أرشيف المقالات

أثر التدرج في الدعوة إلى التوحيد

مدة قراءة المادة : 6 دقائق .
أثر التدرج في الدعوة إلى التوحيد

لقد بات واضحًا وضوح الشمس في وضَح النهار في أيام الصيف، وجليًّا جلاء القمر حينما تراه كاملاً مستديرًا منيرًا - أن التدرُّج سنة ربَّانية وقانون إلهي؛ فكان خلق السموات والأرض، وخلق الإنسان على مراحل، وليس في لحظة واحدة؛ ليُعلمنا الله تعالى التمهُّل والأناة، ويدلنا على قانون الحياة، ويُرشِدنا كيف أن البناء لا بد له من إعداد وإحكام، وكيف يكون البَدْء، فالبَدْء دائمًا يكون بالأهم، وبالأساس، ثم الأعمدة والأركان، ثم تكون التكميلات والتحسينات؛ فالأهم هو توحيد الله عز وجل، فإذا استقر التوحيد وملأ الإيمان القلبَ، كان الانقياد والإذعان لأوامر الله تعالى وقَبول التكاليف برضا وارتياح.
 

لقد كان العرب قبل الإسلام يعيشون في جاهلية وكفر وشرك بالله عز وجل؛ فمنهم مَن كان يعبد أصنامًا من حجرٍ أو من شجرٍ أو من "عجوة"، فإذا جاع أحدهم ولم يجد طعامًا أكل صنمَه، وصنع غيره بعد ذلك، ومنهم مَن يعترف بوجود الله - عز وجل - وأنه المُدبِّر لهذا الكون، لكنه كان يتَّخِذ هذه الأصنام قربى إلى الله تعالى، ومنهم مَن يقول: إن الملائكة بنات الله، وكان هذا الضلال البعيد سائدًا في مكة وما حولها.
 
وكان هناك في مناطق أخرى - كيثربَ - اليهود، وهم أهل الكتاب الأول الذين حرَّفوا التوراة، وقالوا مقالات تدلُّ على الفساد القلبي، والانحراف العقلي، والكفر المتأصِّل في الكثير منهم، فقد شتَموا الله عز وجل، ووصفوه - سبحانه - بالفقر، وقالوا: إنه يتعبُ، كما ادَّعوا أن له ولدًا، سبحانه وتعالى تنَزَّه عن الشريك والولد والتعب.
 
وكان هناك قبائل أخرى في نجرانَ وغيرها قد عبَدوا عيسى عليه السلام من دون الله، واستحدثوا خرافاتٍ وعقائدَ باطلة أخذوها عن البوذيين والرومان والمصريين القدماء، وكان هناك مَن يعبد الشمس، والبقرة والماعز أحيانًا، ومَن يعبدُ فُروج النساء، وينحني أمامها.
 
وكان لجميع هذه الأصناف والقوى دول وعروش، وكيانات مترسِّخة، قد ضربت جذورها في أرجاء الأرض.
 
وكان هناك مَن يعبد الله تعالى على بقايا محرفة من دين إبراهيم عليه السلام.
 
ثم جاء النور، جاء يتلألأُ، منبعثًا من غار حراء، مشرقًا من جوار الكعبة (البيت العتيق)؛ استجابةً لدعوة إبراهيم عليه السلام؛ مناديًا: ((يا أيها الناس، قولوا: لا إله إلا الله))، وكان وقع الكلمة عجبًا، لا إله إلا الله؟
 
لقد كانت الآلهة شتى ومتعددة، فكيف يكون المعبود واحدًا؟
لقد كانت العرب في هذا الوقت أفصحَ الناس، وكانت قريش أبلغ العرب؛ ولهذا فهِموا الكلمة، وفهِموا أبعادها وتبعاتِها؛ ولهذا رفضوها، بل وعاندوا قائلها، واتَّهموه بالجنون مرَّة، وبالسحر والكهانة أخرى، ولكنه ظل يدعو قومه ويتحمل منهم ويصبر؛ لأن المهمة شاقَّة، والقول ثقيل.
 
إن المهمة هي إسقاط قوى الكفر، وجحافل الشر، ودولة الشرك؛ ليعبد الله الواحد؛ توحيد العبادة، إفراد الله تعالى بالألوهية، فالأمر أمره؛ لأن الخلق خلقه، والحكم له وحده.
 
