دفنُه حتى يأتوا ماذا ينفعه من ذلك؟
 
إنَّه لا ينفعه إلا الدعاءُ له بالصلاة عليه، وهذا حاصلٌ إذا صلوا عليه في قبرِه، ولا وجه لهذا الحبْس إطلاقًا، فإنْ قال قائل: أليس النبي صلَّى الله عليه وسلَّم ماتَ يوم الاثنين ولم يُدفن إلا ليلةَ الأربعاء"؟ قلنا: بلى، لكن الصحابة رضي الله عنهم أرادوا ألاَّ يَدفِنوا الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم حتى يُقيموا خليفةً على عباد الله بعدَه؛ لئلاَّ تخلوَ الأرض عن خليفة لله فيها، ولهذا لما تمَّت مبايعةُ أبي بكر رضي الله عنه دَفَنوا النبي صلَّى الله عليه وسلَّم وهذه عِلَّةٌ ظاهرة واضحة"[2].
 
ثانيًا: الرَّغْبة عن الصلاة على الجنازة، والتكاسُل عن اتباعها:
فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم: ((مَن شهِد الجنازة حتى يُصلِّي فله قيراط، ومَن شهِد حتى تُدفَن كان له قيراطان))، قيل: وما القِيراطان؟ قال: ((مثل الجبلين العظيمين))[3]، فمَن لم يصلِّ على الجنازة ولم يتبعْها إلى المقبرة، فقد فاته أجورٌ عظيمة، وخسِر حسناتٍ كثيرة.
 
إضافة إلى أنَّ اتباع الجنازة حقٌّ من حقوق المسلم على أخيه المسلِم، فمن لم يصلِّ على جنازة أخيه المسلِم، ومَن لم يتبعْها مع استطاعته وقُدرته؛ فقد ترَك واجبًا من الواجبات الشرعيَّة التي تجب عليه نحوَ أخيه المسلم.
 
ثالثًا: التأخُّر في قضاء الدَّيْن عن الميت:
فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم: ((نفْسُ المؤمِن مُعلَّقة بدَينه؛ حتى يُقضَى عنه))[4].
 
قال ابنُ الأمير الصنعاني رحمه الله تعالى:
"وقد ورَد التشديدُ في الدَّيْن حتى ترك صلَّى الله عليه وسلَّم الصلاةَ على مَن مات وعليه دَين، حتى تحمَّله عنه بعض الصحابة، وأخبر صلَّى الله عليه وسلَّم أنَّه يُغفر للشهيد عندَ أول دفعةٍ مِن دمه كل ذنب إلا الدَّيْن.
 
وهذا الحديث مِن الدلائل على أنَّه لا يزال الميِّت مشغولاً بدَينه بعد موته، ففيه حثٌّ على التخلُّص عنه قبل الموت، وأنَّه أهمُّ الحقوق، وإذا كان هذا في الدَّين المأخوذ برِضا صاحبه، فكيف بما أخذ غصبًا ونهبًا وسلبًا؟!"[5].
 
رابعًا: النياحة:
وهي أمرٌ زائدٌ على البُكاء، فيرفع الصوت بتعديدِ شمائل الميِّت، ومحاسن أفعاله، وهو مِن أمر الجاهلية؛ فعن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه أنَّ النبي صلَّى الله عليه وسلَّم قال: ((أربعٌ في أمَّتي مِن أمر الجاهلية لا يتركونهن: الفخْر في الأحساب، والطَّعْن في الأنساب، والاستسقاء بالنُّجوم، والنياحة))، وقال: ((النائِحة إذا لم تتُبْ قبل موتها تُقام يومَ القيامة وعليها سِربال مِن قطران ودرْع من جرَب))[6].
 
ولذلك كان النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم يأخُذ على النِّساء عند البَيعة ألا ينُحْن؛ فعن أمِّ عطية رضي الله عنها قالت: "أخَذ علينا النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم عندَ البيعة ألا ننوح"[7].
 
خامسًا: لطم الخدود، وشق الجيوب، والدُّعاء بدعوى الجاهلية:
فعن عبدالله بن مسعود رضِي الله عنه عنِ النبي صلَّى الله عليه وسلَّم قال: ((لَيْس منَّا مَن ضرَب الخدود[8]، وشقَّ الجيوب[9]، ودعَا بدعوى الجاهلية))[10].
 
