أرشيف المقالات

معرفة السنة النبوية ومنزلتها وحجيتها

مدة قراءة المادة : 26 دقائق .
معرفة السنة النبوية ومنزلتها وحجيتها
 
هذه توجيهات ومهمات لطالب الحديث النبوي والسنة، في معرفة الحديث وآدابه وطرق التحمل والرواية، نوجزها مختصرة ليسهل الاستفادة منها لكل مبتدئ محب للسنة والحديث[1].

فنقول وبالله التوفيق والهداية: أول ما يجب على طالب حديث وسنة النبي - صلى الله عليه وسلم - معرفته، هو: "معرفة مكانة السنة النبوية المطهرة" ومنزلتها من القرآن، وكمال حجيتها في الأحكام والتشريع، لأنه بدون معرفة ذلك، فلن يقدر لها قدرها، ولن ينزلها منزلتها السامية كما ينبغي، إذ كيف تخفى على طالب العلم مكانتها ومنزلتها، فضلًا عن طالب الحديث والسنة، وهم أولى وأحق الناس بمعرفتها، واقتفاء آثارها وهديها، ولهذا أقول وبالله التوفيق:
وحي القرآن[2]:
مما لا ريب أن الله - تعالى - أنزل القرآن على قلب النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - وحيًا منزلًا، ليكون هداية ورحمة للمؤمنين المتبعين، وليكون منهاج حياة قويم، يسترشدون بأمره وهداه، ويقفون عند حدوده ونواهيه، ويستنبطون من آياته أحكام شريعتهم، ومنهاج حياتهم، ونظام أمورهم، فيأخذون منه عقيدتهم وإيمانهم، وعبادتهم وأخلاقهم، ومعاملتهم وآدابهم، في حال إقامتهم وسفرهم، وحال نومهم ويقظتهم، وحال سلمهم وحربهم، وسائر شؤونهم، وقد دل على ذلك كله القرآن في آياته المنزلة، فمن ذلك:
قول الله تعالى: ﴿ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا ﴾ [الإسراء: 9].
ويقول سبحانه: ﴿ فَمَنِ اتَّبَع هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى ﴾ [طه: 123-126].

ويقول عز وجل: ﴿ قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَع رِضْوَانَهُ سُبُل السَّلاَمِ ﴾ [المائدة: 16،15].
وقوله تعالى: ﴿ كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ [ص: 29].

وقال تعالى عن وحي القرآن: ﴿ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ ﴾ [النحل: 89] وقال سبحانه وتعالى: ﴿ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ ﴾ [يوسف: 11].
كما قال سبحانه: ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا ﴾ [المائدة: 3].

فكل هذه الآيات تدل دلالة واضحة على أن القرآن منهج حياتنا، وسبيل سعادتنا، ومنار هدايتنا، وطريق عزتنا، ولهذا كان لزامًا على المسلم اتباع هداه، والسير على صراطه الأقوم.

إلا أن المستقرئ بعين البصيرة لآيات القرآن الكريم، يرى أن هناك بعضًا من الآيات الكريمات فيها إجمال، أو إطلاق، أو يجد في الشريعة أحكامًا لا يجدها في تلك الآيات، فهل لهذا من جواب؟

والجواب:
أننا نقول نعم، وجوابه في القرآن نفسه، حيث أن الله تعالى بين في القرآن أن القرآن ليس وحده مصدرًا التشريع للأحكام، بل هناك وحي آخر معه، يلي رتبة القرآن في الهداية والإرشاد، والتشريع للأحكام، وبيان جميع شرائع الإسلام، إنها "سنة النبي - صلى الله عليه وسلم -"، التي تكلم بها النبي - صلى الله عليه وسلم -، أو فعلها أو أقرها، قال الإمام ابن كثير الدمشقي في مقدمة تفسيره[3]:
"فإن قال قائل: فما أحسن طرق التفسير؟
فالجواب:
إن أصح الطرق في ذلك أن يُفَسَّر القرآن بالقرآن، فما أُجْمِل في مكان فإنه قد فُسِّر في موضع آخر، فإن أعياك ذلك فعليك بالسنة فإنها شارحة للقرآن وموضحة له، بل قد قال الإمام أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي، رحمه الله: كل ما حكم به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهو مما فهمه من القرآن.
قال الله تعالى: ﴿ إِنَّا أَنزلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا ﴾ [النساء: 105]، وقال تعالى: ﴿ وَأَنزلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نزلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [النحل: 44]، وقال تعالى: ﴿ وَمَا أَنزلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾ [النحل: 64].