لقد كرَّرتُ - وكرَّر غيري - أن الدعوة المكية كان هدفُها ترسيخَ الإيمان أولاً بدون تكاليف، ثم بعد أن استقر الإيمان جاءت التكاليف في المدينة.
 
ولكن كان هناك مَن يسمع عن الدين الجديد فيسأل عنه، ثم يدخل فيه مرة واحدة، ويخضع لجميع التكاليف مرة واحدة، بل كان هناك مَن يدخل في الإسلام ثم يذهب إلى الغزو مباشرة دون أن يمر بمرحلة إعداد وتربية.
فإذا حولنا هذا الكلام إلى سؤال، فماذا يكون الجواب؟
الجواب:
لقد كانت الدعوة إلى التوحيد وإرساء قواعده في مقابلة بيئة الكفر والوثنية أمرًا حتميًّا، وضرورة علمية وعملية، وحكمة تقتضيها الظروف والمرحلة.
 
فلقد كان من أهداف الدعوة إلى التوحيد ما يلي:
1- إبطال منطق الكفر، وإسقاط الطواغيت، وتدمير الجاهلية بأفكارها ومعتقداتها، وعاداتها وعصبيتها.
2- إعلاء التوحيد، وإقرار العبودية لله وحده.
3- تكوين جيلٍ فريدٍ على أساس الدين الجديد يتحمَّل أمانة الدعوة، وأعباء الرسالة، ويحملُ مهمة التبليغ، ويتحمَّل في سبيل ذلك التضحيات، ويكون هذا الجيل قاعدة إسلامية راسخة صلبة تُبنَى على أكتافِه دولة العدل، وتُقام على أشلائه أمة مسلمة لله رب العالمين.
 
لهذا كانت حصيلة هذه الفترة المكية ما يقرب من مائة صحابي؛ (فتح الباري ج7 ص216، باب كيف آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين أصحابه)، الواحد منهم بألف بل أمة وحده.
 
هذه الفئة القليلة لَمَّا أُمِروا بالهجرة وترك الوطن، هان عليهم المال والأهل والوطن في سبيل الله؛ لأن العقيدة صارت عندهم أغلى ما في الحياة.
 
وأقيمت دولة الإسلام في المدينة، وأصبح الإسلام قوَّةً، وله منَعة، وصار له كيان، فلما رأى الناس ذلك، كان الواحد منهم لا يتردَّد في الدخول في زمرة المسلمين، فيُصلِّي مع مَن يُصلُّون، ويخرج للغزو إذا سمع النداء مع الخارجين، لا يتردد؛ لأنه لا يتردد إلا المنافقون.
 
ولكن في الفترة المكية يُطرَد أبو بكر رضي الله عنه من مكة؛ لأنه كان يُصلِّي ويراه الناس ويسمعونه فيتأثَّرون بقراءته، وكان يُعذَّب بلال؛ لأنه يقول: أَحَدٌ أَحَدٌ، لكن إذا قالها أحدٌ ممن أسلموا في المدينة، هل سيناله أذى؟ لا، إذًا فما هي المشكلة في دخول الإسلام؟ أما في مكة، فكان الأمر مشكلة، ولا بد من دفع الثمن، ومواجهة الأذى والتنكيل والطرد.
 
لهذا طالت فترة الإقامة بمكة، ويتنزل القرآن ويتتابع ويتفاعل مع الأحداث والمواقف، وبدأ الكيان الجديد والقاعدة الصلبة لدولة الإسلام، فكان لا بد من التدريج المتمثِّل في البَدْء بالعقيدة، ثم الإعداد لنزول التكاليف، فكانت مقبولة سهلة ميسَّرة بفضل الله عز وجل.
 
ولهذا؛ فإني أقول: إن على الدعاة أن يجتهدوا في معالجة أمراض القلوب ومظاهر الشرك، وأن يهتمُّوا بالكلام في التوحيد، فإنه خير الكلام، وأنفع الكلام؛ لأنه إذا عظَّم الناس اللهَ - عز وجل - في قلوبهم، عظَّموا أوامره، وخضعوا لأحكام الإسلام طواعية بلا إكراه وبلا عنف.
 
من كتاب: "خصيصة التدرج في الدعوة إلى الله (فقه التدرج)"

شارك الخبر

مشكاة أسفل ٢