الوقف في زمن الصحابة رضي الله عنهم
مدة
قراءة المادة :
22 دقائق
.
الوقف في زمن الصحابة رضي الله عنهمصوره ومظاهره، وتوافق الصحابة فيه
في هذه المرحلة بدأت الدولة الإسلامية بالتوسع، وتوسّع معها قطاع الخدمات مما أدى إلى توسع الوقف ليتماشى مع هذه الخدمات ويسدّها، ولذلك تسارع جميع الصحابة رضي الله عنهم إلى وقف أنْفَسِ أموالهم وأجودها، كما ذكرنا في السابق، ثم استمرت أوقافهم معلومة مستثمرة طيلة قرون عديدة كما ذكر الشافعي والحميدي وابن حزم والإمامُ أبو بكر الخصاف في أحكام الأوقاف وابن شبة في تاريخ المدينة (1/218) وغيرُهم، وهذا من أكبر الأدلة على صحة الآثار بذلك كما سيتبين:
الأثر الأول وما بعده: وفيه مسارعة جميع الصحابة رضي الله عنهم إلى الوقف وتوافقهم عليه:
1- قال أبو بكر الخصاف في كتابه أحكام الأوقاف (ص15): "ما روي في الجملة من صدقات أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: "حدثنا محمد بن عمر الواقدي حدثني قدامة بن موسى عن بشير مولى المازنيين قال: سمعت جابر بن عبدالله يقول: لما كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه صدقته في خلافته دعا نفراً من المهاجرين والأنصار فأحضرهم وأشهدهم على ذلك، فانتشر خبرها، قال جابر: فما أعلم أحداً ذا مقدرة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من المهاجرين والأنصار إلا حبس مالاً من ماله صدقه موقوفة، لا تشترى ولا تورث ولا توهب"، في سنده بشير، مجهول الحال والله أعلم، فقد ترجمه ابن أبي حاتم ولم يذكر فيه شيئا، لكن لحديثه شواهد أخرى في نفس هذا الطريق، وغيره:
2- قال قدامة بن موسى: وسمعت محمد بن عبدالرحمن بن سعد بن زرارة يقول: ما أعلم أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل بدر من المهاجرين والأنصار إلا وقد وقف من ماله حبساً لا يشترى ولا يورث ولا يوهب حتى يرث الله الأرض ومن عليها".
3- ثم خرج مثل ذلك عن سعيد بن المسيب عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
4- وخرجه عن عمارة بن غزية عن أصحاب بدر مثله.
5- وخرجه عن سعيد بن عبدالرحمن عن أهل قباء وأهل بدر والعقبة أنهم "حبسوا اموالهم على أعقابهم وأعقاب أعقابهم".
وجاء مثل ذلك عن آحاد الصحابة رضي الله عنهم: كما نقلنا ذلك سابقا عن أئمة السلف:
الأثر السادس: وفيه حبس الرباع والبيوت: قال الخصاف (ص 5): "روي أن أبا بكر حبس رَباعا له كانت بمكة وتركها، فلا يعلم أنها ورثت عنه، ولكن يسكنها من حضر من ولده وولد ولده ونسله بمكة ولم يتوارثوها"، ثم قال: "وهذه الرباع مشهورة بمكة".
الأثر السابع وما بعده: وفيه الإشهاد على الوقف وكتابته وجعل ناظرٍ عليه:
فقد مر حديث عمر لما أصاب أرضا بخيبر، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: إن شئت تصدقت بثمرتها، وحبست أصلها، فتصدق بها، لا تباع ولا توهب ولا تورث، وجعلها في المساكين، وابن السبيل، والرقاب، والقرابة، والضيف، لا جناح على من وليها أن يأكل بالمعروف، غير متأثل منه "، ثم إن عمر رضي الله عنه وثق كل صدقَاته وأشهد عليها بدليلِ حديث جابر السابق إذ قال: "لما كتب عمر رضي الله عنه صدقته في خلافته دعا نفراً من المهاجرين والأنصار فأحضرهم وأشهدهم على ذلك، فانتشر خبرها،...".
