نفقة المطلقة
مدة
قراءة المادة :
18 دقائق
.
نفقة المطلقةقوله: (ولها أخذ نفقة كل يوم من أوله لا قيمتها...) إلى قوله: (فإذا غاب ولم ينفق لزمته نفقة ما مضى...) إلى آخره[1].
قال في "المقنع": "وعليه دفع النفقة إليها في صدر نهار كل يوم إلا أن يتفقا على تأخيرها أو تعجيلها لمدة قليلة أو كثيرة، فيجوز.
وإن طلب أحدهما دفع القيمة لم يلزم الآخر ذلك، وعليه كسوتها في كل عام، فإذا قبضتها فسُرقت أو تلفت لم يلزمه عوضها.
وإن انقضت السنة وهي صحيحة فعليه كسوة السنة الأخرى، ويحتمل ألا يلزمه.
وإن ماتت أو طلقها قبل مضي السنة فهل يرجع عليها بقسط بقية السنة؟ على وجهين[2].
وإذا قبضت النفقة فلها التصرف فيها على وجه لا يضر بها ولا ينهك بدنها [فيجوز لها بيعها وهبتها والصدقة بها وغير ذلك][3]، وإن غاب عنها مدة ولم ينفق فعليه نفقة ما مضى.
وعنه[4]: لا نفقة لها إلا أن يكون الحاكم قد فرض لها"[5].
قال في "الحاشية": "قوله: (وعليه دفع النفقة إليها في صدر نهار كل يوم بطلوع الشمس)؛ لأنه أول وقت الحاجة.
قوله: (إلا أن يتفقا على تأخيرها أو تعجيلها لمدة قليلة أو كثرة فيجوز)؛ لأن الحق لهما وتملكه بقبضه.
واختار الشيخ تقي الدين[6]: لا يلزمه تمليك بل يُنفق ويكسو بحسب العادة، فإن الإنفاق بالمعروف ليس هو التمليك.
قوله: (وإن طلب أحدهما دفع القيمة لم يلزم الآخر ذلك)؛ لأنها معاوضة فلا يُجبر عليها واحد منهما، وإن تراضيا عليه جاز؛ لأنه طعام وجب في الذمة لآدمي معين فجازت المعاوضة عنه كالطعام في الفرض، وظاهره أن الحاكم لا يملك فرض غير الواجب كدراهم مثلاً إلا باتفاقهما فلا يجبر من امتنع.
قال في "الهدى"[7]: لا أصل في كتاب ولا سنة ولا نص عليه أحد من الأئمة؛ لأنها معاوضة بغير الرضا عن غير مستقر.
قال في "الفروع"[8]: وهذا متوجه مع عدم الشقاق، فأما مع الشقاق والحاجة كالغائب فيتوجه الفرض للحاجة إليه على ما لا يخفى، ولا يقع الفرض بدون ذلك بغير الرضا.
قوله: (وعليه كسوتها في كل عام) أوله على الأصح[9].
قوله: (فإذا قبضتها فسُرقت أو تلفت لم يلزمه عوضها، لكن لو بليت في الوقت الذي يبلى فيه مثلها لزمه بلدها، وإن بليت قبله لكثرة دخولها وخروجها فلا، أشبه ما لو أتلفتها).
قوله: (وإن انقضت السنة وهي صحيحة فعليه كسوة السنة الأخرى) هذا المذهب[10]؛ لأن الاعتبار بمضي الزمان دون بقائها بدليل ما لو تلفت.
قوله: (ويحتمل ألا يلزمه) قال في "الإنصاف": وهو قوي جداً؛ لأنها غير محتاجة إلى الكسوة.
قوله: (وإن ماتت أو طلقها قبل مضي السنة فهل يرجع عليها بقسط بقية السنة؟) على وجهين:
أصحهما[11] يرجع؛ لأنه وقع لمدة مستقبلة كما لو دفع إليها نفقة مدة ثم طلقها قبل انقضائها.
وقيل: لا يرجع[12].
انتهى.
قلت: وهذا أقرب لقول الله تعالى: ﴿ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ ﴾ [البقرة: 229].
قوله: (وإن غاب عنها مدة ولم ينفق فعليه نفقة ما مضى) هذا المذهب[13]، ولا تسقط سواء تركها لعُذر أو غيره؛ لما رُوي أن عُمر كتب إلى أُمراء الأجناد في رجال غابوا عن نسائهم فأمرهم أن يأخذوهم بأن ينفقوا أو يطلقوا، فإن طلقوا بعثوا بنفقة ما حبسوا، ورواه البيهقي أيضاً[14].
قال ابن المنذر[15]: وهذه نفقة وجبت بالكتاب والسنة والإجماع[16].
ولا يزول ما وجب بهذه الحجج إلا بمثلها، والكسوة والسكنى كالنفقة.
فوائد:
الأولى: لو استدانت وأنفقت رجعت على زوجها مطلقاً، نقله أحمد بن هاشم.
قال في "الفروع": ويتوجه الروايتان في من ادعى عن غيره واجباً[17].
