أرشيف المقالات

في الحج والعمرة

مدة قراءة المادة : 35 دقائق .
في الحج والعمرة
المرتع المشبع في مواضع من الروض المربع

قوله: ((وإن أعجزه كبر، أو مرض لا يُرجى برؤه، أو ثقل لا يقدر معه على ركوب إلا بمشقَّة شديدة، لزمه أن يقيم من يحج ويعتمر عنه فورًا من حيث وَجَبا، أي: من بلده.
ويجزئ عنه، وإن عوفي بعد الإحرام...)) إلى قوله: ((وإن مات من لزماه أخرجا من تَرِكته، وإن ضاق ماله حج به من حيث بلغ، وإن مات في الطريق حج عنه من حيث مات)) [1].

قال في ((الإفصاح)): ((واختلفوا في المعضوب وهو ذو الزمانة الذي لا يستمسِكُ على الراحلة إذا قدر على مال يحج به عن نفسه، هل يلزمه الحج أم لا؟
فقال أبو حنيفة[2] ومالك[3]: لا يلزمه.

وقال الشافعي[4] وأحمد[5]: يلزمه أن يستنيب من يحج عنه))[6].

((واختلفوا في الحج، هل يسقط بالموت؟
فقال أبو حنيفة[7] ومالك[8]: يسقط، ولا يلزم الورثة أن يحجوا عنه؛ إلا أن يوصي بذلك.

وقال الشافعي[9] وأحمد[10]: لا يسقط بالموت، ويلزم الحج عنه من صُلب ماله، سواءٌ أوصى به أو لم يُوصِ.

ثم اختلفوا من أين يحج عن الميت؟
فقال أحمد[11]: يحج عنه من دويرة أهله.

وقال الشافعي[12]: يجزئ من الميقات.

وقال أبو حنيفة[13] ومالك[14]: لا يحج عنه إلا أن يوصي بذلك كما قدَّمنا، فإن أوصى به فمن أين يحج عنه؟

فقال مالك[15]: من حيث أوصى.

وقال أبو حنيفة[16]: من دويرة أهله))[17].

وقال ابن رشد:
((وأما وجوبه باستطاعة النيابة مع العجز عن المباشرة:
فعند مالك[18] وأبي حنيفة[19]: أنه لا تلزم النيابة إذا استطيعت مع العجز عن المباشرة.

وعند الشافعي[20]: أنها تلزم، فيلزم على مذهبه الذي عنده مال بقدر أن يحج به عنه غيره إذا لم يقدر هو ببدنه أن يحج عنه غيره بماله، وإن وجد من يحج عنه بماله وبدنه من أخ أو قريب سقط ذلك عنه، وهي المسألة التي يعرفونها بالمعضوب - وهو الذي لا يثبت على الراحلة - وكذلك عنده[21] الذي يأتيه الموت ولم يحج يلزم ورثته عنده أن يُخرِجوا من ماله بما يُحَج به عنه.

وسبب الخلاف في هذا: معارضة القياس للأثر، وذلك أن القياس يقتضي أن العبادات لا ينوب فيها أحد عن أحد، فإنه لا يُصلِّي أحدٌ عن أحدٍ باتفاق[22]، ولا يزكِّي أحدٌ عن أحدٍ، وأما الأثر المعارض لهذا: فحديث ابن عباس المشهور - خرَّجه الشيخان - وفيه: أن امرأة من خَثْعم قالت: يا رسول الله، فريضة الله في الحج على عبادة أدركت أبي شيخًا كبيرًا لا يستطيع أن يثبت على الراحلة، أفأحج عنه؟ قال: (نعم).
وذلك في حجَّة الوداع[23].
فهذا في الحي.

