تفسير آية: {وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله}
مدة
قراءة المادة :
11 دقائق
.
تفسير قول الله تعالى ﴿ وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِثْلِهِ ﴾
قول الله تعالى ذكره: ﴿ وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ﴾ [البقرة: 23، 24].
دعا الله تعالى الناس إلى الإيمان به وإفراده بالعبادة وحده، والبراءة من الأنداد التي كانوا يعبدونها من دونه، وأقام الدليل على استحقاقه وحده لتلك العبادة، بأنه خلقهم والذين من قبلهم، وجعل لهم الأرض فراشًا والسماء بناءً، وأنزل من السماء ماءً، فأخرج به من الثمرات رزقًا لهم، وآلهتهم التي اتخذوها لم يفعلوا ولن يفعلوا شيئًا من ذلك؛ لأنهم يعلمون أنهم عباد مثلهم، مخلوقون كخلقهم، فقراء إلى الله كفقرهم؛ لا يملكون لأنفسهم ضرًّا ولا نفعًا، ولا موتًا ولا حياة، ولا نشورًا.
ثم دعاهم إلى الإيمان بنبيه محمد صلى الله عليه وسلم، الذي عرف معنى العبودية فحقَّقها، وأخلصها لربه وحده، فنال ذلك الشرف الأعلى، واستحق أن تخلع عليه خلعة "عبدنا" الذي لم يعرف قلبه العبودية والذل إلا لله، فكان ذلك أحب ألقابه إلى نفسه وإلى ربه في خير المواطن وأشرفها: ﴿ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا ﴾ [الإسراء: 1]، ﴿ وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا ﴾ [الجن: 19].
"قولوا: عبد الله ورسوله، فإني عبد الله ورسوله" في التشهد في الصلاة وغيرها.
يقول الله جل ثناؤه: ﴿ وَإِنْ كُنْتُمْ ﴾ أيها المعرضون عن القرآن الحكيم، الساخرون منه، المستهينون به وبآياته، وعلمه وهدايته، المعظمون لغيره من كلام شيوخكم ورؤسائكم، وتقاليد آبائكم وأجدادكم، المقبلون على اللهو واللعب، والأغاني في سمركم وناديكم، المشغوفون بما افتراه لكم شياطينكم من جهالات - تسمونها قوانين ونُظمًا - يضطرب لها حبل النظام، ويختل بها الأمن والسلام، ويزداد بها كل يوم الشر والفساد، ويكثر الهرج والمرج، وتسفك الدماء: إن كان ذلك عن زعم منكم أن القرآن وهدايته ونُظُمه، وأحكامه وشرعته، ليس من عند الله الحكيم الخبير، وإنما هو قول محمد صلى الله عليه وسلم افتراه على ربه، فهاتوا برهانكم على ذلكم، وصحِّحوا دعواكم بإقامة الحجة، وإلا فهي باطلة عند كل عاقل، محمد أُمي ما تعلَّم في حياته كتابة، ولا قرأ شيئًا من أخبار الماضين، ولا سِيَر السابقين، وما عرَف الشعر ولا الخطابة، ولا كان يومًا من الأيام كاتبًا ولا ناثرًا، وأنتم المعروفون بالخطابة والشعر، وتحبير القول، ورصف الكلام، ونظم الشعر، ومحمد صلى الله عليه وسلم جاءكم بهذا القرآن من عند الله بعد أربعين سنة قضاها بين أظهركم، لا تستطيعون أن تذكروا له زَلَّة ولا كذبة على أحد منكم صَغُر أو كبر.
أفبعد بلوغه هذه السن التي يربأ فيها الرجل بنفسه عن السفه والطيش، والكذب وسفساف الأمور، ومحقرات الأخلاق، يعقل أن يكذب، وأن يكذب على الله، محال أن يدَع الكذب على الناس، ثم يكذب على الله.
محمد صلى الله عليه وسلم جاءكم بهذا القرآن العربي المبين، مركب من كلمات عربية مبنية من حروف المعجم: (ا ل م، ا ل م ص، ال م ر، ك ه ي ع ص.
ط.
هـ.
ي س.
ح م، ح م ع س ق.