قال ابن بطَّال رحمه الله تعالى:
"قال المهلّب: قوله: ((ليس منَّا))؛ أي: ليس متأسيًا بسُنتنا، ولا مقتديًا بنا، ولا ممتثلاً لطريقتنا التي نحنُ عليها، كما قال صلَّى الله عليه وسلَّم: ((ليس منَّا مَن غشَّنا))؛ لأنَّ لطم الخدود، وشقَّ الجيوب مِن أفعال الجاهلية"[11].
 
سادسًا: نشر الشعر أو حلقه:
فعن أبي بُردة ابن أبي موسى رضي الله عنه قال: وجع أبو موسى وجعًا فغُشي ورأسه في حجر امرأةٍ في أهله، فصاحتِ امرأة من أهله، فلم يستطعْ أن يردَّ عليها شيئًا، فلما أفاق قال: أنا بريءٌ ممَّن برئ منه رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم إنَّ رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّم: برِئ من الصالِقة[12] والحالِقة[13] والشاقَّة[14]"[15].
 
ولحديثِ أبي أَسِيدٍ عنِ امرأةٍ من المبايعات، قالت: كان فيما أخَذ علينا رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم في المعروف الذي أخذ علينا ألاَّ نعصيَه فيه، ألا نخْمِش وجهًا، ولا ندعوَ ويلاً، ولا نشقَّ جيبًا، وألاَّ ننشُر شعرًا"[16].
 
وذلك لأنَّ هذه الأفعال تدلُّ على عدم الرِّضا بقضاء الله وقدَره؛ قال ابنُ القيم رحمه الله تعالى:
"وكان مِن هديه صلَّى الله عليه وسلَّم السُّكون، والرِّضا بقضاء الله، والحمد لله والاسترجاع[17]، ويبرأ ممن خرَّق لأجل المصيبة ثيابَه، أو رفَع صوته بالندب والنياحة، أو حلَق لها شعره"[18].
 
وقال ابن عثيمين رحمه الله تعالى:
"ونحن نُشهِد الله أنَّنا بريئون مِن كل ما يتبرَّأ منه الرسولُ صلَّى الله عليه وسلَّم ومِن كلِّ عمل تبرأ منه"[19].
 
سابعًا: سدْل شعر الميِّتة مِن بين ثدييها:
والصواب أنه يَنبغي أن تُنقضَ ضفائر المرأة، وتغسل جيدًا، ثم تجعل ثلاثَ ضفائر، وتُلقَى خلفها؛ لحديثِ أمِّ عطية رضي الله عنها قالت: تُوفيت إحدى بناتِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم فأتانا النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم فقال: ((اغسلنها بالسِّدر وترًا، ثلاثًا أو خمسًا أو أكثر مِن ذلك إن رأيتُنَّ ذلك، واجعلْنَ في الآخرة كافورًا أو شيئًا من كافور، فإذا فرغتُنَّ فآذنني))، فلما فرغْنا آذناه، فألقى إلينا حقوه، فضفرنا شعرَها ثلاثة قرون، وألقيناها خلْفَها"[20].
 
ثامنًا: تغسيل المرأة التي ماتتْ وهي حائض، أو الرَّجل وهو جُنب إذا ماتا غُسلين:
والصواب أنَّهما عليهما غسلٌ واحد؛ قال ابن قدامة رحمه الله تعالى: "والحائض والجُنب إذا ماتَا كغيرهما في الغُسل"، وقال ابن المنذر رحمه الله تعالى: "هذا قولُ مَن نحفظ منه مِن علماء الأمصار"[21].
 
تاسعًا: الإنكار على مَن يُكفِّن المرأة في خمسة أثواب:
مع أنَّه قد ورَد كثير الآثار الصحيحة التي تدلُّ على أنَّ المرأة تُكفَّن في خمسة أثواب، منها قال ابنُ سيرين رحمه الله تعالى: "تُكفَّن المرأة في خمسةِ أثواب: درْع وخمار، وخرقة ولفافتين"، وعن عيسي بن أبي عَزَّة قال: "شهدتُ عامرًا الشَّعْبي كفَّن ابنته في خمسة أثواب، وقال: الرجلُ في ثلاث"[22].
 
قال ابن المنذر رحمه الله تعالى:
"أكثرُ مَن نحفظ عنه مِن أهل العلم يرَى أنْ تُكفَّن المرأة خمسة أثواب، وإنما استحبَّ ذلك؛ لأنَّ المرأة تزيد في حال حياتها على الرَّجل في الستر لزيادة عورتها على عورته، فكذلك بعدَ الموت"[23].
 