وأما في الميت فحديث ابن عباس أيضًا خرَّجه البخاري قال: جاءت امرأةٌ من جُهينة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسولَ الله، إن أمي نذرت الحجَّ فماتت أفأحجُّ عنها؟ قال: (حجِّي عنها، أرأيتِ لو كان عليها دَيْن أكنت قاضيته؟ دَيْن الله أحقُّ بالقضاء)[24].

ولا خلاف بين المسلمين أنه يقع عن الغير تطوُّعًا، وإنما الخلاف في وقوعه فرضًا))[25].

وقال الشيخ ابن سعدي:
((سؤال: من الذي يجب عليه الحج؟ وما الحكمة فيه؟
الجواب - وبالله التوفيق -: اتفق المسلمون على ما ثبت في الكتاب والسنة من وجوب الحج، وأنه أحد أركان الإسلام ومبانيه التي لا يتم إلا بها[26].

وعلى ما ورد في فضله وشرفه وكثرة ثوابه عند الله، وهذا معلومٌ بالضرورة من دين الإسلام، وقد فرضه العليم الحكيم الحميد في جميع ما شرعه وخَلَقه واختص هذا البيت الحرام وأضافه إلى نفسه، وجعل فيه وفي عرصاته والمشاعر التابعة له من الحكم والأسرار ولطائف المعارف ما يضيق علم العبد عن معرفته.

وحسبك أنه جعله قيامًا للناس، به تقوم أحوالهم، ويقوم دينهم ودنياهم، فلولا وجود بيته في الأرض وعمارته بالحج والعمرة وأنواع التعبُّدات لآذن هذا العالم بالخراب، ولهذا من أمارة الساعة واقترابها هدمه بعد عمارته، وتركه بعد زيارته؛ لأن الحج مبنيٌّ على المحبة والتوحيد الذي هو أصل الأصول كلها، فمن حين يدخل فيه الإنسان يقول: (لبيكَ اللهُمَّ لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك).
ولا يزال هذا الذِّكر وتوابعه حتى يفرغ، ولهذا قال جابر رضي الله عنه: فأهلَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتوحيد[27]؛ لأن قول المُلبِّي: (لبيكَ اللهُمَّ لبيكَ) التزام لعبودية ربِّه، وتكريرٌ لهذا الالتزام بطمأنينة نفس وانشراح صدر، ثم إثبات جميع المحامد وأنواع الثناء والملك العظيم لله تعالى ونفي الشريك عنه في ألوهيته وربوبيته وحمده وملكه، هذا حقيقة التوحيد، وهو حقيقة المحبة؛ لأنه استزادة المحب لأحبابه وإيفادهم إليه ليحظوا بالوصول إلى بيته ويتمتعوا بالتنوع في عبوديته والذل له، والانكسار بين يديه، وسؤالهم جميع مطالبهم وحاجاتهم الدينية والدنيوية في تلك المشاعر العظام والمواقف الكرام، ليجزل لهم من قراه وكرمه ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، وليحط عنهم خطاياهم ويرجعهم كما ولدتهم أمهاتهم، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة.

ولتحقق محبتهم لربهم بإنفاق نفائس أموالهم وبذل مهجهم بالوصول إلى بلد لم يكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس.

فأفضل ما أنفقت فيه الأموال وأعظمه عائدة وأكثره فوائد إنفاقها في الوصول إلى المحبوب وإلى ما يحبه المحبوب ومع هذا فقد وعدهم بإخلاف النفقة والبركة في الرزق قال تعالى: ﴿ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ ﴾ [سبأ: 39].

وأعظم ما دخل في هذا الوعد من الكريم الصادق إنفاقهما في هذا الطريق، وأفضل ما ابتذل به العبد قوته؛ واستفرغ له عمل بدنه هذه الأعمال التي هي حقيقة الأعمار، فحقيقة عمر العبد ما قضاه في طاعة سيده وكل عمل وتعب ومشقَّة ليست بهذا السبيل فهي على العبد، لا للعبد.