ص.
ق.
ن)، تلك الحروف التي تبنون منها كلامكم، وهو الأُمي الذي لم يتعلَّم، وأنتم الخطباء المتعلمون البلغاء الممارسون، وقد عالجتم فنون الكلام حتى جوَّدتموها، فأنتم ذو اللسن الذين أعجزت فصاحتكم وبلاغتكم من حولكم من كل الأمم، وبلغتم فيها شأْوًا لم يدرك غباركم فيها سواكم، وأنتم الذين تفخرون بما أوتيتم من إجادة الوصف والسبك، وتتباهون بما صنعتم من قصيدة أو كتاب، أو قصة في أسلوب رائع، ومعنًى سام.
وها هو ميدان القول: ﴿ فأتوا بِسُورَةٍ مِّن مِثْلِهِ ﴾ فيها من العلم والهداية والنور، والأحكام، ونبأ الماضين كأنك حاضر معهم، وأحوال الآخرة كأنك شاهد لها، لا تملها النفوس مهما كرَّرتها، ولا تَسأَمها القلوب مهما ردَّدتها، بل إنها لتغلغل فيها، فتُقلقها وتُوقظها، وتُزعجها وتُحييها بعد موتها، وتأخذ بها إلى هداها ورشدها، تجد فيها لذة متجددة، وتجد لها حلاوة متشابهة، ولا يزيدها التكرار إلا إقبالاً عليها، وشغفًا بها ومتعة ونعيمًا، ورُوحًا وريحانًا.
يتلوها العابد في محرابه حق تلاوتها، فتسمو به إلى العالم العُلوي؛ يناجي ربه، ويغسل نفسه وقلبه من كل الدنايا والمحقرات، ويكتسي بها أجمل ثوب وأنقاه من خلقٍ كريم، ونفس زكية، وروح طاهرة.
ويتلوها القاضي على منصة القضاء حقَّ تلاوتها، فيضع الأمور في نصابها، ويرد الحقوق إلى أربابها، ويقف المعتدي عن عدوانه، ويزع الظالم عن ظلمه، فيخرج المتخاصمان وقد انتزعت السورة من نفسيهما العداوة والبغضاء، ورجَّعتهما إلى أُخوَّة الإيمان والإسلام، أو قطعت دابر المفسد منهما، وطهَّرت البيئة من شره وخبثه؛ حتى لا تنتقل عدواه إلى غيره، ويتلوها الملك على عرش حكمه حقَّ تلاوتها، فيعم الناس عدله، ويساوي بين القريب والبعيد، والعدو والصديق، والكبير والصغير، فتنجذب قلوب رعيته إلى حبه، وتتفانى في تنفيذ أوامره في سرها وعلنها، لا تخشى إلا الله، ويتلوها العالم على تلاميذه حق تلاوتها، فتستضيء قلوبهم بعلمٍ لا يأتيه الجهل من أي ناحية، وحق لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد.
وهكذا يتلوها التاجر في متجره، والزارع في حقله، والصانع في مصنعه، والرجل في بيته، والمرأة في خدرها، كل أولئك يتلونها حق تلاوتها، فتهديهم إلى أسعد حياة وأوفرها رخاءً وأعظمها أمنًا، وأقومها سبيلاً.
أيها المعرضون عن هداية القرآن، والمفتونون بحثالة الأفكار، وعكارة العقول البشرية، إن كان يمنعكم من الاهتداء به، ويحول بينكم وبين الاقتباس من نوره - زعمكم أن محمدًا صلى الله عليه وسلم تقوَّله على ربه، ﴿ فَأْتُوا بِسُورَةٍ ﴾ تجمع ما جمعت أقصر سورة من القرآن، فإن عجزتُم عن سورة بتمامها - وأنتم لا شك عاجزون - فائتُوا بآية فيها كذلك ما في آي القرآن، فإن عجزتم فاجمعوا من تستطيعون من نصرائكم وأعوانكم، واستعينوا بهم على صنع آية، وأنتم لا شك عاجزون عن ذلك كل العجز؛ لأن القرآن خطاب للقلوب والأرواح من العليم بالقلوب والأرواح، وأنتم لا تعلمون شيئًا، ولا تعرفون من علل النفوس وأمراض القلوب إلا خيالاً ووهمًا، فمحال أن تستطيعوا ذلك أو تقدِروا عليه؛ ﴿ قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ﴾ [الإسراء: 88].