7- وقال الخصاف (ص 8) نا الواقدي نا أبو بكر بن عبدالله عن عاصم بن عبيدالله عن عبدالله بن عامر بن ربيعة قال: "شهدت كتاب عمر حين وقف وقفه أنه في يده، فإذا توفي فهو إلى حفصة، فلم يزل عمر يلي وقفه إلى أن توفي، فلقد رأيته هو بنفسه يقسم ثمرة ثمغ في السنة التي توفي فيها ثم صار إلى حفصة"، زاد هشام بن عروة عن أبيه عن عمر: "ثم إلى ذي الرأي من أهله.."، وخرج الخصاف عن الزهري قال: أقرأني سالم صدقة عمر بثمغ.."، فذكر نحوه.
8- وقال أبو داود في سننه: باب ما جاء في الرجل يوقف الوقف، ثم خرج (2879) من طريق يحيى بن سعيد عن صدقة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال: نسخها لي عبدالحميد بن عبدالله بن عبدالله بن عمر بن الخطاب: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما كتب عبدالله عمر في ثمغ، فقص من خبره نحو حديث نافع، قال: "غير متأثل مالا، فما عفا عنه من ثمره فهو للسائل والمحروم".
قال: وساق القصة، قال: وإن شاء ولي ثمغ اشترى من ثمره رقيقا لعمله.
وكتب معيقيب، وشهد عبدالله بن الأرقم: بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما أوصى به عبد الله عمر أمير المؤمنين إن حدث به حدث أن ثمغا وصرمة بن الأكوع والعبد الذي فيه والمائة سهم التي بخيبر ورقيقه الذي فيه، والمائة التي أطعمه محمد صلى الله عليه وسلم بالوادي تليه حفصة ما عاشت، ثم يليه ذو الرأي من أهلها أن لا يباع ولا يشترى ينفقه حيث رأى من السائل والمحروم وذوي القربى، ولا حرج على من وليه إن أكل أو آكل أو اشترى رقيقا منه".
الأثر التاسع: وفيه توثيق الوقف وكتابته والإشهاد عليه أيضا، والوقف على الأقربين وغيرهم:
قال الخصاف (9) حدثنا الواقدي حدثنا عمر بن عبدالله عن عنبسة قال: "تصدق عثمان في أمواله على صدقة عمر بن الخطاب"، ثم قال: نا الواقدي نا فروة بن أذينة قال: "رأيت كتاباً عند عبدالرحمن بن أبان بن عثمان فيه: "بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما تصدق به عثمان في حياته، تصدق بماله الذي بخيبر على ابنه أبان صدقة بتة بثلة، لا يشترى أصله أبداً ولا يورث، شهد على بن أبى طالب رضي الله عنه وأسامة بن زيد وكتب".
وقال أبو بكر (4/350) نا ابن علية عن سوار عن الوليد بن أبي هشام قال: قال عثمان: "رباعي التي بمكة يسكنها بني، ويسكنونها من أحبوا".
الأثر العاشر: وفيه جواز بيع الموقوف المشرف على الهلاك واستبداله بغيره:
برهان ذلك ما خرجه الخصاف (ص9) عن الواقدي نا فروة بن أذينة عن عبدالرحمن بن أبان بن عثمان وكان يلي صدقة عثمان بن عفان، فيبيع من رقيق صدقة عثمان من لا خير فيه ويبتاع بها.."،
الأثر الحادي عشر: وفيه الوقف في المصاحف والكتب:
وذلك في زمن عثمان رضي الله عنه، فإنه أمَرَ بجمع القرآن الكريم وكتابته في مصاحف، ثم أرسل إلى كل مصر منها بمصحف وَقَفَهُ عليهم، كما خرج ابن حبان في صحيحه (4507) عن أنس بن مالك أنه اجتمع لغزوة أذربيجان وأرمينيةَ، أهلُ الشام وأهل العراق فتذاكروا القرآن فاختلفوا فيه، حتى كاد يكون بينهم قتال، قال: فركب حذيفة بن اليمان لما رأى اختلافهم في القرآن إلى عثمان فقال: إن الناس قد اختلفوا في القرآن حتى إني والله لأخشى أن يصيبهم ما أصاب اليهود والنصارى من الاختلاف، ففزع لذلك عثمان رضوان الله عليه فزعا شديدا، وأرسل إلى حفصة، فاستخرج الصحف التي كان أبو بكر أمر زيدا بجمعها، فنسخ منها المصاحف، فبعث بها إلى الآفاق..".
