أرشيف المقالات

رمضان الأخير

مدة قراءة المادة : 5 دقائق .
رمضان الأخير

واستدار الزمان، ومرت الأيام، واقترب رمضان، ونفوس الصالحين المصلحين مشتاقة، وأرواحهم توَّاقة، وقلوبهم ملتاعة تحترق شوقًا إلى شهر الخيرات.
 
أقبل شهر الإحسان، أقبل شهر الخيرات، أقبل شهر اليُمْن والبركات لتوقظ القلوب من نومها، وتطلق الأرواح من عقالها، وتبعث الهمم من فتورها، وتحث العزائم من كسلها.
 
وها نحن على بُعْد أيام من شهر رمضان، فهل ترانا نسعد برمضان آخر، وهل ترانا نشهد رمضانَ آخَرَ بعد هذا، لا بل ربما هذا آخر عهدنا بشهر الخيرات، بل ربما لا ندرك هذا الشهر الفضيل، بل ربما يدركنا الأجل في هذه الأيام وتلك الساعات التى تفصلنا عن هذا الشهر الكريم، بل ربما لا أتم أنا كتابة مقالي هذا، وكلمتي تلك التى أرجو ربي أن يجعلها في ميزان حسناتي، وحسنات من يقرؤها، وأن يجعلنا جميعًا ممن يستمعون القول فيتَّبعون أحسنه.
 
وإذا كان الأمر بهذه الخطورة، وإذا كان الموت أقرب للإنسان من قرب اللسان إلى الأسنان، فعلينا أن نشمر عن ساعد الجد، ونهب من سُباتنا، ونقتل كسلنا، ونوقظ الهمم، ونبعث العزائم، ونبدأ بتوبة نصوح نعض فيها بنان الندم، ونذرف فيها الدمع مدرارًا على تقصيرنا فيما فات، ونوطن العزم على إصلاح ما هو آتٍ، ونقف مع النفس وقفة صادقة، نحاسب فيها أنفسنا، ونتدارك فيها أمرنا، ونصلح شأننا.
 
ومحاسبة النفس أمر لا بُدَّ منه للمؤمن، كما يحاسب التاجر الحاذق عماله، ويحسب أمواله، والمؤمن يحاسب نفسه في كل ما يأتي وما يذر، يحاسب نفسه ماذا أردت بأكلتي، ماذا أردت بشربتي، ماذا أردت بنومتي، هل أخلصت النية لربي في صدقتي، وهذه محاسبة عقب كل عمل، وبعد كل ترك، وهناك المحاسبة الأهم التي تكون مرة كل يوم قبل النوم، حين يأوي المؤمن إلى فراشه، ويطفئ أنواره، متذكرًا ظلمة القبر، ووحشته، ووحدته، في هذا الوقت عليه أن يحاسب نفسه بصدق عن يومه الأخير - الذي ربما لا يصبح عليه صباح في هذه الدنيا إلا وهو من أصحاب القبور – وإذا حاسب نفسه فوجد خيرًا حمد ربه وتذلَّل إليه أن يقبل صالح عمله، وإن وجد سوءًا ندم على فعله، وحاسب نفسه وعاتبها وعاقبها على تفريطها في حق الله، وهنا ثق وتأكد أخي الحبيب أن اليوم التالي سيكون حالك أفضل، وأمورك أحسن مع ربك وخالقك، وجرِّب ترَ، فقد قال ربنا سبحانه وتعالى في كتابه: ﴿ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [العنكبوت: 69].
 
فإذا حاسبت نفسك على تقصيرك في خشوع صلاة اليوم، وعاتبتها صادقًا متألمًا لوجدت صلاتك في اليوم التالي أحسن خشوعًا، وروحك أكثر خضوعًا، وعقلك أفضل حضورًا.
 
ونحن على عتبات هذا الشهر الفضيل، شهر رمضان المعظم، علينا أن نوقن أن محاسبة النفس في هذا الشهر لها طعم آخر، ومذاق مفعم بالأشواق والأشواك، مملوء بالألم والأمل؛ لأن رمضان شهر الجهاد، هو شهر جهاد النفس والشيطان والشهوات والشبهات والهوى والكسل، وهو كذلك شهر جهاد أعداء الله المحاربين لدين الله، وهو شهر الانتصارت التي حققت العز للإسلام والنصر للمسلمين عبر التاريخ، فكانت معركة الفرقان التي كانت أول معركة بين الحق والباطل في هذا الشهر الكريم، وكان الفتح المبين فتح مكة المكرمة في هذا الشهر الفضيل، وتبقى معركة الإنسان مع نفسه هي المعركة الأصعب للمسلم في طريق الفوز العظيم بجنة الخلد ونيل رضا الله رب العالمين، ويبقى رمضان عاملًا حاسمًا، وفرصة عظيمة لتحقيق النصر على النفس، فعلى المسلم أن يسأل نفسه: ماذا أريد من رمضان؟ لأرتقي بنفسي وأهلي، امتثالًا لأمر ربي ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا ﴾ [التحريم: 6] يجيب عن هذا السؤال الدكتور خالد حمدي فيقول: "سألت نفسي: ماذا تريد من رمضان؟

فوجدتني أجيب مسرعًا، كأنما أمنياتي واقفة على حافة القلب تنتظر الجواب.
 
أريد ترميم نفسي مما أصابها من أعطاب وآفات عامًا كاملًا.
 
أريد أن أعرف مقدار ما بنفسي من طهر أو خبث ذاتي لا سيَّما وقد تصفدت الشياطين ولم تعد لها ذلكم التأثير القديم عليَّ.
 
أريد أن أزيل حواجز القسوة والغفلة التي امتلأت بها نوافذ قلبي، فالقرآن الكثير والغفلة لا يجتمعان ﴿ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ ﴾ [يوسف: 3].
 
أريد الشبع والامتلاء من العبادة.
 
أريد اللذة الإيمانية التي تفيض الدمعة ويقشعر منها الجسد.
 
أريد المكث الطويل على باب الملك من غير وسوسة شيطان أو مشغلة إنسان.
 
أريد الشبع من القرآن المسموع بالقلب الموجوع الذي يجلب الخشية ويستحضر الدموع.
 
أريد شحن القلب لأيام فتن طوال بعد رمضان.
 
أريد الطمأنينة والسكينة.
 
أريد التعرض لرحمات الله أكثر من ذي قبل، فما كان أحدنا أقرب إليها من رمضان.
 
أريد التقوى الدائمة لنفسي العاصية الشاردة الآثمة.
 
أريد، وأريد، وأريد…ويقيني أن الكريم إذا أدخلني السوق فلن يحرمني الربح لا سيَّما وهو يعلم أني عبد فقير رأس ماله حسن الظن بصاحب السوق.
 

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٢