ثم ما في ذلك من تذكر حال العابدين وأصفيائه من الأنبياء والمرسلين قال تعالى: ﴿ وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى ﴾ [البقرة: 125].

والصحيح أنه مفرَد مضاف، ويشمل جميع مقاماته في الحج من الطواف والسعي والوقوف بالمشاعر والهدي وأصناف متعبدات الحج.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم في كل موطن من مواطن الحج ومشاعره: (لتأخذوا عني مناسككم)[28] فهو تذكير لحال الخليل إبراهيم صلى الله عليه وسلم وأهل بيته وتذكير لحال سيد المرسلين وإمامهم، وهذا أفضل وأكمل أنواع التذكيرات للعظماء تذكيرًا بأحوالهم الجليلة ومآثرهم الجميلة، والمتذكر لذلك ذاكرًا لله تعالى كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما جُعل الطواف بالبيت وبالصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله)[29].

ففي هذا من الإيمان بالله ورسله الكرام، وذكر مناقبهم وفضائلهم ما يزاد به المؤمن إيمانًا والعارف إيقانًا، ويحثه على الاقتداء بسيرهم الفاضلة وصفاتهم الكاملة.

ثم ما في اجتماع المسلمين في تلك المشاعر، واتفاقهم على عبادة واحدة ومقصود واحد ووقوف بعضهم من بعض، واتصال أهل المشارق بالمغارب في بقعة واحدة لعبادة واحدة ما يحقق الوحدة الإسلامية والأخوّة الإيمانية ويربط أقصاهم بأدناهم، ويعلمون أن الدين شاملهم، وأن مصالحه مصالحهم، وإن تناءت بهم الديار وتباعدت منهم الأقطار.

فهذا إشارة يسيرة إلى بعض الحكم والأسرار المتعلقة بهذه العبادة العظيمة فلله الحمد والثناء حيث أنعم بها عليهم وأكمل لهم دينهم وأتم عليهم نعمته ورضي لهم الإسلام دينًا.

وهذه الحكم من أقوى البراهين والأدلة على سعة رحمة الله وعموم بِرِّهِ، وأن الدين الحق الذي لا دين سواه هو الدين المشتمل على مثل هذه الأمور، والله تعالى أعلم.

وأما من يجب عليه فهو المكلف المستطيع السبيل القادر ببدنه وماله هذا هو الشرط الخاص في الحج، ولهذا اقتصر الله على ذكره في قوله: ﴿ وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا ﴾ [آل عمران: 97].

ويدخل في الاستطاعة: أمن الطريق والبلد، وسعة الوقت، ووجود مَحْرَم للمرأة؛ لأنه من باب الاستطاعة الشرعية، فمن عجز عنه ببدنه وماله لم يكن عليه شيء، ومن عَجَزَ عنه ببدنه، وقدر عليه بماله كالكبير الذي لا يستطيع الثبوت على الراحلة، والمريض المأيوس من عافيته، أناب عنه من يحج عنه، وإن كان قادرًا ببدنه وليس له مال والمسافة قريبة وجب عليه؛ لأنه متحقق استطاعته، وإن كانت المسافة بعيدة ففي وجوبه عليه قولان[30]، المذهب منهما عدم وجوبه والله أعلم))[31].

وقال البخاري: ((باب: المحرِم يموت بعَرَفة ولم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يؤدي عنه بقية الحج))[32].

قال الحافظ: ((يعني لم يُنقل، وذكر فيه حديث ابن عباس في الرجل المحرم الذي وقع عن بعيره بعرفة فمات[33])[34].

وقال الحافظ في باب الكفن في ثوبين: ((واستدل بالحديث على ترك النيابة في الحج؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يأمر أحدًا أن يكمل عن هذا المحرم أفعال الحج، وفيه نظرٌ لا يخفى.

وقال ابن بطَّال[35]: وفيه أن من شرع في عمل طاعة ثم حال بينه وبين إتمامه الموت رُجِي له أن الله يكتبه في الآخرة من أهل ذلك العمل))[36].