الأثر الثاني عشر: وفيه وقف الأرض والمزارع وآبارها، وكيفية الاستثمار فيها، وتعيين ناظرين عليها:
خرج ذلك ابن شبة (1/220) من طريق واقد بن عبدالله عن عمه عن جده كشد بن مالك الجهني قال: نزل طلحة بن عبيد الله وسعيد بن زيد رضي الله عنهما علي بالمنحار، وهو موضع بين حوزة السفلى وبين منحوين، على طريق التجار في الشام، حين بعثهما النبي صلى الله عليه وسلم يترقبان له عن عير أبي سفيان، فنزلا على كشد، فأجارهما.
فلما أخذ رسول الله ينبع، قطعها لكشد فقال: يا رسول الله، إني كبير، ولكن أقطعها لابن أخي فقطعها له، فابتاعها منه عبد الرحمن بن سعد بن زرارة الأنصاري بثلاثين ألف درهم، فخرج عبد الرحمن إليها فرمى بها وأصابه سافيها وريحها، فقدرها، وأقبل راجعا، فلحق علي بن أبي طالب رضي الله عنه بمنزل، وهي بلية دون ينبع فقال: من أين جئت؟ فقال: من ينبع، وقد شنفتها، فهل لك أن تبتاعها؟ قال علي: قد أخذتها بالثمن قال: هي لك.
فخرج إليها علي رضي الله عنه، فكان أول شيء عمله فيها البغيبغة وأنفذها"،
والذي يظهر هنا أن هذا الوقف كان بعد بدر، وليس كذلك، لأن مناسبة هذا الحديث كان بسسب نزولهم في هذه الأرض، وأما الأرض فلم تُشتر ولم توقف من طرف عليّ إلا في زمن عمر رضي الله عنهم:
وقد بلغ من شأن ريعها: ما قاله الخصاف حدثنا الواقدي حدثنا سليمان بن بلال وعبد العزيز بن محمد عن أبيه عن علي بن أبى طالب رضي الله عنه أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قطع لعليّ رضي الله عنه بينبع، ثم اشترى عليّ رضي الله عنه إلى قطيعته التي قطع له عمر أشياء، فحفر فيها عينا، فبينما هم يعملون إذ تفجر عليهم مثل عنق الجزور من الماء، فأتى عليا فبشره بذلك، فقال رضي الله عنه: فبشره الوارث، ثم تصدق بها على الفقراء والمساكين فى سبيل الله وابن السبيل القريب والبعيد في السلم والحرب يوم تبيض وجوه وتسود وجوه ليصرف الله النار عن وجهه بها، وبلغ جدادها في زمن علي رضي الله عنه ألف وسق"، وخرجه ابن شبة (1/220) عن القعنبي ثنا سليمان بن بلال عن جعفر عن أبيه أن عمر رضي الله عنه قطع لعلي رضي الله عنه ينبع...
فذكره، وعن جعفر بن محمد عن أبيه قال: بشر علي رضي الله عنه بالبغيبغة حين ظهرت فقال: "تسر الوارث، ثم قال: هي صدقة على المساكين وابن السبيل وذي الحاجة الأقرب".
