من صور التباعد عن الله (عز وجل)
مدة
قراءة المادة :
9 دقائق
.
من صور التباعد عن الله (عز وجل)عن مَعقِل بن يسار - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((يقول ربكم - تبارك وتعالى -: يا بن آدم، تفرغ لعبادتي، أملأ قلبك - وفي رواية: (صدرك) - غنى وأملأ يديك رزقًا - وفي رواية: (وأَسُد فقرك) - يا بن آدم، لا تُباعِد مني - وفي رواية: (وإلا تفعل) فأملأ قلبك - وفي رواية: (صدرك) - فقرًا وأملأ يديك شغلاً - وفي رواية للترمذي وابن حبان: ملأتُ يديك شُغلاً، ولم أسُد فقرَك))؛ أخرجه الحاكم، وقال: "صحيح الإسناد"، ووافَقه الذهبي، وهو كما قالا، وقد صحَّحه جماعة من أهل العلم، وله شاهدٌ من حديث أبي هريرة، أخرَجه الترمذي، وابن ماجه، وابن حبان، وأحمد.
• • • •
إن أسعدَ الخَلق أعظمُهم عبودية لله، كما أن التقرُّب من الله والتعبد له يُعَد من أعظم أسباب الغنى - وهذا واضح من سياق الحديث القدسي - بل له أثرٌ عظيمٌ على النفس، ويبعثُ طمأنينة في القلب، وهو وسيلة إلى السعادة ورضا الله، وبلوغ جنته ودار رِضوانه.
إن هذا الحديث وأضرابه قد غسَل كل الأمراض، وأزال كافة الشكوك من قلوب الموحّدين الصدِّيقين، حتى حصل لهم اليقين الكبير، فسكنتْ نفوسُهم، واطمأنت قلوبهم، فهم في رُوح وريحان؛ لأنه متى ذاق القلب طعمَ العبادة والقُرب من الله، لم يكن عنده شيءٌ قط أحلى من ذلك ولا ألذّ ولا أمتع، وعلى قَدْر التفاوت في تحصيله يزداد الطعم الرُّوحي للإيمان أو يَخبو.
ولا تَعارُض ألبتة بين هذا الحديث، وبين ما دلَّت عليه النصوص المتواترة من وجوب الأخذ بالأسباب والعمل بها؛ ولذاك حمَله جملة من العلماء - كالطيبي - رحمه الله - وغيره من أهل العلم - على المُعرِض عن عبادة الله - عز وجلال - المتباعد عنه، المُتهالِك في الدنيا، المنغمِس في لذَّاتها وشهواتها، وبقدر ما يكون في العبد من المَيل عن الله - عز وجل - والإخلاد إلى الأرض، بقدر ما يكون له نصيبٌ من هذا الوعيد الشديد، والتهديد الأكيد، وإن الغفلة عن القُرب من الله - عز وجل - وعن تحصيل ما يَتْبَعُه مما يُنجي - مُستتبِعةٌ للهلاك لا محالة.
وقال البعض: إنه دعوة لتغليب الله - عز وجل - وعبادته على هموم الرزق ومتاعب العيش، والكدّ في الدنيا، وإن هذا حقيقة العبادة، وإن العمل الذي يستغرق وقت الإنسان وعمره، حتى لا يكاد يبذُل شيئًا في سبيل الله - عز وجل - ولا يجد وقتًا لعبادة الله - عز وجل - وذِكره، ولا يجد وقتًا للدعوة إلى الله - عز وجل - ولا يجد وقتًا للتعلم والتعليم ونشْر الخير - هو علامة أكيدة على أن القلب أصبح أبعد ما يكون عن الله - عز وجل.
والله - عز وجل - قد أخبر أنه غير محتاج إلى خَلْقه ألبتة، بل إنهم هم الفقراء إلى الله في جميع أحوالهم، وبقدر تحقيقهم لهذه النسبة بقدر ما يكون الجزاء، ومن المتقرِّر أن الجزاء من جنسِ العمل، قال الله - عز وجل -: ﴿ مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ ﴾ [الشورى: 20].
كما أن من معانيه، والتي توكِّد عدم التعارُض: ألا يكون في القلب شاغلٌ عن الإقبال على الله - عز وجل - وطاعته، وكذا ألا يكون فيه شاغل عن الطاعة وقت تأديتها؛ والمعنى أن كل عبادة تكون فيها، فلا تنشغِل عنها بغيرها؛ فإذا كنت في صلاة، فلا تنشغِل عنها بغيرها، وكذلك إذا قرأتَ القرآن لا تنشغِل عنه بغيره، بل استحضر القلبَ عند كل عبادة تفعلها، وعند كل عمل تقوم به، وهذه المعاني هي من معاني قوله - عز وجل - في هذا الحديث: ((تفرِّغ لعبادتي)).