وقال البخاري أيضًا: ((باب: الحج والنذور عن الميت والرجل يحج عن المرأة.

وذكر حديث ابن عباس رضي الله عنهما: أن امرأة من جُهينة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: إن أمي نذرت أن تحج فلم تحج حتى ماتت، أفأحجُّ عنها؟ قال: (نعم حُجِّي عنها، أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته؟ اقضوا الله، فالله أحقُّ بالوفاء)[37])).

قال الحافظ: ((قوله: (باب: الحج والنذور عن الميت والرجل يحج عن المرأة) يعني: أن حديث الباب يستدل به على الحكمين، وفيه على الحكم الثاني نظر، لأن لفظ الحديث: أن امرأة سألت عن نذر كان على أبيها فكان حق الترجمة أن يقول: والمرأة تحج عن الرجل، وأجاب ابن بطَّال[38] بأن النبي صلى الله عليه وسلم خاطب المرأة بخطاب دخل فيه الرجال والنساء وهو قوله: (اقضوا الله).
قال: ولا خلاف في جواز حج الرجل عن المرأة، والمرأة عن الرجل، ولم يخالف في جواز حج الرجل عن المرأة، والمرأة عن الرجل إلا الحسن بن صالح.

قال الحافظ: والذي يظهر لي أن البخاري أشار بالترجمة إلى رواية شعبة، عن أبي بشر في هذا الحديث فإنه قال فيها: أتى رجلٌ للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن أختي نذرت أن تحجَّ...
الحديث.
وفيه: (فاقضِ الله فهو أحقُّ بالقضاء)[39] أخرجه المصنِّف في كتاب النذور...

إلى أن قال: واستدل به على صحَّة نذر الحج ممن لم يحج فإذا حجَّ أجزأه عن حجة الإسلام عند الجمهور[40]، وعليه الحج عن النذر.

وقيل[41]: يُجزئ عن النذر ثم يحج حجة الإسلام.

وقيل: يجزئ عنهما.

وفيه: إجزاء الحج عن الميت، وفيه اختلاف.
فروى سعيد بن منصور وغيره، عن ابن عمر بإسناد صحيح: (لا يحج أحدٌ عن أحدٍ)[42].
ونحوه عن مالك[43] والليث.

وعن مالك أيضًا[44]: إن أوصى بذلك فليحج عنه، وإلا فلا.

وسيأتي البحث في ذلك في الباب الذي يليه، وفيه: أن من مات وعليه حجٌّ وجب على وليِّه أن يجهز مَن يحج عنه من رأس ماله، كما أن عليه قضاء ديونه، فقد أجمعوا على أن دين الآدمي من رأس ماله[45]، فكذلك ما شبه به في القضاء.

ويلتحق بالحج كل حق ثبت في ذِمَّته من كفَّارة أو نذر أو زكاة أو غير ذلك))[46].

وقال البخاري أيضًا: ((باب: الحج عمن لا يستطيع الثبوت على الراحلة.

وذكر حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: جاءت امرأة من خثعم عام حجة الوداع قالت: يا رسول الله، إن فريضة الله أدركت أبي شيخًا كبيرًا لا يستطيع أن يستوي على الراحلة فهل يقضي عنه أن أحجَّ عنه؟ قال: (نعم)[47])).

قال الحافظ: ((قوله: (باب: الحج عمن لا يستطيع الثبوت على الراحلة) أي: من الأحياء؛ خلافًا لمالك[48] في ذلك ولمن قال: (لا يحج أحدٌ عن أحدٍ) مطلقًا كابن عمر.

ونقل ابن المنذر وغيره الإجماعَ على أنه لا يجوز أن يستنيب من يقدر على الحج بنفسه في الحج الواجب[49]، وأما النفل فيجوز عند أبي حنيفة[50] خلافًا للشافعي[51]، وعن أحمد روايتان[52]))[53].