الثانية: لو أنفقت في غيبته من ماله فبان ميتاً رجع عليها الوارث على الصحيح من المذهب[18].
انتهى.
وعنه[19]: لا يرجع، وهو الأقرب.
الثالثة: لو أكلت مع زوجها عادة أو كساها بلا إذن ولم يتبرع، سقطت عنه مطلقاً على الصحيح من المذهب[20].
وقال في "الرعاية": وهو ظاهر كلامه في "المغني"، إن نوى اعتد بها وإلا فلا"[21].
وقال في "الإفصاح": "واختلفوا فيما إذا مضى الزمان، هل تسقط النفقة بمضيه؟
فقال أبو حنيفة[22]: تسقط بمضيه ما لم يحكم به حاكم أو يتفقان على قدر معلوم فتصير ديناً باصطلاحهما.
وقال مالك[23] والشافعي[24] وأحمد[25] في أظهر روايتيه: لا تسقط النفقة بمضي الزمان.
وعن أحمد رواية أخرى[26]: أن النفقة السالفة لا تملك المطالبة بها إلا أن يكون القاضي قد فرضها لها"[27].
وقال البخاري: "(باب نفقة المرأة إذا غاب عنها زوجها، ونفقة الولد")[28].
وقال أيضاً: "(باب: إذا لم يُنفق الرجل فللمرأة أن تأخذ بغير علمه ما يكفيها وولدها).
وذكرت حديث عائشة أن هنداً بنت عتبة قالت: يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل شحيح، وليس يعطيني ما يكفني وولدي إلا ما أخذت منه وهو لا يعلم، فقال: (خُذي ما يكفيك وولدك بالمعروف)[29]".
قال القرطبي[30]: والمراد (بالمعروف) القدر الذي عرف بالعادة أنه الكفاية.
قال الحافظ: "وفيه: أن القول قول الزوجة في قبض النفقة.
وفيه: وجوب نفقة الزوجة وأنها مقدرة بالكفاية"[31] انتهى ملخصاً.
وقال في "الاختيارات": "وعلى الولد الموسر أن ينفق على أبيه المعسر وزوجة أبيه، وعلى إخوته الصغار، ولا يلزم الزوج تمليك الزوجة النفقة والكسوة، بل ينفق ويكسو بحسب العادة؛ لقوله عليه السلام: (إن حقها عليك أن تطعمها إذا طعمت، وتكسوها إذا اكتسيت)[32]، كما قال عليه السلام في المملوك ثم المملوك، لا يجب له التمليك إجماعاً، وإن قيل: إنه يملك بالتمليك، ويتخرج هذا أيضاً من إحدى الروايتين[33]: في أنه لا تجب الكفارة على الفقير، بل هنا أولى للعسر والمشقة.
وإذا انقضت السنة والكسوة صحيحة قال أصحابنا[34]: عليه كسوة السنة الأخرى، وذكروا احتمالاً أنه لا يلزمه شيء، وهذا الاحتمال قياس المذهب[35]؛ لأن النفقة والكسوة غير مقدرة عندنا، فإذا كفتها الكسوة عدة سنين لم يجب غير ذلك، وإنما يتوجه ذلك على قول من يجعلها مقدرة، وكذلك على قياس هذا لو استبقت من نفقة أمس لليوم، وذلك أنها وإن وجبت معاوضة فالعوض الآخر لا يشترط الاستبقاء[36] فيه ولا التمليك، بل التمكين من الاستمتاع فكذلك عوضه، ونظير هذا الأجير بطعامه وكسوته.
ويتوجه على ما قلنا أن قياس المذهب أن الزوجة إذا قبضت النفقة ثم تلفت أو سُرقت أنه يلزم الزوج عوضها، وهو قياس قولنا في الحاج عن الغير: إذا كان ما أخذه نفقة تلف فإنه يتلف من ضمان مالكه.
قال في "المُحرر": ولو أنفقت من ماله وهو غائب فتبين موته فهل يُرجع عليها بما أنفقت بعد موته؟ على روايتين[37].
قال أبو العباس: وعلى قياسه كل من أبيح له شيء وزالت الإباحة بفعل الله، أو بفعل المبيح كالمعير إذا مات أو رجع، والمانح وأهل الموقوف عليه.
لكن لم يذكر الجد ههنا إذا طلق، فلعله يفرق بين الموت والطلاق، فإن التفريط في الطلاق منه، والقول في دفع النفقة والكسوة قول من يشهد له العرف، وهو مذهب مالك[38].
ويُخرج على مذهب أحمد في تقديمه الظاهر على الأصل، وعلى أحد الوجهين فيما إذا أصدقها تعليم قصيدة، ووجدت حافظة لها، وقالت: تعلمتها من غيره، وقال: بل مني، أن القول قول الزوج[39].
