أرشيف المقالات

الإنهاءات (2)

مدة قراءة المادة : 7 دقائق .
فقه التقاضي
الحلقة (86)
الإنهاءات (2)


بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه، أما بعد:
فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وحياكم الله - مستمعي الأفاضل - في برنامجكم: "فقه التقاضي"، وكنا في الحلقة الماضية شرعنا في الباب الرابع عشر من نظام المرافعات، الذي يتحدث عن تسجيل الأوقاف والإنهاءات، في ثلاثة فصول، أولها: "تسجيل الأوقاف والإنهاءات"، وثانيها: "الاستحكام"، وثالثها: "إثبات الوفاة وحصر الورثة"، وواضح من عناوين هذا الباب وفصوله أنه مخصص للحديث عن الإنهاءات.

والإنهاءات: مصطلح قضائي دارج بكثرة في محاكم المملكة العربية السعودية، يُراد به: الطلب الذي يقدمه الشخص إلى المحكمة، طالبًا فيه إعطاءه وثيقة إثبات في غير مواجهة الخصم غالبًا.

وذكرت أن لمصطلح "الإنهاءات" صورًا كثيرة، تتجاوز أربعين نوعًا، فمنها: حصر الورثة، وإقامة الولي والوصي، وإثبات النكاح والطلاق، وإثبات الإعالة، وإثبات التملك (حجج الاستحكام)، وغيرها.
 
ولكل نوع من هذه الأنواع متطلبات وإجراءات، ولكنها تشترك في الجملة بمتطلبات معينة.
 
وقد تضمن الباب الرابع عشر من نظام المرافعات الشرعية ولائحته التنفيذية أحكام وإجراءات حجج الاستحكام، وتسجيل الأوقاف وحصر الورثة، كما تضمنت التعليمات الصادرة من الجهات المشرفة على القضاء أحكام الإنهاءات الأخرى.
 
وكنت قد شرعت في الفصل الأول من الباب الرابع عشر من نظام المرافعات، وعنوانه: "تسجيل الأوقاف والإنهاءات"، ووقفنا عند المادة التاسعة والأربعين بعد المائتين من نظام المرافعات، التي توضح الشروط التي يلزم توفرها عند تسجيل وقفية عقار في المملكة مملوك لأجنبي، ونصها: (مع مراعاة قواعد تملك غير السعوديين للعقار لا يجوز تسجيل وقفية عقار في المملكة مملوك لأجنبي إلا بالشروط الآتية:
أ - أن يكون الوقف طبقًا للمقتضيات الشرعية.
ب - أن يكون الوقف على جهة بر لا تنقطع.
ج - أن يكون الوقف على أفراد سعوديين، أو على جهات خيرية سعودية.
د - أن يكون الناظر على الوقف سعوديًّا.
هـ - أن ينص في حجة الوقف أن يكون للمجلس الأعلى للأوقاف حق الإشراف على الوقف.
و - أن يكون الوقف خاضعًا لنظام الأوقاف في المملكة)
.

وفي المادة الخمسين بعد المائتين بيان الإجراء اللازم عند إرادة نقل الوقف، ونصها: (إذا اقتضى الأمر نقل وقف، فليس لناظر الوقف - سواء كان ناظرًا خاصًّا أو كان إدارة الأوقاف - أن يجري معاملة النقل إلا بعد استئذان القاضي الشرعي في البلد التي فيها الوقف، وإثبات المسوغات الشرعية التي تجيز نقله، على أن يجعل ثمنه في مثله في الحال، وكل ذلك يتم بعد موافقة محكمة التمييز).

ومعلومٌ ما ذكره الفقهاء من أن الوقف لا يجوز نقله إلا لمصلحة راجحة تستدعي ذلك؛ لأن الأصل في الوقف الثبات والدوام، ولكن قد تعرض مصلحة راجحة تجيز نقل الوقف مع المحافظة على قيمته ومصارفه.

وتوضح اللائحة التنفيذية للمادة أنه لا يجوز نقل الأوقاف خارج المملكة.

وأن نقل الوقف من بلد إلى بلد آخر داخل المملكة يقتضي إذنَ قاضي بلد الوقف، وتصديق محكمة التمييز عليه، وشراءُ بدله يكون لدى قاضي البلد المنقول إليه الوقف، بعد تحقق الغبطة والمصلحة من أهل الخبرة في الحالين.

