أرشيف المقالات

السراج الوهاج في لطائف الإسراء والمعراج (3)

مدة قراءة المادة : 24 دقائق .
السراج الوهاج في لطائف الإسراء والمعراج
(3)
 
المسألة الخامسة والعشرون: من أسرار علو منزلة الصلاة
إن الميقات المكاني لفرض الصلاة داع بها أن تعلو فوق كل عال في حياتنا، ولأنها فرضت من فوق السماء السابعة! وإنما فرضت الصلاة خمسا، وهي بأجر خمسين على الفرضة الأولى! لأن الحسنة بعشر أمثالها.
و ﴿ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ﴾ [الجمعة:4].
 
إن فرض الصلاة من علٍ علو، وإن تركها سفل ودنو! ولعاقل أن يختار مجدًا، ولغيره أن يختار ضعةً!
 
وفرض الصلاة من علٍ قمن بها أن تعلو بصاحبها آفاق المجد والعزة والسؤدد والكرامة، فلينظر تاركها حال نفسه وسفلها، وحال أخلاقه ودنوها!
 
إن النظر في وجوه المصلين المخبتين العاملين، وإنما لتعلوها وضاءة ونضرة وبهاء وسرور وحبور، ليشي بشكر رب كريم وأن فرضها سبحانه!
 
إن النظر في وجوه تاركي الصلاة، وهم إذ تعلوهم شيبة، وما هم بشيبة! وهم إذ تكسوهم حسرة، وهم إذ تخيمهم كآبة من مصيرهم المحتوم، وإن لم يتوبوا، لموجب شفقة!
 
ولو لم يكن من معنى الصلاة إلا كونها صلة بين عبد ضعيف محتاج، إلى رب قوي غني، لكفي به معنى ساميا، ولكفى به شرحًا وافيًّا!
 
إن النظر في وجوه المصلين باعث على الأمل والتفاؤل والانجبار؛ لأنهم علموا أنه ﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ ﴾ [البقرة:143]، دنياكم توفيقًا، وأخراكم فوزًا!
 
إنه لو لم يكن في الصلاة إلا أنها طاعة لمن بها أمر، لكفى بها قيمة عند مليك مقتدر! لأن الأصل وفرعه أنه تعالى ﴿ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ﴾ [البقرة:285].
 
إن الصلاة أنفة وعزة وإباء، وإن تركها وإهمالها ذلة وخوار وخواء! وإنها لتكسب صاحبها من عزتها وإبائها، وبقدر ما حضر قلبه فيها، وإنه ليعلو تاركها حسرة وألم، وبقدر عدم تعظيمه بها أمرًا، وبقدر تجاهلها بها راحة وسكينًا وصلة سببًا.
 
إن إقامة الصلاة زكاة نفس، وطهارة قلب، وإن تركها هفوت وضعف وخور ناخر في نخاع التاركين والمهملين، ويكأنك تراهم به ﴿ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى ﴾ [الحج:2]!
 
وتعجيب من تارك الصلاة! لأنها نور، فلماذا يحرم نفسه عاقل نورًا؟ ولماذا يستبدل به فطن ظلامًا دامسًا حالكًا، يتيه به في ظلماته عن غد واعد مشرق؟!
 
إن طهورك شطر إيمانك، وصلاتك نورك، وصدقتك برهانك، وصبرك ضياؤك، والقرآن حجة لك، أو عليك، وكل الناس يغدو، فبائع نفسه، فمعتقها، أو موبقها!
 
عن أبي مالك الأشعري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الطهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن - أو تملأ - ما بين السماوات والأرض، والصلاة نور، والصدقة برهان، والصبر ضياء، والقرآن حجة لك، أو عليك، كل الناس يغدو فبايع نفسه فمعتقها، أو موبقها"[1].
 
إن الموحدين المصلين الذين يقيمون صلاتهم إنما هم يقدرون ربهم سبحانه حق قدره؛ وذلك لأنهم أسسوا بنيانهم على تقوى من الله تعالى ورضوان.
 