وقال النووي رحمه الله تعالى:
"والمستحبُّ في المرأة خمسةُ أثواب، ويجوز أن يُكفَّن الرجل في خمسة، لكن المستحب ألاَّ يتجاوز الثلاثة، وأمَّا الزيادة على خمسة فإسراف في حقِّ الرجل والمرأة"[24].
 
عاشرًا: اتباع الجنائز للنساء:
فعن أمِّ عطية الأنصاريَّة رضي الله عنها قالت: "نُهينا عن اتِّباع الجنائز، ولم يُعزَمْ علينا"[25].
 
قال ابن عثيمين رحمه الله تعالى:
"لفْظُ (نُهينا) إذا قاله صحابي، أو قالتْه صحابية، فالمعنى أنَّ النبي صلَّى الله عليه وسلَّم نهاهم؛ لأنَّ النبي صلَّى الله عليه وسلَّم هو الذي له الأمْر والنهي.
 
فإذا قال الصحابيُّ أو الصحابية: "نهينا" فالمعنى: نهانا رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم وقد أخَذ بعضُ العلماء مِن هذا الحديث أنَّ اتباع النساء للجنائِز مكروه؛ لأنها قالت: "نهينا ولم يُعزَم علينا"، وقال بعض العلماء: بل اتِّباع النساء للجنائز محرَّم لثبوت النهي، وقول أمِّ عطية: "ولم يُعزَم علينا"، هذا تفقُّه منها رضي الله عنها ولا نَدْري هل الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم هو الذي نهاهُنَّ، ولم يعزم عليهنَّ أم هي التي فهِمتْ أنه لم يعزم على النِّساء بترْك اتباع الجنائز.
 
والصحيح: أنَّ اتِّباع المرأة للجنازة حرام، وأنَّه لا يجوز للمرأة أن تتبع الجنازة؛ لأنَّها إذا تبعتها فهي لا شكَّ ضعيفة، فربَّما تصيح وتولول وتضرب الخد، وتنتِف الشعر وتمزِّق الثوب؛ فالمرأة لا تَصبِر، وأيضًا ربما يحصُل اختلاط بيْن الرجال والنساء في تشييع الجنازة، فيحصُل بذلك فتنةٌ، وتزول الحكمة من اتِّباع الجنائز بحيث يكون الرجال أو الأراذل من الرِّجال يكون ليس لهم هَمٌّ إلا ملاحقة هؤلاء النساء، أو التمتع بالنظر إليهنَّ، فالواجب منع النِّساء من اتِّباع الجنائز فهو حرام"[26].
 
الحادي عشر: المشي على القبر أو الجلوس عليه:
فعن عُقبةَ بن عامر رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم: ((لأنْ أمشيَ على جمرة أو سيف، أو أخصف نعلي برِجلي، أحبُّ إليَّ مِن أن أمشيَ على قبر مسلِم))[27].
 
وعن أبي هُريرَة رضي الله عنه أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال: ((لأنْ يجلسَ أحدُكم على جمرةٍ فتحرق ثيابه فتخلص إلى جلدِهِ، خير له مِن أن يجلس على قبر))[28].
 
وعن أبي مَرْثد الغَنوي أنَّ النبي صلَّى الله عليه وسلَّم قال: ((لا تُصلُّوا إلى القُبور، ولا تَجْلِسوا عليها))[29].
 
قال المناويُّ رحمه الله تعالى: "قال الطِّيبي: جعَل الجلوس على القبر وسريان ضررِه إلى قلْبه، وهو لا يشعُر بمنزلةِ سراية النَّار مِن الثوب إلى الجلْد ثم إلى داخله"[30].
 
وقال ابنُ عثيمين رحمه الله تعالى عندَ شرْحه لحديث: "((لأن يجلسَ أحدُكم على جمرة)) وهذا يدلُّ على التحريم، وأنَّه لا يجوز للإنسان أن يجلسَ على قبر المسلِم، وإذا أراد أن يجلسَ فليجلس مِن وراء القبْر يجعل القبر خلْفَ ظهره أو عن يمينه أو عن شِماله، وأمَّا أن يجلسَ عليه فهذا حرام، ومِثل ذلك الغلو في القبْر؛ ولهذا نهَى النبي صلَّى الله عليه وسلَّم أن يجصَّص القبر، وأن يُبنى عليه، وأن يُكتب عليه؛ لأنَّ تجصيصه، يعني تفخيمَه، وتعظيمه يؤدِّي إلى الشِّرْك به، وكذلك البناء عليه، فالتجصيصُ حرام، والبناء أشدُّ حرمةً، والكتابة عليه فيها تفصيل: الكتابة التي لا يُراد بها إلا إثبات الاسم للدَّلالة على القبر، فهذه لا بأس بها، وأمَّا الكتابة التي تشبه ما كانوا يفعلونه في الجاهلية يكتب اسم الشخص، ويكتب الثناء عليه، وأنَّه فعل كذا وكذا، وغيره من المديح، أو تُكتب الأبيات، فهذا حرام، ومِن هذا ما يفعله بعضُ الجهَّال أنَّه يكتب على الحجَر الموضوع على القبْر سورة الفاتحة مثلاً، أو غيرها مِن الآيات، فكلُّ هذا حرام"[31].
 