وقال البخاري أيضًا: ((باب: حج المرأة عن الرجل.
وذكر الحديث[54])).

قال الحافظ: ((وفي هذا الحديث من الفوائد جواز الحج عن الغير.
واستدل الكوفيون[55] بعمومه على جواز صحة حَجِّ مَن لم يحج نيابة عن غيره، وخالفهم الجمهور[56] فخصُّوه بمن حجَّ عن نفسه، واستدلوا بما في ((السنن)) و((صحيح ابن خزيمة)) وغيره من حديث ابن عباس أيضًا أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجُلاً يلبِّي عن شُبْرُمَة، فقال: (أحججت عن نفسِكَ؟) فقال: لا، قال: (هذه عن نفسك، ثم احجج عن شُبْرُمَة)[57].
واستدل به على أن الاستطاعة تكون بالغير كما تكون بالنفس، وعكس بعض المالكية[58] فقال: من لم يستطع بنفسه لم يلاقه الوجوب.

وأجابوا عن حديث الباب بأن ذلك وقع من السائل على جهة التبرع، وليس في شيء من طرقه تصريح بالوجوب، وبأنها عبادة بدنية، فلا تصح النيابة فيها كالصلاة.

وقد نقل الطبري وغيره الإجماعَ على أن النيابة لا تدخل في الصلاة[59]، قالوا: ولأن العبادات فُرضت على جهة الابتلاء، وهو لا يوجد في العبادات البدنية إلا بإتعاب البدن، فَبِهِ يظهر الانقياد أو النفور، بخلاف الزكاة فإن الابتلاء فيها بنقص المال وهو حاصل بالنفس وبالغير.

وأُجيب: بأن قياس الحج على الصلاة لا يصح؛ لأن عبادة الحج مالية بدنية معًا فلا يترجَّح إلحاقها بالصلاة على إلحاقها بالزكاة، ولهذا قال المازَري[60]: من غلَّب حكم البدن في الحج ألحقه بالصلاة، ومن غلَّب حكم المال ألحقه بالصدقة.
وقد أجاز المالكية[61] الحج عن الغير إذا أوصى به ولم يجيزوا ذلك في الصلاة، وبأن حصر الابتلاء في المباشرة ممنوع؛ لأنه يوجد في الأمر من بذله المال في الأجرة.

وقال عياض[62]: لا حجة للمخالف في حديث الباب؛ لأن قوله: (إن فريضة الله على عباده...) إلى آخره.
معناه: أن إلزام الله عباده بالحج الذي وقع بشرط الاستطاعة صادف أبي بصفة من لا يستطيع، فهل أحج عنه؟ أي: هل يجوز لي ذلك؟ أو هل فيه أجر ومنفعة؟ فقال: (نعم).

وتُعقِّب: بأن في بعض طرقه التصريح بالسؤال عن الإجزاء؛ فيتم الاستدلال، وتقدم في بعض طرق مسلم: (إن أبي عليه فريضة الله في الحج)[63].
ولأحمد في رواية: (والحج مكتوب عليه)[64].

وادَّعى بعضُهم أن هذه القصة مختصة بالخثعمية، كما اختص سالم مولى أبي حذيفة بجواز إرضاع الكبير.
حكاه ابن عبدالبَرِّ[65].

وتُعقِّبَ: بأن الأصل عدم الخصوصية، واحتجَّ بعضُهم لذلك بما رواه عبدالملك بن حبيب صاحب ((الواضحة)) بإسنادين مرسلين، فزاد في الحديث: (حج عنه وليس لأحد بعده) ولا حُجَّة فيه؛ لضعف الإسنادين مع إرسالهما، وقد عارضه قوله في حديث الجهنية: (اقضوا الله فالله أحق بالوفاء)[66].

وادَّعى آخرون منهم أن ذلك خاص بالابن يحج عن أبيه.
ولا يخفى أنه جمود.

