تعريف علم أصول الفقه عند المالكية
مدة
قراءة المادة :
6 دقائق
.
تعريف علم أصول الفقه عند المالكيةالحمد لله معلِّم الأصول، والصلاة والسلام على خير رسول، وعلى آله وصحبه وأتباعه أهل الفقه والقلب العقول واللسان السؤول إلى يوم البعث والنشور.
أما بعدُ:
فإن من العلوم الشرعية الضرورية لطالب العلم، علم أصول الفقه، لكونه يبحث في الطرق الصحيحة لفَهم القرآن الكريم والسنة النبوية، فالذي يعرف أحكام الفقه من غير أصولٍ لا يعتبر فقيهًا متمكنًا، إنما هو مقلد أو ناقل، لذلك يُنصح الطالب أن يبدأ بهذا العلم الجليل قبل التفقه على المذهب ودراسة الفقه المقارَن.
وقد كان الصحابة رضي الله عنهم يعملون بأصول الفقه فِطرةً وسجية، لكونهم عربًا أقحاحًا وأذكى الناس، وأصفاهم فطرةً، ولملازمتهم لأعلم الخلق عليه الصلاة والسلام، فما كانوا يحتاجون لبيان القواعد والأصول، وبعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وانتشار الفتوحات، بدأ الأعاجم يدخلون في الإسلام، وبدأ اللحن يقع في اللغة العربية، وبالتالي الخطأ في فَهم مدلولاتها، فخاف العلماء في القرن الثاني الهجري من ضياع فَهْم الدين، فبدؤوا في تقعيد القواعد، وكان أولَ من ألَّف في هذا العلم وقعَّد قواعده تلميذ الإمام مالك محمد بن إدريس الشافعي المتوفى سنة 204 بعد الهجرة في كتابه المتين "الرسالة"، وكان قد نهل من علم الإمام مالك وأصوله، وزاد عليها ونقص؛ لأنه وصل إلى درجة المجتهد المطلق، فتفرَّد بمذهبه المتفرِّع من مذهب أستاذه الإمام مالك رحمه الله، ثم تلاه الإمام أبو الحسن علي بن عمر بن القصار المتوفى سنة 397 هجرية في كتابه "المقدمة في الأصول"، و"مقدمة في الأصول لأبي عبيد القاسم الجبيري المتوفى سنة 378هـ"، و"مقدمة الانتصار لأهل المدينة لأبي عبدالله بن الفخار توفي سنة 419 هجرية"، و"مقدمة في الأصول لأبي عبدالوهاب البغدادي توفي 422 سنة هجرية، ورسالة في الإجماع له أيضًا"، وكتاب "السول والأمل" لابن الحاجب المتوفى سنة 646 هجرية"، وكل من جاء بعدهم من فقهاء المذهب المالكي، فهم تبعٌ لهم في تصنيفاتهم الأصولية.
مصادر أصول الفقه المالكي:
بعد فترة ظهور اللحن والخطأ في فَهم اللغة العربية، وهذا كان شائعًا في آخر حياة الإمام مالك بن أنس رضي الله عنه، بدأ علماء المالكية يتتبعون نصوصَ القرآن والسنة ودلالات اللغة العربية، وفهم علماء المدينة من الصحابة وأبنائهم، وأبناء أبنائهم، وفتاوى الإمام مالك بن أنس رضي الله عنه، واجتهادات تلامذته، فاستخرجوا منها أصولًا وقواعدَ متينة في الكتب المذكورة سلفًا وغيرها، واتَّفقوا في أكثرها مع أصول باقي المذاهب السنية باستثناء بعض الأصول والقواعد التي اختص بها المذهب؛ كعمل أهل المدينة، لذلك يوصف المذهب المالكي بالمذهب المعتدل الجامع لأهل السنة والجماعة.
تعريف علم أصول الفقه عند المالكية:
أصول الفقه مركبٌ من جزأين "أصول" و"فقه"، فأصول جمع أصل وهو ما يبنى عليه غيرُه؛ كأساس البيت، ويأتي بمعنى الدليل، نقول: أصل تحريم الخمر قوله تعالى في سورة المائدة: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [المائدة: 90]، ويأتي بمعنى الحكم المجمع عليه، ويأتي بمعنى الكتاب، نقول: صحيح البخاري من أصول أهل السنة والجماعة، ويأتي بمعنى المقيس عليه، وسيأتي معنى تفصيله في موضعه.
الجزء الثاني "الفقه": وهو لغةً: الفهم، ومنه قوله تعالى في سورة التوبة: ﴿ فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ﴾ [التوبة: 122]، ففَقِهَ بمعنى فَهِمَ، وفَقَهَ بمعنى فَهِمَ ما لَم يَفهَمه غيرُه، وفَقُهَ بمعنى صار له الفَهمُ مَلكةً.
وفي الاصطلاح: "هو معرفة الأحكام الشرعية العملية المكتسبة من أدلتها التفصيلية"، فـ"معرفة" قيدٌ يُخرج الجهلَ، فهو لا يأتي بالفقه، و"الأحكام" قيد ثانٍ يخرج المعانيَ، فالمفسر مثلًا يتتبَّع المعاني لا الأحكام، فلا يسمى فقيهًا، و"الشرعية" قيد ثالث يُخرج الأحكامَ اللغوية والطبيعية والتجريبية والمنطقية؛ لأن الفقه يهتمُّ بالأحكام الدينية علم الحلال والحرام، و"العملية" قيد رابع يُخرج الأحكامَ القلبية والعقَدية والسلوكية، فالفقيه لا يتناول أحكام العقيدة والأخلاق، لذلك تجد الكتاب الأول في كتب الفقه "كتاب الطهارة".
"المكتسبة": قيد خامس يُخرج العلم اللدني أو العلم الموهوب؛ كالوحي على الأنبياء، والرؤيا الصالحة في النوم والإلهام، فالفقه يحتاج إلى جهاد ومجهودٍ وتعبٍ ودراسة معمقة.
"من أدلتها التفصيلية"؛ أي: من نصوص القرآن والسنة، فهذا القيد يُخرج المقلد الذي يحفَظ الأحكام من غير دليلها.
وأما تعريف "أصول الفقه"، فهو علمٌ يبحث في القرآن والسنة واللغة العربية، لاستخلاص الأصول والقواعد التي يستخرج بها الفقيه الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية.
فالأصولي يتتبَّع القرآن والسنة واللغة والمنطق، وفتاوى الإمام؛ ليستخرج قواعد الاستنباط، والفقيه يستخدم تلك القواعد لاستخراج الحكم الشرعي، فكل فقيه أصولي وليس كل أصولي فقيهًا.
وأما فوائد ضبط أصول المذهب المالكي، فهي كثيرة؛ منها: الارتقاء إلى مذاهب الفقهاء، والتخلص من التقليد، فالذي يحفظ الأحكام من غير معرفة أدلتها وكيفية استنباطها، لا يُعَدُّ فقيهًا إنما هو مقلدٌ، ومن الفوائد أيضًا تخريج الأحكام على أصول المذهب في المسائل والنوازل التي لم تقف فيها على فتوى الإمام، ومن الفوائد الاتصاف بالاعتدال والسماحة، والتخلص من التعصب؛ لأن المطلع على الأصول يُنزل الناس منازلَهم، ويعرف لباقي أئمة المذاهب قيمتهم.