أرشيف المقالات

حديث: اللهم ارحم المحلقين

مدة قراءة المادة : 7 دقائق .
حديث: اللهم ارحَم المحلِّقين
 

عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اللهم ارحَم المحلِّقين"، قالوا: والمقصِّرين يا رسول الله؟ قال: "اللهم ارحَم المحلِّقين"، قالوا: يا رسول الله، والمقصِّرين؟ قال: "والمقصِّرين".
 
♦ قال البخاري: باب الحلق والتقصير عند الإحلال، وذكر الحديث: قصرت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بِمِشْقَصٍ، ثم ذكر حديث ابن عباس عن معاوية[1].
 
قوله: باب الحلق والتقصير عند الإحلال.
 
♦ قال ابن المنيِّر في الحاشية: أفهَم البخاري بهذه الترجمة أن الحلق نُسك؛ لقوله: عند الإحلال وما يصنع عند الإحلال، وليس هو نفس التحلل، وكأنه استدل على ذلك بدعائه صلى الله عليه وسلم لفاعله، والدعاء يشعر بالثواب، والثواب لا يكون إلا على العبادة لا على المباحات، وكذلك تفضيله الحلق على التقصير يشعر بذلك؛ لأن المباحات لا تتفاضل، والقول بأن الحلق نسك قول الجمهور[2].
 
♦ قوله: (اللهم ارحَم المحلقين) في حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم اغفِر للمحلِّقين"، قالوا: وللمقصرين، قال: "اللهم اغفر للمحلقين"، قالوا: وللمقصرين، قالها ثلاثًا، قال: "وللمقصرين"، وعن ابن عمر قال: حلق النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع وأناس من أصحابه، وقصر بعضهم، وزاد فيه مسلم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يرحم الله المحلِّقين".
 
قوله: "قالوا: والمقصرين يا رسول الله"، قال الحافظ: الواو في قوله: "والمقصِّرين" معطوفة على شيء محذوف تقديره: قل: والمقصِّرين، أو: قلْ: وارحَم المقصِّرين، وهو يُسمى العطف التلقيني؛ انتهى.
 
وفي قوله صلى الله عليه وسلم: "والمقصرين" إعطاء المعطوف حُكم المعطوف عليه ولو تخلَّل بينهما السكوت لغير عذر؛ انتهى.
 
وعن أبي سعيد رضي الله عنه قال: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يستغفر لأهل الحديبية، للمحلقين ثلاثًا وللمقصرين مرة"؛ رواه أحمد.
 
قال الحافظ: ظاهر الروايات أن ذلك كان بالحديبية وفي حجة الوداع، إلا أن السبب في الموضعين مختلف، فالذي بالحديبية كان بسبب توقُّف مَن توقَّف من الصحابة عن الإحلال لما دخل عليهم من الحزن؛ لكونهم مُنعوا من الوصول إلى البيت مع اقتدارهم في أنفسهم على ذلك، فحالفهم النبي صلى الله عليه وسلم، وصالح قريشًا على أن يرجع من العام المقبل، فلما أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالإحلال توقَّفوا، فأشارت أم سلمة أن يحل هو صلى الله عليه وسلم قبلهم ففعَل، فتَبِعوه فحلَق بعضهم وقصَّر بعض، وكان من بادر إلى الحلق أسرع إلى امتثال الأمر ممن اقتصر على التقصير، وقد وقع التصريح بهذا السبب في حديث ابن عباس، فإن في آخره عند ابن ماجه وغيره: أنهم قالوا: يا رسول الله، ما بال المحلقين ظاهرت لهم بالرحمة؟ قال: لأنهم لم يشكوا، وأما السبب في تكرير الدعاء للمحلقين في حجة الوداع، فالأولى ما قاله الخطابي وغيره: إن عادة العرب أنها كانت تحب توفير الشعر والتزين به، وكان الحلق فيهم قليلًا، وربما كانوا يرونه من الشهرة ومن زي الأعاجم، فلذلك كرِهوا الحلق واقتصروا على التقصير[3].
 
قال: وفي الحديث من الفوائد: أن التقصير يُجزئ عن الحلق، وفيه أن الحلق أفضل من التقصير، ووجهه أنه أبلغ في العبادة وأبين للخضوع والذلة، وأدل على صدق النيَّة، والذي يقصر يبقى على نفسه شيئًا مما يتزين به، بخلاف الحالق فإنه يشعر بأنه ترك ذلك لله واستدل بقوله: "المحلقين" على مشروعية حلق جميع الرأس؟ لأنه الذي تقتضيه الصيغة، وقال بوجوب حلق جميعه مالك وأحمد، واستحبَّه الكوفيون والشافعي، والتقصير كالحلق، فالأفضل أن يقصر من جميع شعر رأسه، ويستحب ألا ينقص عن قدر الأنملة، وهذا كله في حق الرجال، وأما النساء فالمشروع في حقهن التقصير بالإجماع، وفيه حديث لابن عباس عند أبي داود، ولفظه: "ليس على النساء حلق، وإنما على النساء التقصير"، وللترمذي من حديث علي: "نهى أن تحلق المرأة رأسها"، وفي الحديث أيضًا مشروعية الدعاء لمن فعل ما شرع له، وتكرير الدعاء لمن فعل الراجح من الأمرين المخيَّر فيهما، والتنبيه بالتكرار على الرُّجحان وطلب الدعاء لمن فعل الجائز وإن كان مرجوحًا[4]؛ انتهى ملخصًا.
 
قوله: عن معاوية قال: قصرت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمشقصٍ.
 
♦ قال الحافظ: (وهو يشعر بأن ذلك كان في نُسك؛ إما في حج أو عمرة، وقد ثبت أنه حلق في حجته، فتعين أن يكون في عمرة، ولا سيما قد روى مسلم في هذا الحديث أن ذلك كان بالمروة، ولفظه: قصرت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمشقص وهو على المروة، وهذا يحتمل أن يكون في عمرة القضية أو الجعرانة - إلى أن قال - وقد أخرج ابن عساكر تاريخ دمشق من ترجمة معاوية بأنه أسلم بين الحديبية والقضية، وأنه كان يُخفي إسلامه خوفًا من أبويه، وكان النبي صلى الله عليه وسلم لَمَّا دخل في عمرة القضية مكة، خرج أكثر أهلها عنها؛ حتى لا ينظرونه وأصحابه يطوفون بالبيت، فلعل معاوية كان ممن تخلف بمكة لسبب اقتضاه، ولا يعارضه أيضًا قول سعد بن أبي وقاص فيما أخرجه مسلم وغيره: فعلناها يعني العمرة في أشهر الحج، وهذا يومئذ كافر بالعُرُش بضمتين يعني بيوت مكة يشير إلى معاوية؛ لأنه يحمل على أنه أخبر بما استصحبه من حاله، ولم يطلع على إسلامه لكونه كان يخفيه)[5]؛ انتهى والله أعلم.



[1] صحيح البخاري: (2 /213).


[2] فتح الباري: (3 /561).


[3] فتح الباري: (3 /564).


[4] فتح الباري: (3 /564).


[5] فتح الباري: (3 /566).

شارك الخبر

مشكاة أسفل ٢