وقال القرطبي[67]: رأى مالك أن ظاهر حديث الخثعمية مخالف لظاهر القرآن فرجَّح ظاهر القرآن، ولا شك في ترجيحه من جهة تواتره ومن جهة أن القول المذكور قول امرأة ظنَّت ظنًا.
قال: ولا يقال: قد أجابها النبي صلى الله عليه وسلم على سؤالها، ولو كان ظنها غلطًا لبينه لها؛ لأنا نقول: إنما أجابها عن قولها: أفأحج عنه.
قال: (حجِّي عنه).
لما رأى من حرصها على إيصال الخير والثواب لأبيها.

قال الحافظ: وتُعقِّب بأن في تقرير النبي صلى الله عليه وسلم لها على ذلك حجة ظاهرة.
وأما ما رواه عبدالرزاق[68] من حديث ابن عباس فزاد في الحديث: (حُجَّ عن أبيك، فإن لم يزده خيرًا لم يزده شرًّا)، فقد جزم الحفَّاظ بأنها رواية شاذة، وعلى تقدير صحتها فلا حُجَّة فيها للمخالف.

ومن فروع المسألة: أن لا فرق بين من استقر الوجوب في ذمته قبل العضب، أو طرأ عليه خلافًا للحنفية[69].

وللجمهور ظاهر قصة الخثعمية، وأن من حج عن غيره وقع الحج عن المستنيب[70]، خلافًا لمحمد بن الحسن[71] فقال: يقع عن المباشر وللمحجوج عنه أجر النفقة.

واختلفوا فيما إذا عوفي المعضوب:
فقال الجمهور[72]: لا يجزئه؛ لأنه تبين أنه لم يكن ميؤوسًا منه.

وقال أحمد[73] وإسحاق: لا تلزمه الإعادة؛ لئلا يفضي إلى إيجاب حجتين.

واتَّفق من أجاز النيابة في الحج على أنها لا تجزئ في الفرض إلا عن موت أو عضب، فلا يدخل المريض؛ لأنه يُرجى برؤه، ولا المجنون؛ لأنه تُرجى إفاقته، ولا المحبوس؛ لأنه يُرجى خلاصه، ولا الفقير؛ لأنه يمكن استغناؤه[74]، والله أعلم...

إلى أن قال: وقال ابن العربي[75]: حديث الخثعمية أصلٌ متفقٌ على صحته في الحج، خارج عن القاعدة المستقرِّة في الشريعة من أن ﴿ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى ﴾ [النجم: 39] رفقًا من الله في استدراك ما فرَّط فيه المرء بولده وماله.

وتُعقِّبَ: بأنه يمكن أن يدخل في عموم السعي، وبأن عموم السعي في الآية مخصوص اتفاقًا))[76].

[1] الروض المربع ص193- 194.

[2] فتح القدير 2/ 125، وحاشية ابن عابدين 2/ 488.

[3] المنتقى شرح الموطأ 2/ 269.

[4] تحفة المحتاج 4/ 29- 30، ونهاية المحتاج 3/ 252- 253.

[5] شرح منتهى الإرادات 2/ 425، وكشاف القناع 6/ 45- 46.

[6] الإفصاح 1/ 451.

[7] بدائع الصنائع 2/ 221، وحاشية ابن عابدين 2/ 638- 639.

[8] المنتقى شرح الموطأ 2/ 271.

[9] تحفة المحتاج 4/ 28- 29، ونهاية المحتاج 3/ 252.

[10] شرح منتهى الإرادات 2/ 426، وكشاف القناع 6/ 50.

[11] شرح منتهى الإرادات 2/ 425- 426، وكشاف القناع 6/ 51.

[12] تحفة المحتاج 7/ 69، ونهاية المحتاج 6/ 89- 90.

[13] بدائع الصنائع 2/ 221، وحاشية ابن عابدين 2/ 638- 639.