إن المصلين الذين يعلقون معاصيهم على شماعة صلاتهم إنما يقفون ﴿ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ ﴾ [التوبة:109]؛ لأنهم جعلوا الله تعالى أهون الناظرين إليهم، ألا فليدَّبَّر كل أمره؛ لأن مكره تعالى موجب خشية وحياء.
 
كلم نبينا صلى الله عليه وسلم ربنا الجليل ليلة عرج به، وبخصوص الصلاة، فتحصل شرف التكليم، وشرف الصلاة! إنه لا داعي للانبهار كثيرًا أمام الثورة الصناعية الكبرى! لأنها إعادة تدوير لما خلق الله تعالى وحسب! مع عدم تقليل لقيمتها، ولأن كل ما خلقه تعالى إنما هو داعية تعمير، وإن كثيرًا مما صنع الإنسان إنما هو داعية تدمير! والأصل أن يكون معمرًا، لا مدمرًا!
 
حين تنعقد أطراف علاقة، أولها ربنا، وثانيها نبينا، وثالثها ملك الوحي جبريل، فأنت أمام مشهد مهيب لتدبير أمر الناس! فكن على قدر هذا الاهتمام بك.
 
المسألة السادسة والعشرون: ﴿ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾.

قال الله تعالى: ﴿ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾ [الإسراء:1].
 
وقعت شبهة في عود ضمير ﴿ بِعَبْدِهِ ﴾، وظاهره أنه على الله تعالى؛ لأن السياق أن جبريل أوحى إلى عبده تعالى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ما أوحى إليه ربه.
 
إن وجود شبهة عود ضمير ﴿ بِعَبْدِهِ ﴾ لا يخرجنا عن هالة إخبات لذلكم مشهد من مشاهد القرآن العظيم، حين كانت أطرافه ربنا ونبينا وجبريل عليه السلام!
 
إن اختلاف أهل العلم في إمامة النبي صلى الله عليه وسلم بالأنبياء، هل هو في السماء، أم هو في بيت المقدس، لا يخرجنا عن مقصوده، وهو أنه صلى الله عليه وسلم كان للمتقين إمامًا!
 
إن كلام الناس حول ماهية صلاتهم معًا في البيت المسجد الأقصى، أو في السماء! وبإمامة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، ليس يخرجنا هذا عن الخلاف القائم، وعلى ذي همة وسبب، وسؤالًا ماكرًا حول ماهية هذه الصلاة، وإذ كيف صلوا، ولم تكن قد فرضت بعد؟! وكأن هذا الرهط الأنبياء الكرام عليهم الصلوات والتسليمات والتبريكات، كانوا يعبثون، وحين تحنثوا لربهم، وكهيئة ليس لنا كثير كلام فيها، وإلا حرمنا من تدبر معانيها ومراميها، وإذ إنها في الابتداء وفي الانتهاء وقوف بين يدي الله تعالى الحليم المنان العزيز الجبار القهار سبحانه وتعالى!
 
المسألة السابعة والعشرون: نور أنَّى أراه؟
وقع الخلاف في رؤية النبي محمد صلى الله عليه وسلم ربه تعالى، وتوجيهه أنَّا نمسك عنه، ونكتفي بحديث الإمام مسلم رحمه الله الله تعالى أنه نور أنَّى أراه؟
 
فعن عبد الله بن شقيق، قال: قلت لأبي ذر: لو رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم لسألته، فقال: عن أي شيء كنت تسأله؟ قال: كنت أسأله هل رأيت ربك؟ قال أبو ذر: قد سألت، فقال: رأيت نورًا[2].
 
قلت لأبي ذر لو أدركت النبي صلى الله عليه وسلم لسألته فقال: عمَّ كنت تسأله؟ قلت: أسأله هل رأى محمد ربه، فقال قد سألته فقال نور أنى أراه[3].
 