والإذن في بيع عقار الوقف أو شرائه يكون لدى المحكمة التي في بلد العقار، بعد تحقق الغبطة والمصلحة من أهل الخبرة.

كما توضح اللائحة أن الإذن باستبدال الأوقاف الخيرية وبيعها يكون بعد موافقة مجلس الأوقاف الأعلى على ذلك.

وفي حال كون مال الوقف لا يكفي لشراء بدلٍ له لقلته، فإنه يسلم للناظر للمضاربة به، بعد إذن القاضي وتحققه من ثقة الناظر وحذقه وتصديق الإذن من محكمة التمييز، على أنه متى اجتمع لدى الناظر من ذلك ما يكفي لشراء بدل بادر بالشراء عن طريق المحكمة.

لأن ذلك سبيلٌ لتحقيق مقصود الموقف حسب الإمكان.

والعقار المملوك لسعودي أو غيره خارج البلاد السعودية لا توثق وقفيته في المحاكم السعودية؛ وذلك وفقًا للمادة الرابعة والعشرين من نظام المرافعات الشرعية السعودي، ونصها: "تختص محاكم المملكة بنظر الدعاوى التي ترفع على السعودي ولو لم يكن له محل إقامة عام أو مختار في المملكة، فيما عدا الدعاوى العينية المتعلقة بعقار واقع خارج المملكة"، فمن قوله في هذه المادة: "فيما عدا الشكاوى العينية المتعلقة بعقار واقع خارج المملكة" يظهر عدم اختصاص المحاكم السعودية بتوثيق عقار خارج المملكة، ولو كان مملوكًا لسعودي.

وأختم حديثي عن الوقف وإثباته بالتذكير بأهمية الوقف وفضله.

فالوقف من أفضل الصدقات وأعلاها وأنفعها؛ لحبس أصله، وتسبيل منفعته، وهو من خصائص أهل الإسلام؛ كما أشار إلى ذلك الإمام الشافعي رحمه الله تعالى.


وكان الصحابة رضي الله عنهم يتخيرون أنفَسَ أموالهم وأغلاها فينخلعون منها لله تعالى، يرجون عوضها في الآخرة فقد: "أصاب عمرُ بخيبر أرضًا، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: أصبت أرضًا لم أصب مالًا قط أنفَسَ منه، فكيف تأمرني به؟ قال: إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها، فتصدق عمر أنه لا يباع أصلها ولا يوهب ولا يورث، في الفقراء والقربى والرقاب وفي سبيل الله والضيف وابن السبيل، لا جناح على من ولِيَها أن يأكل منها بالمعروف، أو يطعم صديقًا غير متمول فيه"؛ رواه الشيخان.

وهذا الحديث أشهر حديث في الوقف تقررت فيه أحكامه، وتميز فيها عن سائر الصدقات، وحدد فيه صاحبُ الوقف مصارفه، حتى ذكر أنه أول وقف في الإسلام، وعده الفقهاء أصلاً في نظام الوقف، وقد تسابق الصحابة رضي الله عنهم إلى الوقف، قال جابر: لم يكن أحدٌ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ذو مقدرة إلا وقف.


وكتب التاريخ والتراجم مليئة بأخبار الأوقاف ومنافعها، وأنواع الموقوف عليه من مدارس ومكتبات وكتاتيب وأرامل وأيتام ومساكين، وأوقاف لحملة القرآن وغيرهم.

والوقف الذي تحبس فيه العين، ويستفاد من ريعها، فيه ضمان بقاء الصدقة للواقف والموقوف عليه، وحفظ عين الصدقة من التصرف فيها ببيع أو هبة أو نحوها.

والوقف دعامة للقضاء على المشكلات المالية والصحية والاجتماعية في المجتمع المسلم.

وينبغي الحرص على توثيق الأوقاف وضبطها وتحرير مصارفها بفقه ودقة، تراعى فيها حاجات الناس، مع النظر للمستقبل وتقلبات الأحوال، وسؤال أهل الخبرة في ذلك واستشارتهم.

وتأمل - يا رعاك الله - قول الحبيب صلى الله عليه وسلم: ((إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة: إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له))، واسمع قول المولى الجليل سبحانه: ﴿ لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ﴾ [آل عمران: 92].

أسأل الله تعالى لي ولكم التوفيق للعمل الصالح والعلم النافع.

شارك الخبر

المرئيات-١