وإذا خلا بزوجته استقر المهرُ عليه، ولا تُقبل دعواه عدم علمه بها ولو كان أعمى، نص عليه الإمام أحمد[40]؛ لأن العادة أنه لا يخفى عليه ذلك فقدمت هنا العادة على الأصل، فكذا دعواه الإنفاق، فإن العادة هناك أقوى.
ولو أنفق الزوج على الزوجة وكساها مدة ثم ادعى الولي عدم إذنه وأنها تحت حجره لم يُسمع قوله إذا كان الزوج قد تسلمها التسليم الشرعي باتفاق أئمة العلماء، وخالف فيه شذوذ من الناس، وإقرار الولي لها عنده مع حاجتها إلى النفقة والكسوة إذن عُرفي"[41].
[1] الروض المربع ص457و 458.
[2] شرح منتهى الإرادات 5 / 657، وكشاف القناع 13 / 131، والإنصاف مع المقنع والشرح الكبير 24 / 337و 338.
[3] ما بين المعقوفين ليس من "المقنع"، بل من كلام صاحب "الشرح الكبير" 24 / 388.
[4] الإنصاف مع المقنع والشرح الكبير 24 / 339.
[5] المقنع 3 / 311و 312، والإنصاف مع المقنع والشرح الكبير 24 / 338و 339.
[6] الإنصاف مع المقنع والشرح الكبير 24 / 332.
[7] زاد المعاد 5 / 510.
[8] الفروع 5 / 582.
[9] شرح منتهى الإرادات 5 / 656، وكشاف القناع 13 / 130.
[10] شرح منتهى الإرادات 5 / 657، وكشاف القناع 13 / 130.
[11] شرح منتهى الإرادات 5 / 657، وكشاف القناع 13 / 130.
[12] الإنصاف مع المقنع والشرح الكبير 24 / 337و 338.
[13] شرح منتهى الإرادات 5 / 658، وكشاف القناع 13 / 132.
[14] 7 / 469.
وأخرجه أيضاً الشافعي في مسنده 2 / 65 213، وعبد الرزاق 7 / 93 - 94 12346، من طريق عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما، عن عمر رضي الله عنه، به.
قال ابن الملقن في البدر المنير 8 / 315: إسناده جيد.
[15] الإشراف 5 / 160 2852.
[16] فتح القدير 3 / 321، وحاشية ابن عابدين 3 / 601.
والشرح الصغير 1 / 518، وحاشية الدسوقي 2 / 508.
وتحفة المحتاج 8 / 302، ونهاية المحتاج 7 / 187.
وشرح منتهى الإرادات 5 / 649، وكشاف القناع 13 / 113.
[17] الفروع 5 / 584.
[18] شرح منتهى الإرادات 5 / 657و 658، وكشاف القناع 13 / 133.
[19] الإنصاف مع المقنع والشرح الكبير 24 / 341.
[20] شرح منتهى الإرادات 5 / 656، وكشاف القناع 13 / 129.
[21] حاشية المقنع 3 / 311و 312، وانظر: الإنصاف مع المقنع والشرح الكبير 24 / 332 - 341.
[22] فتح القدير 3 / 332، وحاشية ابن عابدين 3 / 623.
[23] الشرح الصغير 1 / 527، وحاشية الدسوقي 2 / 519و 520.
[24] تحفة المحتاج 5 / 135، ونهاية المحتاج 4 / 328.
[25] شرح منتهى الإرادات 5 / 658، وكشاف القناع 13 / 132و 133.
[26] الإنصاف مع المقنع والشرح الكبير 24 / 339.
[27] الإفصاح 2 / 182.
[28] فتح الباري 9 / 504.
[29] البخاري 5364.
[30] المفهم 5 / 160.
[31] فتح الباري 9 / 509.
[32] أخرجه أبو داود 2142، وابن ماجه 1850، والنسائي في الكبرى 5 / 373 9171 و6 / 323 11104، من حديث معاوية بن حيدة القشيري رضي الله عنه.
قال ابن حجر في التلخيص الحبير 4 / 7 1661: رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه والحاكم من حديث معاوية بن حيدة وزادوا في آخره: "ولا تقبح ولا تهجر إلا في البيت" وقد علق البخاري هذه الزيادة حسب، وصححه الدارقطني في "العلل".
[33] شرح منتهى الإرادات 2 / 371، وكشاف القناع 5 / 278.
[34] شرح منتهى الإرادات 5 / 657، وكشاف القناع 13 / 131.
[35] الإنصاف مع المقنع والشرح الكبير 24 / 336.
[36] كذا في الأصل، وفي نسخة: "الاستيفاء" ولعله الصواب.
[37] شرح منتهى الإرادات 5 / 657و 658، وكشاف القناع 13 / 133، والإنصاف مع المقنع والشرح الكبير 24 / 341.
[38] الشرح الصغير 1 / 525، وحاشية الصاوي 2 / 521و 522.
[39] الإنصاف مع المقنع والشرح الكبير 21 / 97.
[40] شرح منتهى الإرادات 5 / 265و 266، وكشاف القناع 11 / 495.
[41] الاختيارات الفقهية ص284 و285.