إنه لتخيم هالات الخضعان حين علم العبد عن ربه أنه ﴿ فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا ﴾ [الأعراف:143].
 
وإن الخلق كله ليعلوه إطباق وإخبات، حين يحيل رب كريم رؤيته على عبد، كنبي الله موسى عليه السلام! فما بالك بغير موسى عليه السلام، كأنا وأنت؟!
 
وإن الكون كله لتكسوه خشية، تند وصفا، وحين علمه أنه ﴿ وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا ﴾، ولما وقع اندكاك الجبل لتجليه تعالى له!
 
إن عبدًا لتتملكه مشاعر الإخبات والخشوع لربه تعالى، وحين علم عنه تعالى أن (حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه)!
 
كان من وصف ربنا (إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام)، بل كان من وصفه أنه ﴿ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ ﴾! لا تأخذه سنة! ولو واحدة! فكان قيومًا!
 
إن مصباحًا خافتًا أو غير خافت، أو كان سراجًا وهاجًا، يجعلك تغمض عينيك غير مجترئ على النظر فيه! فما بالك برب كريم هو نور السماوات السبع، والأرضين السبع؟! ولله المثل الأعلى.
 
عن أبي موسى الأشعري رضي الله تعالى عنه قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس كلمات، فقال: إن الله عز وجل لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل، حجابه النور، وفي رواية أبي بكر: النار، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه[4].
 
إنه لينبغي الوقوف طويلًا، عند قوله تعالى: ﴿ لَن تَرَانِي ﴾ [الأعراف:143]، وتوجيهه في الدنيا قطعًا لخلاف دار، قد يفقد أحدنا حلاوة النص العظيم، وطلاوة النظم الكريم، وإنه له لظلالًا، وإن معه ومنه لريًّا!
 
إنه لو كان بحث في إمكان رؤية الله تعالى في الدنيا مفيدًا، فما فائدة أن يعد عبد العدة المكينة طمعًا في رؤية ربه تعالى في الفردوس الأعلى؟!
 
إذا كان من معاني التجلي أنه بدو وظهور، فلا ننسى أنه كان لجبل! ولا ننسى أنه اندك فصار رملًا! فما بالك بلحم ودم، لو كان قد تجلى ربه تعالى له؟!
 
إن الوقوف على معنى التجلي اللغوي، في مقابلة إحالة الرؤية على نبي الله تعالى موسى عليه السلام، ليعد خروجًا عن جمع ممكن بينهما!
 
إنه لا قياس على قانون الرب سبحانه حين كان الإسراء والمعراج مقصورًا عليه تعالى، ولأنه هو الذي أسرى بعبده، فكان دليلًا على انفراده تعالى بمطلق الإعجاز في هذا.
 
وإنما يقاس أمر أو وضع على قانون واضعه وحسب؛ لأنه هو الذي يملك دون غيره أبعاده كلها صنعة وإصلاحًا.
 
وإن من أهلك نفسه، وحين تعرض لقياسات الظواهر والأحداث ذات الأسرار الخالية عن عقل آحادنا، ليزيده ذلك تيها وغرقًا وغيًّا، ألا فليقف أحدنا عند علمه بقدرته المحدودة خاشعًا، وأمام هذا الرب القدير القادر الجبار العزيز القهار ذي القدرة المطلقة!
 
وحين ذلكم فإننا أمام عطاء ربنا تعالى، وما قد أعدَّه لنا من مغنم، وإذ كان بديلًا ربانيًّا كريمًا، وعما أصاب متحجر، منتصب أمام الحق فيدمغه، وفوق ما يكتنفه ويصيبه، ويحل عليه من مغرم!
 
المسألة الثامنة والعشرون: ﴿ وَاللَّهُ قَدِيرٌ ﴾ [الممتحنة:7].
ولأن الإسراء أيضًا كان دلالة على مطلق القدرة لله تعالى، ولأن من قدرته تعالى إمكان من لا يُرَى أن يُرَى، وهذا خلاف أحدنا؛ لأننا لا نملك من القدرة إلا ما منحناها الله تعالى ربنا الرحمن، فضلًا منه وجودًا.
 