[14] المنتقى شرح الموطأ 2/ 271.

[15] التاج والإكليل 3/ 525، وحاشية الدسوقي 2/ 12.

[16] فتح القدير 2/ 317، وحاشية ابن عابدين 2/ 643- 644.

[17] الإفصاح 1/ 453.

[18] المنتقى شرح الموطأ 2/ 269.

[19] فتح القدير 2/ 125، وحاشية ابن عابدين 2/ 488.

[20] تحفة المحتاج 4/ 29- 30، ونهاية المحتاج 3/ 252- 253.

[21] تحفة المحتاج 4/ 28- 29، ونهاية المحتاج 3/ 252.

[22] فتح القدير 2/ 309- 310، وحاشية ابن عابدين 2/ 636، والشرح الصغير 1/ 246، وحاشية الدسوقي 2/ 17- 18، وتحفة المحتاج 3/ 435، ونهاية المحتاج 1/ 454، وشرح منتهى الإرادات 1/ 253، وكشاف القناع 2/ 22.

[23] البخاري 1513، ومسلم 1334.

[24] البخاري 1852، من طريق ابن عباس رضي الله عنهما.

[25] بداية المجتهد 1/ 297.

[26] الإجماع 136، وفتح القدير 2/ 116، وحاشية ابن عابدين 2/ 484، والشرح الصغير 1/ 260، وحاشية الدسوقي 2/ 2، وتحفة المحتاج 4/ 4، ونهاية المحتاج 3/ 234، وشرح منتهى الإرادات 2/ 412، وكشاف القناع 6/ 10.

[27] أخرجه مسلم 1218.

[28] أخرجه مسلم 1297، من حديث جابر بن عبدالله رضي الله عنهما.

[29] أخرجه أبو داود 1888، والترمذي 902، وأحمد 6/ 64، وابن خزيمة 4/ 279 2882، من طريق عبيدالله بن أبي زياد، عن القاسم بن محمد، عن عائشة رضي الله عنها، به.
قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
وقال الألباني في ضعيف أبي داود 2/ 170: إسناده ضعيف؛ عبيدالله بن أبي زياد - وهو: القداح - فيه ضعف، وقد اضطرب في إسناده؛ فرواه تارة مرفوعًا، وتارة موقوفًا، وهو الصواب الذي رواه الثقات.

[30] الإنصاف مع المقنع والشرح الكبير 8/ 41- 42، وشرح منتهى الإرادات 2/ 422، وكشاف القناع 6/ 37.

[31] الإرشاد ص474- 476.

[32] فتح الباري 4/ 63.

[33] البخاري 1849- 1850.

[34] فتح الباري 4/ 64.

[35] شرح صحيح البخاري 8/ 116.

[36] فتح الباري 3/ 136.

[37] البخاري 1852.

[38] شرح صحيح البخاري 8/ 118.

[39] البخاري 6699.

[40] فتح القدير 2/ 331، والبحر الرائق 3/ 81، وتحفة المحتاج 10/ 91، ونهاية المحتاج 8/ 230- 231، وشرح منتهى الإرادات 2/ 428- 429، وكشاف القناع 6/ 57- 58.

[41] حاشية الدسوقي 2/ 71.

[42] أخرجه ابن أبي شيبة 3/ 380.

[43] المنتقى شرح الموطأ 2/ 271.

[44] المنتقى شرح الموطأ 2/ 271، والشرح الصغير 1/ 264، وحاشية الدسوقي 2/ 19.

[45] حاشية ابن عابدين 6/ 813- 814، والشرح الصغير 2/ 479، وحاشية الدسوقي 4/ 458، وتحفة المحتاج 6/ 383- 384، ونهاية المحتاج 6/ 6، وشرح منتهى الإرادات 2/ 76، وكشاف القناع 10/ 330.

[46] فتح الباري 4/ 65- 66.