ولهذا قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه" يعني: السنة.
والسنة أيضًا تنزل عليه بالوحي، كما ينزل القرآن؛ إلا أنها لا تتلى كما يتلى القرآن، وقد استدل الإمام الشافعي، رحمه الله وغيره من الأئمة على ذلك بأدلة كثيرة ليس هذا موضع ذلك".

ولهذا لا بد من الاحتكام لسنة النبي - صلى الله عليه وسلم -، والوقوف معها طاعة واتباعا، ومحبة وإيمانًا، ونزيد البيان بيانًا فنقول:
••••

وحي السنة وحجيتها:
فالسنة النبوية وحي منزل واجب الاتباع والطاعة، والمصدر الثاني لتشريع الأحكام في الإسلام، لأن السنة وحي منزل، وحجيتها قاطعة، فإذا كان "القرآن" وحيًا منزلًا من عند الله تعالى، فإن "السنة النبوية" وحي منزل أيضًا من عند الله تعالى، وقد دلت نصوص القرآن على ذلك، وجعلت للنبي - صلى الله عليه وسلم - مكانًا في الاتباع والطاعة والتشريع بأمر ربه سبحانه، فقال تعالى:
﴿ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ﴾ [المائدة: 67].
وقال تعالى:﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا ﴾ [النساء:59].

قال ابن القيم - رحمه الله -:
"قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا ﴾ [النساء: 59] فأمر تعالى بطاعته وطاعة رسوله، وأعاد الفعل إعلاما بأن طاعة الرسول تجب استقلالا من غير عرض ما أمر به على الكتاب، بل إذا أمر وجبت طاعته مطلقا سواء كان ما أمر به في الكتاب أو لم يكن فيه، فإنه أوتي الكتاب ومثله معه، ولم يأمر بطاعة أولي الأمر استقلالا بل حذف الفعل وجعل طاعتهم في ضمن طاعة الرسول؛ إيذانا بأنهم إنما يطاعون تبعا لطاعة الرسول، فمن أمر منهم بطاعة الرسول وجبت طاعته، ومن أمر بخلاف ما جاء به الرسول فلا سمع له ولا طاعة"[4].

وقال تعالى: ﴿ مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا ﴾ [النساء: 80].
وقال تعالى: ﴿ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ ﴾ [المائدة: 92].
وقال تعالى: قُ﴿ لْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ ﴾ [النور: 54].


وقال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ ﴾ [محمد: 33].
وقال تعالى: ﴿ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾ [الحشر: 7].
وقال تعالى: ﴿ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ ﴾ [آل عمران: 32،31].


وقال تعالى: ﴿ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ ﴾ [يونس: 15].
وقال تعالى: لَ﴿ قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾ [آل عمران: 164].


وقال تعالى: ﴿ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا ﴾ [النساء: 113].
وقال تعالى: ﴿ وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا ﴾ [الأحزاب: 34].

قال الإمام الشافعي - رحمه الله -:
"فذكر الله الكتاب وهو القرآن، وذكر الحكمة؛ فسمعت من أرضى من أهل العلم بالقرآن يقول: الحكمة سنة رسول الله.
وهذا يشبه ما قال والله أعلم؛ لأن القرآن ذُكر، وأتبعته الحكمة، وذكر الله مَنَّه على خلقه بتعليمهم الكتاب والحكمة؛ فلم يجز الله ـ والله اعلم ـ أن يقال: الحكمة ـ ها هنا ـ إلا سنة رسول الله؛ وذلك أنها مقرونة مع كتاب الله، وأن الله افترض طاعة رسوله، وحتم على الناس اتباع أمره، فلا يجوز أن يقال لقول: فرض؛ إلا لكتاب الله، ثم سنة رسوله؛ لما وصفنا من أن الله جعل الإيمان برسوله مقرونا بالإيمان به، فسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مبينة عن الله معنى ما أراد دليله على خاصه وعامه، ولم يجعل الله هذا لأحد من خلقه غير رسوله صلى الله عليه وسلم"[5].

فقد قرر الإمام محمد بن إدريس الشافعي - رحمه الله - أن الحكمة هي السنة النبوية، التي أنزلها الله تعالى وحيًا على نبيه ورسوله، كما قال تعالى: ﴿ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [النحل: 44].

وقال ابن القيم: "أنزل الله سبحانه وتعالى على رسوله وحيين وأوجب على عباده الإيمان بهما والعمل بما فيهما، وهما الكتاب والحكمة، وقال تعالى: ﴿ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ ﴾ [النساء: 113]، وقال تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾ [الجمعة: 2].