وانظر قوله: وأوجز وأعظم ما ورد في تعليل هذه الرحلة هو قوله تعالى: ﴿ لِنُرِيَهُ مِنْ آَيَاتِنَا ﴾ [الإسراء: 1][5].
 
وكل آية وردت في الإسراء والمعراج، كان من شأنها أنها آية حقًّا، وبرهانًا ودليلًا ودلالة؛ ولأنه لم يسبق أن جاءت من طريق آخر غير هذا القرآن العظيم! وكذا عن قول أمينه تعالى في أرضه نبينا ورسولنا وقرة أعيننا محمد بن عبد الله النبي الأمي العربي الكريم صلى الله عليه وسلم، وبأحاديث قد ثبتت، وإذ وليس يحوم حولها من قول! ولذا كان من شأنها أيضًا أن تكون آيات كبرى، وكجزء من آيات الله تعالى الكبرى أيضًا، عرفها أحدنا أو قد غابت عنه، ولتبقى دليلًا آخر وبرهانًا على أن مستودع القدرة معين عطاء ومنح وفضل أبدًا!
 
لطائف ذات صلة:
أولًا: هل الإسراء بالبدن أو بالروح أو بهما معًا؟
إن القول بجواز أن يكون الإسراء بالروح فقط، هو محاولة لتفريغ أحداثنا العظام من إعجازها، ليخفت نورها في قلوب الأشهاد، وهداية الحيارى!
 
إنه قد أسرى الله بعبده بدنًا وروحًا، ولا فصل بينهما؛ لأن الفصل يحيل الإعجاز في المسألة، وحدث كهذا لا يخلو من إعجاز، بل كله إعجاز! كان أوله كونه روحًا ومادة معًا.
 
لو جارينا قول: إن الإسراء كان بالروح فقط، لفقد الحدث كل معانيه! إذ كيف يمكن تصور براق ليركبه الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو روح فقط، بل ما لزوم البراق إذًا؟! ومنه المعراج أيضًا.
 
لو جارينا قول: إن الإسراء والمعراج كانا بالروح فقط، لكنا سببًا في تجرؤ القوم على الطعن في القرآن، إذ كيف كان عبدًا بروح فقط؟!
 
لو كان القول: إن الإسراء كان بالروح فقط، لكان التسبيح في آية الإسراء عبثًا؛ لأن التسبيح لا يكون إلا للأمور العظام! وهذا هو إعجاز القرآن! ولأن الرحلة كانت أحداثها متضافرة متتابعة متكاثفة متواترة أيضًا، وهذان هما اللذان أكسباها هذا الزخم العريض عرضًا عرضًا، والطويل طولًا طولًا!
 
إن مقولة: إن الإسراء كان بالروح فقط، يجعلنا في معزل عن صلاة، كان الرسول فيها لإخوانه الأنبياء إمامًا! وقول بغيره لا يمكن تخيله!
 
جاء النص على كون الإسراء ﴿ بِعَبْدِهِ ﴾؛ لأن أي عبد نراه هو مادة وروح معا! فلماذا يستثنى الرسول صلى الله عليه وسلم إذًا؟! وإن هذا إلا مكر للتوهين من شأنه، وما هم ببالغيه!
 