الثاني عشر: سب الأموات:
فعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم: ((لا تسبُّوا الأموات، فإنَّهم قد أفضوا إلى ما قدَّموا))[32].
 
قال القاري رحمه الله تعالى عندَ شرحه لقوله: ((لا تسبُّوا الأموات))؛ أي: باللعن والشَّتْم، وإنْ كانوا فجَّارًا أو كفارًا إلا إذا كان موته بالكفر قطعيًّا، كفرعون وأبي جهل وأبي لهب ((فإنَّهم قد أفضوا))؛ أي: وصلوا ((إلى ما قدَّموا))، وفي نُسخة: ((إلى ما قدَّموه)) أي: مِن جزاء أعمالهم، أو مجازاة ما عمِلوه من الخير والشر، والله تعالى هو المجازي، فإذا شاء عفَا عنهم إنْ كانوا مسلمين، وإنْ شاء عذَّبهم بأن كانوا كافرين أو فاجِرين، فما لكم وإيَّاهم، ومِن حُسن إسلام المرء ترْكُه ما لا يَعنيه، وإنما جوّز ذم بعض الأحياء لما ترتَّب عليه مِن فائدةٍ ما"[33].
 
وقال ابنُ الأمير الصنعاني رحمه الله تعالى:
"الحديث دليلٌ على تحريم سبِّ الأموات، وظاهِره العمومُ للمسلِم والكافر، وفي الشرح: الظاهِر أنه مخصَّص بجواز سبِّ الكافر لما حكاه الله من ذمِّ الكفَّار في كتابه العزيز، كعاد وثمود وأشباههم"[34].
 
وقال ابن عثيمين رحمه الله تعالى:
"الأموات؛ يعني: الأموات مِن المسلمين، أمَّا الكافر فلا حرمةَ له إلا إذا كان في سبِّه إيذاءٌ للأحياء مِن أقاربه فلا يُسبّ، وأمَّا إذا لم يكن هناك ضررٌ فإنه لا حُرمة له؛ لأنَّنا لنا الحق أن نسبَّ الأموات الكافرين الذين آذوا المسلِمين وقاتلوهم، ويحاولون أن يُفسِدوا عليهم دِينهم.
 
أو مصلحة شرعيَّة، مِثل أن يكون هذا الميِّت صاحِب بدعة ينشُرها بين الناس، فهُنا من المصلحة أن نسبَّه ونحذِّر منه ومِن طريقته؛ لئلاَّ يغترَّ الناس به"[35].
 
الثالث عشر: عدم إحداد الزَّوجة على الزوج المدَّة المطلوبة، وخروجها من بيتِها أثناء فترة الإحداد لغير حاجة:
فعن الفريعة بنت مالِك رضي الله عنها قالت: خرَج زوجي في طلب أعلاج[36] له، فأدرَكَهم بطرف القدوم، فقتَلوه، فجاء نعيُ زوْجي، وأنا في دارٍ من دُور الأنصار شاسعة عن دار أهلي، فأتيتُ النبي صلَّى الله عليه وسلَّم فقلت: يا رسولَ الله جاء نعيُ زوْجي، وأنا في دار شاسعة عن دار أهلي، ودار إخوتي، ولم يدَعْ مالاً ينفق عليَّ ولا مالاً لورثته، ولا دارًا يملكُها، فإن رأيت أن تأذنَ لي فألحق بدار أهلي ودار إخوتي، فإنَّه أحبُّ إليَّ وأجمع لي في بعض أمْري، قال: ((فافعلي إن شئت))، قالت: فخرجتُ قريرة عيني لما قضَى الله لي على لسانِ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم حتى إذا كنتُ في المسجد، أو في بعض الحجرة دعاني، فقال: ((كيف زعمتِ؟)) قالت: فقصصتُ عليه، فقال: ((امكُثي في بيتك الذي جاءَ فيه نعيُ زوجك حتى يبلغَ الكتابُ أجلَه))، قالت: فاعتددتُ فيه أربعةَ أشهر وعشرًا"[37].
 