والكتاب هو القرآن، والحكمة هي السنة باتفاق السلف، وما أخبر به الرسول عن الله فهو في وجوب تصديقه والإيمان به كما أخبر به الرب تعالى على لسان رسوله، هذا أصل متفق عليه بين أهل الإسلام، لا ينكره إلا من ليس منهم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إني أوتيت الكتاب ومثله معه"."[6].

وعن إسماعيل بن عبيد الله قال: "ينبغي لنا أن نحفظ ما جاءنا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ فإن الله يقول: "وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا"، فهو عندنا بمنزلة القرآن"[7].


وقال ابن كثير - رحمه الله -: "والسنة أيضًا تنزل عليه بالوحي، كما ينزل القرآن؛ إلا أنها لا تتلى كما يتلى القرآن، وقد استدل الإمام الشافعي، رحمه الله وغيره من الأئمة على ذلك بأدلة كثيرة".

وعن حسان بن عطية قال: "كان جبريل ينزل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فيعلمه السنة كما يعلمه القرآن"[8].


ونزيد على تلكم الآيات البينات أيضًا، ما جاء في الحديث الصحيح: كما روي الترمذي عن المقدام بن معد يكرب رفعه: "ألا هل عسى رجل يبلغه الحديث عني, وهو متكئ على أريكته فيقول: بيننا وبينكم كتاب الله, فما وجدنا فيه حلالاً استحللناه, وما وجدنا فيه حرامًا حرمناه, وإن ما حرم رسول الله كما حرم الله".

ولأبي داود: "ألا وإني أوتيت الكتاب ومثله معه, ألا يوشك رجل شبعان على أريكته...
" الحديث.
وفي رواية: "ما وجدنا فيه حراما حرمناه ألا وإني أتيت القرآن ومثله معه".


وفي خطبة النبي - صلى الله عليه وسلم -، في حجة الوداع حث على التمسك بالكتاب والسنة حيث قال: "وقد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبدًا, أمرًا بينًا, كتاب الله, وسنة نبيه" رواه مالك.

وروى البخاري عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: "دعوني ما تركتكم.
إنما هلك من كان قبلكم بسؤالهم واختلافهم على أنبيائهم فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه وإذا أمرتكم بأمر فاتوا منه ما استطعتم".

وفي مجلس عمران بن حصين - رضي الله عنه - لما قال بعض الجلوس: دعنا من الحديث وحدثنا عن كتاب الله، غضب عمران - رضي الله عنه - وأنكر عليهم، وقال: لولا السنة كيف نعرف أن الظهر أربع، والعصر أربع، والعشاء أربع، والمغرب ثلاث؟ ثم قال: أتجد هذا مفسرًا في كتاب الله؟ كتاب الله قد أحكم ذلك، والسنة تفسره.

وقال الشافعي: "ليس يخالف الحديث القرآن، ولكن حديث رسول الله عليه الصلاة والسلام يبين معنى ما أراد خاصاً أو عاماً، وناسخاً ومنسوخاً، ثم يلتزم الناس ما سن بفرض الله، ممن قيل عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فعن الله قيل".

وجاء في الحديث: "نضَّر الله عبداً سمع مقالتي فحفظها ووعاها وأداها، فرُبَّ حامل فقهٍ غيرُ فقيهٍ، ورُبَّ حامل فقهٍ إلى من هو أفقه منه.
ثلاثُ لا يَغِلُّ عليهن قلب مسلم: إخلاص العمل لله، والنصيحة للمسلمين، ولزوم جماعتهم، فإن دعوتهم تحيط من ورائهم".

قال الإمام الشافعي: "فلما ندب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، إلى استماع مقالته وحفظها وأدائها امرَأً يؤديها، والامرؤ واحد: دل على أنه لا يأمر أن يؤدي عنه إلا ما تقوم به الحجة على من أُدِّي إليه، لأنه إنما يؤدي عنه حلالٌ، وحرام يُجتنب، وحدٌّ يقام، ومال يؤخذ ويعطى، ونصيحة في دين ودنيا".

ودخل على أبي حنيفة مرة رجل من أهل الكوفة، والحديث يقرأ عنده، فقال الرجل: دعونا من هذه الأحاديث.
فزجره أبو حنيفة أشد الزجر، وقال له: لو لا السنة ما فهم أحد منا القرآن.