وقد نقل ابن إسحاق عن عائشة ومعاوية أنهما قالا: إنما كان الإسراء بروحه ولم يفقد جسده، ونقل عن الحسن البصري نحو ذلك، ولكن ينبغي أن يعلم الفرق بين أن يقال: كان الإسراء منامًا وبين أن يقال: كان بروحه دون جسده، وبينهما فرق عظيم، وعائشة ومعاوية لم يقولا: كان منامًا، وإنما قالا: أُسري بروحه ولم يفقد جسده، وفرق بين الأمرين، فإن ما يراه النائم قد يكون أمثالًا مضروبة للمعلوم في الصور المحسوسة، فيرى كأنه قد عُرج به إلى السماء أو ذهب به إلى مكة وأقطار الأرض وروحه لم تصعد ولم تذهب، وإنما ملك الرؤيا ضرب له المثال، والذين قالوا: عرج برسول الله صلى الله عليه وسلم طائفتان: طائفة قالت: عرج بروحه وبدنه، وطائفة قالت: عرج بروحه ولم يفقد بدنه، وهؤلاء لم يريدوا أن المعراج كان منامًا، وإنما أرادوا أن الروح ذاتها أسري بها وعرج بها حقيقة، وباشرت من جنس ما تباشر بعد المفارقة، وكان حالها في ذلك كحالها بعد المفارقة في صعودها إلى السماوات سماءً سماءً، حتى ينتهى بها إلى السماء السابعة، فتقف بين يدي الله عز وجل، فيأمر فيها بما يشاء ثم تنزل إلى الأرض، والذي كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء أكمل مما يحصل للروح عند المفارقة[6].
 
ثانيًا: إمامة الرجل في بيته:
وإنما جُعلت إمامة الرجل في بيته شرعًا ودينًا، وله التنازل عنه، وبقرار منه؛ لأن الرجل راع، وهو راع ومسؤول في بيته! وهذا تكريم إسلامنا لأرباب البيوت! وتقديرًا لشأنهم، وإعظاما لقدرهم، وتنوبها بحقهم، واعترافًا بسلطانهم في بيوتهم، وهذه أخلاق ديننا!
 
إنه جعل النبي صلى الله عليه وسلم إمامًا لأهل بيت المقدس وبه أئمته! ومنه جواز إمامة الإمام الأعظم للرجل، ولو في بيته.
 
ثالثا: من أسرار حدوث الإسراء والمعراج ليلًا:
جاء ذكر أن الإسراء كان ﴿ لَيْلًا ﴾ إشارة على أنه ليس من إمكاننا القول بأنه استغرق الليلة كلها أو بعضها، وهذا بحث ليس يفيد كثيرًا، ولكنه الإمعان في الإعجاز، وتأكيدًا لسلطان الله تعالى القاهر سبحانه!
 
إنه لا يخلو ذكر أن الإسراء كان ليلًا من إعجاز؛ لأن الليل سكون وهدوء ولباس، ولذا جاء مقدمًا على النهار في القرآن العظيم.
 
إنه لا يخلو أن الإسراء كان ليلًا من موافقة رؤيا رآها نبينا صلى الله عليه وسلم، وكانت ليلًا.
 
رابعًا: ﴿ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [النساء:65]:
وقوله صلى الله عليه وسلم: سألت ربي حتى استحييت ولكن أرضى وأسلم، ولأنه جاء التسليم في سورة النور مفعولًا مطلقًا مؤكِدًا لفعله؛ إمعانًا في مدى قبول عبد لأمر ربه غير مشفوع برد، بل ممهور بقبول فائق، لا شائبة فيه!
 
وجاء التسليم مفعولًا مطلقًا في سورة النور؛ دلالة على توكيد الانقياد والرضا حين صدوره من العبد،
 
وهذا تحقيق لقوله صلى الله عليه وسلم: بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم.
 
إن العبودية الحقة، وحين يكون القلب مسلمًا لما قضى الله تعالى وقدر، لأنه ثقة في أنه تعالى رؤوف رحيم.
 
إنه لا يكفي الرضا لأنه عمل قلبي، وعلامته الظاهرة هي التسليم والانقياد.
 
وقوله صلى الله عليه وسلم: سألت ربي حتى استحييت ولكن أرضى وأسلم، قال: فلما جاوزت ناداني مناد أمضيت فريضتي، وخففت عن عبادي، وهذا شأن ثمرة الحياء عطاءً ومنحًا وفيضًا!
 