وله شواهد أخرى فيها طريقة العمل والاستثمار بها: فقال الخصاف حدثنا بشر بن الوليد أنبانا أبو يوسف حدثنا عبد الرحمن بن عمر بن على بن أبى طالب عن أبيه عن جده أنه تصدق بينبع فقال أبتغى بها مرضاة الله تعالى ليدخلني بها الله الجنة ويصرفني عن النار ويصرف النار عنى في سبيل الله ووجهه وذي الرحم والبعيد والقريب لا تباع ولا توهب ولا تورث كل مال لي ينبع غير أن رباحا وأبا نيزر وجبيرا أن حدث بي حدث فليس عليهم سبيل، وهم محررون موال يعملون في المال خمس حجج وفيه نفقتهم ورزقهم ورزق ما كان لي ينبع حياً أنا أو ميتا، ومع ذلك ما كان لي بوادي القرى من مال ورقيق حيا أنا أو ميتا، ومع ذلك الأدينة وأهلها، حيا أنا أو ميتا، ومع ذلك عبد أهلها وان زريعا له مثل ما كتبت لأبى نيزر ورباح وجبير"، وقد استمر وجود هذه الأوقاف طيلة قرون: كما خرج ابن شبة عن عبد العزيز قال: "قال: وكانت أموال علي رضي الله عنه عيونا متفرقة بينبع، منها عين يقال لها: عين البحير، وعين يقال لها: عين أبي نيزر، وعين يقال لها: عين نولا، وهي اليوم تدعى العدر، وهي التي يقال لها إن عليا رضي الله عنه عمل فيها بيده،...
ثم ذكر أوقاف علي رضي الله عنه وهي كثيرة جدا، وقال: "وله أيضا بحرة الرجلاء واد يقال له: البيضاء، فيه مزارع وعفا، وهو في صدقته..
قال: وله أيضاً ناحية فدك مال بأعلى حرة الرجلاء يقال له: القصبية، كان عبد الله بن حسن بن حسن عامل عليه بني عمير مولى عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، على أنه إذا بلغ ثمره ثلاثين صاعا بالصاع الأول فالصدقة على الثلث، فإذا انقرض بنو عمير فمرجعه إلى الصدقة، فذلك اليوم على هذه الحال بأيدي ولاة الصدقة.
قال أبو غسان: وهذه نسخة كتاب صدقة علي بن أبي طالب رضي الله عنه حرفا بحرف، نسختها على نقصان هجائها وصورة كتابها، أخذتها من أبي، أخذها من حسن بن زيد: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أمر به وقضى به في ماله عبد الله علي أمير المؤمنين، ابتغاء وجه الله ليولجني الله به الجنة، ويصرفني عن النار، ويصرف النار عني يوم تبيض وجوه وتسود وجوه: أن ما كان لي بينبع من ماء يعرف لي فيها، وما حوله صدقة، ورقيقها،...
ثم ذكر نص هذا الكتاب العظيم الذي فيه الأوقاف وكيفية استثمارها والعمل بها ومن يلي أمرها، وفيم تُنفق غلتها، وخرج عن الوليد: أن عليا أعتق عبيدا له واشترط عليهم أن يعملوا في أرضه ست سنين".
الأثر الثالث عشر: وفيه التصدق بالماء والسقاية والعقار: قال ابن شبة (1/218):
"قال أبو غسان: تصدق العباس بن عبدالمطلب رضي الله عنه بحل له كان بينبع على عين يقال لها: عين جساس على شراب زمزم، فذلك الحق يقال له السقاية؛ لأنه تصدق به على زمزم، وهو الثمن من تلك العين، وهو اليوم بيد الخليفة يوكل به"، ثم قال: "وتصدق عبد الله بن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنهما بمال بالصهوة، وهو موضع بين معن وبير حوزة على ليلة من المدينة، وتلك الصدقة بيد الخليفة يوكل بها".