[47] البخاري 1854.

[48] المنتقى شرح الموطأ 2/ 271.

[49] الإجماع 209، وفتح القدير 2/ 310، وحاشية ابن عابدين 2/ 637، والشرح الصغير 2/ 182، وحاشية الدسوقي 2/ 17، وتحفة المحتاج 4/ 29- 30، ونهاية المحتاج 3/ 252- 253، وشرح منتهى الإرادات 2/ 425، وكشاف القناع 6/ 45.

[50] فتح القدير 2/ 309، وحاشية ابن عابدين 2/ 636.

[51] تحفة المحتاج 4/ 28.

[52] الإنصاف مع المقنع والشرح الكبير 8/ 95- 96، وشرح منتهى الإرادات 2/ 430، وكشاف القناع 6/ 59.

[53] فتح القدير 4/ 66.

[54] البخاري 1855، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.

[55] فتح القدير 2/ 320- 321، وحاشية ابن عابدين 2/ 641- 642.

[56] الشرح الصغير 1/ 264، وحاشية الدسوقي 2/ 18، وتحفة المحتاج 4/ 32، ونهاية المحتاج 3/ 254، وشرح منتهى الإرادات 2/ 428، وكشاف القناع 6/ 56- 57.

[57] أخرجه أبو داود 1811، وابن ماجه 2903، ابن خزيمة 4/ 345 3039.
وصحَّحه: البيهقي، وابن الملقن، وابن حجر.
ورجَّح الإمامُ أحمدُ وقْفَهُ على ابن عباس رضي الله عنهما.
انظر: البدر المنير 6/ 46، والتلخيص الحبير 2/ 223، وفتح الباري 12/ 327.

[58] المنتقى شرح الموطأ 2/ 271.

[59] فتح القدير 2/ 309- 310، وحاشية ابن عابدين 2/ 636، والشرح الصغير 1/ 246، وحاشية الدسوقي 2/ 17- 18، وتحفة المحتاج 3/ 435، ونهاية المحتاج 1/ 454، وشرح منتهى الإرادات 1/ 253، وكشاف القناع 2/ 22.

[60] المعلم 2/ 72.

[61] الشرح الصغير 1/ 264، وحاشية الدسوقي 2/ 17- 18.

[62] إكمال المعلم 4/ 436.

[63] مسلم 1335.

[64] أحمد 4/ 5.

[65] الاستذكار 4/ 164.

[66] سبق تخريجه 3/ 233.

[67] المفهم 3/ 442.

[68] وأخرجه من طريقه ابن ماجه 2904.

[69] فتح القدير 2/ 126، وحاشية ابن عابدين 2/ 637.

[70] فتح القدير 2/ 309، وحاشية ابن عابدين 2/ 641، والمنتقى شرح الموطأ 2/ 269- 270، وتحفة المحتاج 4/ 29- 30، ونهاية المحتاج 3/ 252- 253، وشرح منتهى الإرادات 2/ 425، وكشاف القناع 6/ 45- 46.

[71] فتح القدير 2/ 309- 310، وحاشية ابن عابدين 2/ 641.

[72] فتح القدير 2/ 310، وحاشية ابن عابدين 2/ 637- 638، وتحفة المحتاج 4/ 30، ونهاية المحتاج 3/ 253.

[73] شرح منتهى الإرادات 2/ 426، وكشاف القناع 6/ 46.

[74] فتح القدير 2/ 310، وحاشية ابن عابدين 2/ 637، وحاشية الدسوقي 2/ 17، وشرح منح الجليل 1/ 449، وتحفة المحتاج 4/ 29، ونهاية المحتاج 3/ 252- 253، وشرح منتهى الإرادات 2/ 425، وكشاف القناع 6/ 45.

[75] عارضة الأحوذي 4/ 158.

[76] فتح الباري 4/ 69- 70.

شارك الخبر

فهرس موضوعات القرآن