وفيه اعتزاز الرسول صلى الله عليه وسلم بربوبية ربه سبحانه؛ لأنها ملاذ كل عبد، وحين تتأخر الملاذات!
 
وقوله هذا لمناسبة فرض الصلاة وتخفيفه عن الأمة، لكن سؤاله تعالى كل حين قربة ودين.
 
وعود مرة أخرى إلى الحياء، وما أدراك ما الحياء؟ إنه خلق حميد، وإنه أدب مجيد.
 
وقوله صلى الله عليه وسلم: فلما جاوزت ناداني مناد أمضيت فريضتي، وخففت عن عبادي، فيه إمضاؤه تعالى الأمر وتخفيفه، رحمة بعباده ولأمة محمد صلى الله عليه وسلم خاصة؛ وذلك لأنه صلى الله عليه وسلم قال: أمتي هذه أمة مرحومة، ليس عليها عذاب في الآخرة، عذابها في الدنيا الفتن والزلازل والقتل[7].
 
إن هذا التخفيف كان منه تعالى، وقد وقع لإتمام النعمة، وإكمال الدين، أما بعده فليس لأحدنا بذلك؛ لأن الله تعالى قال ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ﴾ [المائدة:3].
 
إن التغيير والتبديل والتعطيل والإضافة والحذف من أحكامه تعالى استدراك على الله تعالى، وليس يليق! ولأن ذلك يصير أحكامه مفرغة من أسمائها ومعانيها وحكمتها، وعلة وسبب نزولها أساسًا، والله تعالى بهذه الأحكام، وإنما بها أتم النعمة، وأكمل الدين، وحين تنزلت مرنة، وإذ تشي بحكمة التشريع الرباني وملاءمته لسائر الأزمان، وكافة الأحوال والأماكن أيضًا.
 