الأثر الرابع عشر: وفيه وقف الدور على البنين والقربى: قال الخصاف (ص11):
حدثنا الواقدي حدثنا ابن أبى الزناد عن هشام بن عروة عن أبيه عن الزبير بن العوام رضي الله عنه أنه جعل دُوره على بنيه لا تباع ولا تورث ولا توهب وإن للمردودة من بناته أن تسكن غير مضرة ولا مضى بها، فإذا استغنت بزوج فليس لها حق "، وخرجه الدارمي في سننه (3343) عن أبي أُسَامَة عَنْ هِشَامٍ به مثله، وخرجه أبو بكر في المصنف (4/350) مختصرا من طريق هشام عن أبيه أن الزبير وقف دارا له على المردودة من بناته"، وعلقه البخاري في الصحيح، وقال ابن شبة عن أبي غسان: "واتخذ الزبير رضي الله عنه أيضا دار عروة ودار عمرو وهما متلازمتان عند خوخة القوارير، فتصدق بهما متفرقتين على عروة وعمرو وأعقابهما، فهما بأيديهما على ذلك إلى اليوم".
الأثر الخامس عشر: وفيه وقف الدور، وكتابة الوقف ولزومه، ومعاقبة من أراد الاستلاء على الأوقاف:
قال الخصاف حدثنا محمد بن عمر الواقدي حدثنا النعمان بن معن عن عبدالرحمن بن عبدالله بن كعب بن مالك (ح)، قال: وحدثنا يحيى بن عبدالله بن أبىّ عن أبيه قالا: "كان معاذ بن جبل رضي الله عنه أوسع أنصاريّ بالمدينة ربْعا، فتصدق بداره التي يقال لها دار الأنصار اليوم، وكتب صدقته"، قالا: ثم إن ابن أبي اليسر خاصم عبد الله بن أبى قتادة فى الدار وقال: تتبع هي صدقته على من لا ندرى أيكون أولا يكون، وقد قضى أبو بكر وعمر رضي الله عنهما: لا صدقة حتى يقبض، فاختصموا إلى مروان بن الحكم فجمع لهم مروان بن الحكم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأوا أن تنفذ الصدقة على ما سبّل، ورأوا حبس بن أبى اليسر ليكون له أدبا، فحبسه أياما هم كلم فيه فخلاه فلقد كان الصبيان يضحكون به".
وهذ أثر صريح في لزوم الوقف ونفاذه وعدم الرجوع فيه باتفاق الصحابة خلافا لأبي حنيفة وحده.
الأثر السادس عشر: وفيه استمرار الوقف في السلاح: برهان ذلك ما خرجه ابن العديم في تاريخ حلب وابن عساكر في تاريخه (16/271) من طريق الواقدي نا عمرو بن عبد الله بن عنبسة قال: سمعت محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان يقول: لم يزل خالد بن الوليد مع أبي عبيدة حتى توفي أبو عبيدة، واستخلف عياض بن غنم الفهري، فلم يزل خالد معه حتى مات عياض بن غنم فاعتزل خالد إلى ثغر حمص فكان فيه وحبس خيلاً وسلاحاً فلم يزل مقيما مرابطاً بحمص حتى نزل به، فدخل عليه أبو الدرداء عائداً له فقال خالد بن الوليد: إن خيلي التي حبست في الثغر وسلاحي هو على ما جعلته عليه عدة في سبيل الله قوة يغزى عليها، وتعلف من مالي، وداري بالمدينة صدقة حبس لا تباع ولا تورث، وقد كنت أشهدت عليها عمر بن الخطاب ليالي قدم الجابية، وهو كان أمرني بها، ونعم العون هو على الإسلام..".
الأثر السابع عشر: وفيه الوقف في الموارد المائية والحوائط: قال الأزرقي في أخبار مكة (2/227): "ما جاء في العيون التي أجريت في الحرم، قال: "كان معاوية بن أبي سفيان رحمه الله قد أجرى في الحرم عيونا، واتخذ لها أخيافا، فكانت حوائط، وفيها النخل والزرع، منها حائط الحمام، وله عين، وهو من حمام معاوية الذي بالمعلاة إلى موضع بركة أم جعفر، وذلك الموضع الساعة يقال له حائط الحمام، وإنما سمي حائط الحمام لأن الحمام كان في أسفله"، ثم ذكر الحوائط والعيون ثم قال: "ومنها حائط فخ، وهو قائم إلى اليوم ومنها حائط بلدح فهذه العيون العشر أجراها معاوية رحمه الله تعالى، واتخذها بمكة واتخذت بعد ذلك ببلدح عيون سواها، منها: عين سعيد بن عمرو بن سعيد بن العاص ببلدح، وهي قائمة إلى اليوم وحائط سفيان والخيف الذي أسفل منه، وهما اليوم لأم جعفر وكانت عيون معاوية تلك قد انقطعت وذهبت".