والقرآن معجز بأسلوبه، وبمعانيه، وبتشريعه وأحكامه وآدابه، وبمواعظه وبقَصصه، وبعبره وبقوته التي لا تقدَّر في النفوذ إلى القلوب، حتى قال العارفون من العرب الذين يفقهون القول: ﴿ فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ ﴾ [المدثر: 24]، فمهما ذكر العلماء والأدباء في إعجاز القرآن، فهم مقصرون ومقصرون، وإذا أردت أن تقيم البرهان على إعجازه، فاقرأه متدبرًا، وأسمعه لغيرك مُتفقِّهًا ومُفقِّهًا، ترَ آيات إعجازه المتجددة على مر الأيام والأعصار.
ومن عجب أن يزعم زاعم أنه موقن بإعجاز هذا القرآن، ثم يذهب فيقصم عُراه، وينقض نظامه، ويضع كلمة من عنده مكان كلمة نظَمها الله واختارها العليم الخبير، فتراه مثلا يقول: ﴿ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ﴾، فيفض ذلك الزاعم هذا النظم ويرفع كلمة «يد» ويضع مكانها «قدرة»، كأن الله قد بحث عنها فلم يجدها حتى وجدها ذلك المسكين، أو كان الله لم يكن يعلم ما يليق بذاته العلية من صفات، وذلك المسكين أعلم بالله من الله، لا حول ولا قوة إلا بالله، وصدق الله إذ قال: ﴿ يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ ﴾ [البقرة: 26].
فإذا تبيَّن لكم عجزكم أيها المعرضون عن القرآن وهدايته، المفتونون عنه بقول آبائكم وشيوخكم، وفلاسفتكم ومُشرِّعيكم الضالين، فسارعوا بإنجاء أنفسكم ووقايتها مما أعده الله لكل معرض عن هذا القرآن الحكيم وهدايته، واتخذوا من الإيمان بالله ورسوله إيمانًا صادقًا بالعلم والاعتقاد والعمل، والقضاء والنظام والحكم، وقايةً وجُنة تقيكم وتُجنِّبكم النار التي بلغ من شدة إحراقها، وقوة اتِّقادها أن الله جعل ﴿ وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ ﴾، قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ﴾ [التحريم: 6].
أعدَّها الله وحضرها، وهيَّأها وخلقها من أزمان متباعدة، لا يعلمها إلا الله، حتى تكون أشد في الإيلام والإحراق والعذاب، مما لو كانت خلقت في يوم القيامة، فإنها كلما طال عليها الزمن، ازدادت قوة وتسعيرًا.
﴿ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ﴾ الذين يستحبون العمى على الهدى، والباطل على الحق، وقول الآباء والشيوخ على قول الله وقول الرسول، وحكم نابليون وإخوانه ونظامهم وقوانينهم على حكم الله ورسوله، والشرع الذي أنزله هُدى للناس؛ ليعيشوا عيشة راضية، ويَحيَوْا به حياة طيبة.
فإن كنت عاقلاً حريصًا على نفسك ونجاتها من المتالف والمهالك، فسارِع إلى مغفرة الله ورضوانه، واسلُك سبيل رسول الله صلى الله عليه وسلم في علمك وعملك، واعتقادك ونظامك، وحكمك وخلقك، وكل شأنك؛ لتنجوَ من هذه النار ومن عذاب الله في الدنيا بما كتبه من الشقاء والنكد على كل أمة تعرض عن هداه وتتَّبع هواها؛ ﴿ فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا ﴾ [طه: 123، 124].
نسأل الله العافية والهداية، والتوفيق إلى صراطه المستقيم، وأن يُجيرنا من النار وحرِّها ووقودها، إنه سميع مجيب.
المجلة
السنة
العدد
التاريخ
الهدي النبوي
الجزء الأول من السنة الثالثة
25
ربيع الآخر سنة 1358 هـ