ولا شك أن الذم في الحديث - وهو كما قال ابن القيم في "إغاثة اللهفان": من أبلغ أنواع العذاب في الدنيا - هو لمن أقبل على الدنيا بكلِّيته لا يشبع من جمع حُطامها، ولا يَكل من السعي خلف رُفاتها، فهو في الحقيقة في انقطاع كلي عن الآخرة، وفي تباعُد كلي عن كل ما يقرِّب إلى الله - عز وجل - أما ذلك المؤمن الذي يسعى خلف تجارة ناجحة ينمّي منها ماله، وهو يعمل الصالحات، غير غافل عن أمر آخرته، ولا هو متباعِد عن الله - عز وجل - بل إنك تراه قائمًا بحق الله - عز وجل - في ماله، فيُخرِج زكاته، ويتصدَّق في سبيل الله - عز وجل - فهو من الفريق الثاني الذي جعل الآخرة همه ولا شك، فهنيئًا له، فإنَّ له الرِّفعة في الدنيا، والعاقبة في الآخرة، ونِعم المال الصالح للرجل الصالح.
كما أن من التباعد المذموم عن الله - عز وجل - التشاغُل عن أوقات العبادة بغيرها من الأعمال الدنيوية، وهذا المعنى ظاهر من الحديث؛ فالمؤمن صاحبُ النية الحسنة، والعزم الصادق، واليقين الثابت، متى عَرَض له الشغل الدنيوي - أيًّا كان - مع العبادة، لا يتردّد في الاختيار بينهما، بل لا يزداد إلا إصرارًا على القرب من الله - عز وجل - والتباعد عن كل ما من شأنه أن يَصرِفه عنه؛ لأنه يعلم أن الدنيا قد آذنتْ بصُرْم، وولَّت حذَّاءَ، ولم يبقَ منها إلا صُبابة كصبابة الإناء، فيزيده الله - عز وجل - قوة إلى قوته، ويملأ صدره غنى وثقة به، وذلك هو الفوز المبين.
وأما المتباعِد عنه - عز وجل - بأدنى لُعاعَة من الدنيا، فهو خائر العزم، ضعيف الإرادة، كَبُر عليه تركُ شغله، وخيِّل له أنّ في تركه خسارةً لا تُعوَّض، فتراه يستمر في شغله عاصيًا ربه، خائنًا دينه، خائسًا بعهده، فحينئذٍ يمتلئ صدره همًّا وغمًّا، ويدُه فقرًا وشغلاً، يُلازمانِه أبدًا في حله وتَرحاله.
كما أن من صور التباعد عن الله - عز وجل - انشغالَ القلب أو العقل وبُعده عن الله وقت أداء العبادة إلى ما سواه، فتراه في العبادة جسدًا خاويًا له خَواء، وقلبه يُحلِّق يُمنة ويَسرة، نسأل الله - عز وجل - أن يُعيننا على أنفسنا، وألا يَكِلنا إلى أنفسنا طرفة عين.
فالواجب على المسلم أن يسعى لتحقيق المقصود من وجوده، دون إفراط ولا تفريط.
قال بعض مَن شرَح الحديث وهو يبيِّن المعنى السابق ويوكِّده:
"[هذا] أمرٌ من الله تعالى لعباده أن يفرِّغوا قلوبهم إلى عبادته تعالى، ولا يشغَلوها بسواه فتملأ صدورهم غنى، فلا ينظرون إلى الدنيا وزهرتها، ولا إلى ما في أيدي الناس، بل الدنيا بأيديهم دون قلوبهم يأخذون الزادَ للآخرة، كمَثَل المسافر ليس له من سفره إلا المرور إلى مقصده، وهذه طريقة السلف الصالح، والقرون الأُول، ويَسُد فقره بألا يحتاج إلى أحد، وتشبَع نفسه، وتزهَد في الدنيا، وإن لم يفعل ما أمره الله به من ذلك، ملأ الله صدره شغلاً؛ بأن يكون همّه الدنيا، لا يشبع من حُطامها؛ لانهماكه فيها، وشَرَهه، لم يَسُد فقره، بل يكون دائمًا محتاجًا فيها، ظاهر الفقر، وإن كان لديه مال كثير، فاسأل الله السلامة من الدنيا والمَيل إليها"[1] ا.
هـ.
[1] انظر: الاتحافات السنية بالأحاديث القدسية؛ لمحمد منير بن عبده أغا النقلي الدمشقي الأزهري، المتوفَّى سنة 1367هـ، دار ابن كثير دمشق - بيروت.