وجاء عن الإمام مالك قوله: "ما من أحدٍ إلا ومأخوذ من كلامه ومردود عليه إلا رسول الله".

وجاء عن مالك أيضًا قوله: "إياكم رأي الرجال إلا إن أجمعوا عليه واتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم وما جاء عن نبيكم وإن لم تفهموا المعنى وسلموا لعلمائكم، ولا تجادلوا، فإن الجدال في الدين من بقايا النفاق".

وقال الإمام أحمد: "من رد حديث رسول الله، فهو على شفا هلكة".
وقال الخطيب البغدادي: "باب ما جاء في التسوية بين حكم كتاب الله تعالى وحكم سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجوب العمل ولزوم التكليف"[9].
••••

تعريف السنة ومعانيها:
فإذا وقفنا على مكانة السنة ومنزلتها من الكتاب، وعرفنا حجيتها التشريعية، فإننا نشير إلى معنى السنة الاصطلاحي أو التعريفي بإيجاز.

فالسنة في عرف أهل اللغة:
هي الطريقة والسيرة، محمودة كانت أم مذمومة، كما جاء في الحديث النبوي الصحيح: "لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرًا بشبر، وذراعًا بذراع..
الحديث".

أما تعريفها عند أهل الفقه:
فيجعلون السنة أحد الأحكام التكليفية الخمسة، وهي الواجب، والسنة، والحرام، والمكروه، والمباح.

أما أهل الدعوة:
فيجعلون السنة مقابل البدعة، لأن أعمالنا التعبدية إما أن تكون مشروعة، فهذه يقال فيها على السنة، وإما ألا تكون مشروعة، فتكون هي البدعة.

أما أهل الأصول:
فيجعلون السنة كل ما صدر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من قول - سوى القرآن -، أو فعل، أو تقرير.

أما أهل الحديث:
فيتوسعون أكثر في المعنى، فيجعلون السنة كل ما أثر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من قول، أو فعل، أو تقرير، أو صفة خلقية أو خلقية، أو سيرة.

قال الإمام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
"الحديث النبوي عند الإطلاق ينصرف إلى ما حدث به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد النبوة من قول أو فعل أو إقرار، فإن سنته - صلى الله عليه وسلم - ثبتت عن هذه الوجوه الثلاثة وإن كان تشريعا إيجابا أو تحريما أو إباحة وجب اتباعه فيه - صلى الله عليه وسلم -، فإن الآيات الدالة على نبوة الأنبياء دلت على أنهم معصومون فيما يخبرون به عن الله تعالى فلا يكون خبرهم إلا حقاً"

وسبب توسع أهل الحديث في معنى السنة، هو كون النبي - صلى الله عليه وسلم -، المثل الأعلى لأمته، وهو الأسوة المثلى في الكمال البشري، والإيمان الخالص، والاتباع الهادي، والقيادة الرائدة، ولهذا فكل ما يصدر عنه من أموره كلها يكون محل نقل، وهداية، وأسوة، واتباع.

ولهذا لا يوجد تعارض بين هذه المعاني جميعًا، لأن كل فريق منهم يستعمل السنة بحسب ما يفي له بتحقيق الغرض منها، وتبليغ أحكام الشريعة، وحفظ الدين ومصادره.
••••

وجوب العمل بالحديث والسنة والدعوة إليها:
وبعد معرفة منزلة السنة النبوية من القرآن، ومعرفة معانيها، فإن الواجب على المسلم عامة، وطالب الحديث خاصة، العمل بها، والامتثال لها، والتحاكم لها، والدعوة إليها، فإن الذي عليه أهل السنة والجماعة، أن السنة شارحة للقرآن مبينة للمراد منه، وقد قال الأوزاعي: الكتاب أحوج إلى السنة من السنة إلى القرآن، وقال يحيى بن أبي كثير: السنة قاضية على الكتاب، ونقل الإمام السيوطي عن بعض العلماء قوله: السنة شرح للقرآن.

فالواجب ملازمة السنة إيمانًا وقولًا وعملًا، ومحبة وتعظيمًا وإجلالًا، امتثالاً لأمر الله: "وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا"، وقوله: ﴿ فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾.
وقوله عز وجل: ﴿ مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ ﴾ [النساء: 80].

وقوله: ﴿ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ ﴾ [الجن: 23] وقوله تعالى: ﴿ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ﴾ [الحشر:7] وقوله تعالى: ﴿ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ ﴾ [آل عمران: 31].