الرابع عشر: إحداد المرأة على غير زوجها أكثر من ثلاثة أيام:
وهذا لا يجوز؛ لحديث عائشةَ عن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم قال: ((لا يحلُّ لامرأة تؤمِن بالله واليوم الآخِر أن تحدَّ على ميِّت فوقَ ثلاث إلا على زوجها))[38].
 
وعن زينبَ بنتِ أبي سلمة رضي الله عنه قالت: "لما جاء نعيُ أبي سفيان مِن الشام دعتْ  أمُّ حبيبة رضي الله عنها بطِيب فيه صُفرة في اليوم الثالِث، فمسحتْ عارضيها وذِراعيها، وقالت: إنِّي عن هذا لغنيَّة لولا أنِّي سمعتُ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يقول: ((لا يحلُّ لامرأة تؤمِن بالله واليوم الآخِر أن تحدَّ على ميِّت فوقَ ثلاث إلا على زَوْج فإنَّها تحدُّ عليه أربعةَ أشهر وعشرًا))[39].
 

وأخطاء الجنائِز أكثرُ ممَّا ذكَرْنا، ولكن هذه أشهرها فيما نعتقد فيجِب على المسلم أن يتَّبع ولا يبتدع، وأن يَسيرَ على ما سار عليه رسولُ الله صلَّى الله وسلَّم عليه وعلى آله وصحابته الكرام، وعلماء الأمَّة الربانيِّين الذين ساروا ويَسيرون على ما سار عليه رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم.
 
وفَّقَنا الله والمسلمين لكلِّ خير، وصرَف عنهم كلَّ سوء ومكروه، والحمدُ لله الذي بنِعمته تتمُّ الصالحات.
 

[1] رواه البخاري (1315).

[2] "شرح رياض الصالحين" (4/ 546 - 548).

[3] رواه البخاري (1325) ومسلم (945).

[4] رواه الترمذي (1078، 1079) وابن ماجه (2413)، وصحَّحه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (1811).

[5] "سبل السلام" (1/ 469).

[6] رواه مسلم (934).

[7] رواه البخاري (1306).

[8] ضرْب الخدود: لطمها.

[9] الجيب: ما شُقَّ مِن الثوب لإدخال الرأس.

[10] رواه البخاري (1297) ومسلم (103)، وهذا لفظ البخاري.

[11] انظر: شرح صحيح البخاري (3/ 278) لابن بطال.

[12] هي التي ترْفع صوتها عندَ الفجيعة والمصيبة.

[13] التي تحلِق شَعرَها عند المصيبة.

[14] الشاقَّة: التي تشقُّ ثوبها عندَ المصيبة.

[15] رواه مسلم (104).

[16] رواه أبو داود (3131)، وصحَّحه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (3535).

[17] أي قول: "إنا لله وإنا إليه راجعون".

[18] زاد المعاد (1/ 527).

[19] شرح رياض الصالحين (6/ 402).

[20] رواه البخاري (1263) ومسلم (990)، وهذا لفظ البخاري.

[21] "المغني" (2/ 168).

[22] انظر: مصنف عبدالرزاق (3/ 434) رقم (6217 ) و(6218 ).

[23] "المغني" (2/ 172).

[24] "شرح النووي على صحيح مسلم" (7/ 8).

[25] رواه البخاري (1278)، ومسلم (938).

[26] "شرح رياض الصالحين" (4/ 533 - 534).

[27] رواه ابن ماجه (1567)، وصحَّحه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (3564).

[28] رواه مسلم (971).

[29] رواه مسلم (972).

[30] "فيض القدير" (5/ 258).

[31] "شرح رياض الصالحين" (6/ 521-522).

[32] رواه البخاري (6516).

[33] "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" (3/ 1203)

[34] "سبل السلام" (1/ 511).

[35] "شرح رياض الصالحين" (6/ 230).

[36] العلج: الرَّجُل من كفَّار العجم وغيرهم.

[37] رواه ابن ماجه (2031) وأحمد (26547)، وقال محقِّقو المسند: "إسناده حسن" (6/ 370) (27132).
وصحَّحه الألباني في صحيح أبي داود (1992).

[38] رواه مسلم (1491).

[39] رواه البخاري (1280) ومسلم (1486).

شارك الخبر

روائع الشيخ عبدالكريم خضير