الأثر الثامن عشر: وفيه الوقف على كسوة الكعبة: كما خرج الأزرقي في أخبار مكة (1/252...) عن حبيب بن أبي ثابت قال: "كسا النبي صلى الله عليه وسلم الكعبة، وكساها أبو بكر وعمر رضي الله عنهما"، وعن نافع قال: "كان ابن عمر يكسو بدنه إذا أراد أن يحرم القباطي والحبرة، فإذا كان يوم عرفة ألبسها إياها، فإذا كان يوم النحر نزعها، ثم أرسل بها إلى شيبة بن عثمان فناطها على الكعبة"، وعن ابن جريج قال: "كانت الكعبة فيما مضى إنما تكسى يوم عاشوراء إذا ذهب آخر الحاج، حتى كانت بنو هاشم، فكانوا يعلقون عليها القمص يوم التروية من الديباج؛ لأن يرى الناس ذلك عليها بهاء وجمالا، فإذا كان يوم عاشوراء علقوا عليها الإزار"، ثم قال الأزرقي (254): "فلما كان معاوية بن أبي سفيان كساها كسوتين: كسوة عمر القباطي، وكسوة ديباج، فكانت تكسى الديباج يوم عاشوراء، وتكسى القباطي في آخر شهر رمضان للفطر، وأجرى لها معاوية وظيفة من الطيب لكل صلاة، وكان يبعث بالطيب والمجمر والخلوق في الموسم وفي رجب، وأخدمها عبيدا بعث بهم إليها، فكانوا يخدمونها، ثم اتبعت ذلك الولاة بعده"، كما ذكر الأزرقي في كتابه أشياء عجيبة في خدمة الكعبة المشرفة وتجديدها وتوسعتها عبر العصور، ثم ذكر سائر المساجد في أرض مكة وما فيها من مقابر وعيون وآبار وقفية ونحوها.
الأثر التاسع عشر وما بعده: حيث خرج الخصافُ وابن شبة في فصل طويلٍ الوقفَ في الدور والعقار وغير ذلك عن زيد ومحمد بن مسلمة ورافع بن خديج وعائشة وأم سلمة وأسماء وأم حبيبة وصفية وسعد بن أبي وقاص وابن عبادة وخالد وأبي أروى وعقبة وابن الزبير وحكيم بن حزام وهبار ونوفل بن عدي ومعاوية وعياش وخراش بن أمية...
رضي الله عن الجميع، وكلهم متوافقون مجمعون على مشروعية الوقف لما فيه من خير كثير وفضل كبير على المجتمع في سائر مجالات الحياة، وقد استمرت أوقاف الصحابة إلى عقود طويلة:
فقال ابن شبة:
"واتخذ ذؤيب بن حبيب بن تويت بن أسد بن عبد العزى، وكانت له صحبة بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد الفتح، دارا بالمصلى مما يلي السوق بين دار عبد الملك بن مروان، وبين الزقاق الذي يقال له: زقاق القفاصين، فهي بأيديهم واتخذ حكيم بن حزام داره الشارعة على البلاط إلى جنب دار مطيع بن الأسود، بينهما وبين دار معاوية بن أبي سفيان، يحجز بينهما وبين دار معاوية الطريق، فوقفها، فهي بأيديهم اليوم"، ثم ذكر أوقاف غيرهم وقال: "وهي معروفة إلى اليوم"، فرضي الله عنهم أجمعين.