وكذلك لما جاءت به السنة المطهرة، فيما رواه الشيخان البخاري و مسلم في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن أطاع الأمير فقد أطاعني، ومن عصى الأمير فقد عصاني"، وفي صحيح البخاري، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى.
قيل: يا رسول الله! ومن يأبى؟ قال: من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى".

وما جاء في حديث العرباض بن سارية: "أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة،..
فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة".

وجاء في الحديث: "يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله؛ ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين".

ولهذا فإن من الواجب الدعوة إلي السنة، والعمل بها، وتبليغها، ودعوة الناس إلى ملازمتها، كما في الحديث: "نضّر الله امرأً سمع منا شيئاً فبلّغه كما سمعه، فرب مُبَلّغ أوعى له من سامع".

وفي حديث أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً".
••••

وجوب الحذر من الابتداع ومخالفة السنة:
وقد جاء التحذير من إحداث البدع في الدين، ومخالفة السنة النبوية، كما في حديث عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد".
بل وهذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد تبرأ من أهل البدع والمخالفين لسنته وهديه، فقال: "ومن رغب عن سنتي فليس مني".

وقد جاءت آثار كثيرة عن السلف الصالح في ذم البدع وأهل الابتداع منها:
قول مالك: "من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة فقد زعم أن محمداً خان الرسالة؛ لأن الله يقول: "الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ"، فما لم يكن يومئذ ديناً فلا يكون اليوم ديناً".

وقد ذكر ابن سعد - رحمه الله - في طبقاته أن أبا بكر - رضي الله عنه - قال: "أيها الناس إنما أنا متّبع، ولست بمبتدع، فإن أحسنت فأعينوني، وإن زغت فقوِّموني".

وقال عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: "اتّبعوا ولا تبتدعوا فقد كُفيتم، كل بدعة ضلالة".

وقد تبرأ ابن عمر من "القدرية" حيث قال لمن سأله عنهم: "فإذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريء منهم وأنهم برآء مني".

وقال الإمام الشافعي - رحمه الله -: "حُكْمي في أصحاب الكلام أن يُضربوا بالجريد، ويُحملوا على الإبل، ويُطاف بهم في العشائر والقبائل، ويُقال: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة، وأخذ في الكلام".

وقال الإمام أحمد - رحمه الله -: "أصول السنة عندنا التمسك بما كان عليه أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والاقتداء وترك البدع، وكل بدعة ضلالة، وترك الخصومات، والجلوس مع أصحاب الأهواء، وترك المراء والجدال والخصومات في الدين".

وقال أيوب السختياني: "ما ازداد صاحب بدعة اجتهادا إلا ازداد من الله بعدًا".

وعن سفيان الثوري قال: "من جالس صاحب بدعة لم يسلم من إحدى ثلاث: إما أن يكون فتنة لغيره، وإما أن يقع بقلبه شيء يزل به فيدخله النار، وإما أن يقول: والله لا أبالي ما تكلموا به، وإني واثق بنفسي، فمن يأمن بغير الله طرفة عين على دينه سلبه إياه".

وقال سفيان الثوري: "إن البدعة أحب إلى إبليس من المعصية لأن البدعة لا يتاب منها والمعصية يتاب منها".

وقال حسان بن عطية المحاربي: "ما أحدث قوم بدعة في دينهم إلا نزع الله من سنتهم مثلها، ثم لم يعدها إليهم إلى يوم القيامة".

هذا أول ما يجب على طالب الحديث معرفته وتحصيله، بالدليل والبرهان، والمحبة والقبول والإيمان، والانقياد والإذعان، فإذا تم له ذلك، فعليه أن يعرف كيف يتلقى الحديث والسنة رواية ودراية، كما تلقاه السادة الأكابر من أسلافنا الصالحين، والعلماء المحدثين العاملين، من الصحابة الكرام، ثم من التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.

[1] انظر كتاب: بداية الهداية، في معرفة الحديث وآدابه وطرق التحمل والرواية، لكاتب المقال.

[2] انظر كتاب الإتقان في علوم القرآن للسيوطي، وحي القرآن للدكتور الذهبي، ومناهل العرفان للزرقاني.

[3] تفسير القرآن العظيم، لابن كثير.

[4] انظر إعلام الموقعين: ج1/48..

[5] الرسالة: للإمام الشافعي،78.

[6] الروح: لابن القيم:75.

[7] السنة للمروزي:88.

[8] الزهد: لابن المبارك:23.

[9] انظر كتاب الكفاية في علم الرواية.

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٣