ودلك على صحة مذهبنا هذا ما رواه الإمام البخاري رحمه الله تعالى عن مالك بن صعصعة الأنصاري أن نبي الله صلى الله عليه وسلم حدثهم عن ليلة أُسري به: بينما أنا في الحطيم وربما قال: في الحجر مضطجعًا؛ إذ أتاني آت، فقدَّ [وفي رواية]: فشق ما بين هذه إلى هذه - فقلت للجارود وهو إلى جنبي: ما يعني به؟ قال: من ثغرة نحره إلى شعرته، وفي رواية: من قصه إلى شعرته - فاستخرج قلبي، ثم أتيت بطست من ذهب مملوءة إيمانًا، فغسل قلبي، ثم حشي ثم أعيد، ثم أتيت بدابة دون البغل، وفوق الحمار أبيض - فقال له الجارود: هو البراق يا أبا حمزة؟ قال أنس: نعم - يضع خطوه عند أقصى طرفه، فحملت عليه، فانطلق بي جبريل حتى أتى السماء الدنيا فاستفتح، فقيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحبًا به، فنعم المجيء جاء، ففتح، فلما خلصت فإذا فيها آدم، فقال: هذا أبوك آدم، فسلم عليه، فسلمت عليه، فرد السلام، ثم قال: مرحبًا بالابن الصالح والنبي الصالح، ثم صعد بي حتى أتى السماء الثانية، فاستفتح، قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحبًا به، فنعم المجيء جاء، ففتح، فلما خلصت إذا يحيى وعيسى - وهما ابنا الخالة - قال: هذا يحيى وعيسى فسلم عليهما، فسلمت فردا، ثم قالا: مرحبًا بالأخ الصالح والنبي الصالح، ثم صعد بي إلى السماء الثالثة، فاستفتح، قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحبا به؛ فنعم المجيء جاء، ففتح، فلما خلصت إذا يوسف، قال: هذا يوسف فسلم عليه، فسلمت عليه، فرد ثم قال: مرحبًا بالأخ الصالح والنبي الصالح، ثم صعد بي حتى أتى السماء الرابعة، فاستفتح، قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: أوقد أرسل إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحبًا به، فنعم المجيء جاء، ففتح، فلما خلصت إلى إدريس، قال: هذا إدريس فسلم عليه، فسلمت عليه، فرد ثم قال: مرحبًا بالأخ الصالح والنبي الصالح، ثم صعد بي، حتى أتى السماء الخامسة فاستفتح، قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحبًا به، فنعم المجيء جاء، فلما خلصت فإذا هارون، قال: هذا هارون فسلم عليه، فسلمت عليه، فرد ثم قال: مرحبًا بالأخ الصالح والنبي الصالح، ثم صعد بي حتى أتى السماء السادسة فاستفتح، قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: من معك؟ قال: محمد، قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم، قال: مرحبًا به، فنعم المجيء جاء، فلما خلصت، فإذا موسى، قال: هذا موسى فسلم عليه، فسلمت عليه، فرد ثم قال: مرحبًا بالأخ الصالح والنبي الصالح، فلما تجاوزت بكى، قيل له: ما يبكيك؟ قال: أبكي لأن غلامًا بعث بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر ممن يدخلها من أمتي، ثم صعد بي إلى السماء السابعة، فاستفتح جبريل، قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد بعث إليه؟ قال: نعم، قال: مرحبًا به، فنعم المجيء جاء، فلما خلصت فإذا إبراهيم قال: هذا أبوك فسلم عليه، قال: فسلمت عليه، فرد السلام، قال: مرحبًا بالابن الصالح والنبي الصالح، ثم رفعت لي سدرة المنتهى، فإذا نبقها مثل قلال هجر، وإذا ورقها مثل آذان الفيلة، قال: هذه سدرة المنتهى، وإذا أربعة أنهار: نهران باطنان ونهران ظاهران، فقلت: ما هذان يا جبريل؟ قال: أما الباطنان فنهران في الجنة، وأما الظاهران فالنيل والفرات، ثم رفع لي البيت المعمور، ثم أتيت بإناء من خمر، وإناء من لبن، وإناء من عسل، فأخذت اللبن، فقال: هي الفطرة التي أنت عليها وأمتك، ثم فرضت علي الصلوات خمسين صلاة كل يوم، فرجعت فمررت على موسى، فقال: بما أمرت؟ قال: أمرت بخمسين صلاة كل يوم، قال: إن أمتك لا تستطيع خمسين صلاة كل يوم، وإني والله قد جربت الناس قبلك، وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة، فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك، فرجعت فوضع عني عشرا، فرجعت إلى موسى فقال مثله، فرجعت فوضع عني عشرًا، فرجعت إلى موسى فقال مثله، فرجعت فوضع عني عشرًا، فرجعت إلى موسى فقال مثله، فرجعت فأمرت بعشر صلوات كل يوم، فرجعت فقال مثله، فرجعت فأمرت بخمس صلوات كل يوم، فرجعت إلى موسى، فقال: بِمَ أمرت؟ قلت: أمرت بخمس صلوات كل يوم، قال: إن أمتك لا تستطيع خمس صلوات كل يوم، وإني قد جربت الناس قبلك، وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة، فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك، قال: سألت ربي حتى استحييت، ولكني أرضى وأسلم، قال: فلما جاوزت نادى مناد: أمضيت فريضتي، وخففت عن عبادي[8].
 

[1] [صحيح مسلم: 223].
[2] [صحيح مسلم: 178].
[3] [صحيح الترمذي: 3282].
[4] [صحيح مسلم: 179].
[5] [الرحيق المختوم، المباركفوري: 66].
[6] [زاد المعاد، ابن القيم الجوزية: 3 /36].
[7] [صحيح أبي داود، الألباني: 4278].
[8] [صحيح البخاري: 3887].

شارك الخبر

المرئيات-١