أرشيف المقالات

نسخ الحكم الشرعي إلى بدل مساوٍ أو أخف أو أثقل

مدة قراءة المادة : 9 دقائق .
نسخ الحكم الشرعي إلى بدل مساوٍ أو أخف أو أثقل
 
إذا نُسخ الحكم الشرعي وحل محله حكم آخر، فإما أن يكون هذا الحكم البديل مساويًا للأول، أو أثقل منه، أو أخف:
1 - النَّسخ إلى بدل مساوٍ:
أي: على نفس المكلف؛ بحيث لا فرق بين الحكم المنسوخ والحكم الناسخ من حيث الثقل أو الخفة بالنسبة للمكلف.
 
مثاله: نسخ استقبال بيت المقدس الذي ثبت بالسنة، فنسخ بالقرآن؛ فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أول ما نسخ من القرآن فيما ذكر لنا - والله أعلم - شأنُ القبلة؛ قال تعالى: ﴿ وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ ﴾ [البقرة: 115]، فاستقبل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فصلى نحو بيت المقدس، وترك البيت العتيق، ثم صرفه إلى بيته العتيق ونسخها، فقال: ﴿ وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ ﴾ [البقرة: 150][1].
 
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قال: كان أول ما نسخ من القرآن القبلة؛ وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة - وكان أهلُها اليهودَ - أمره الله أن يستقبل بيت المقدس، ففرحت اليهود، فاستقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعة عشر شهرًا، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب قِبلة إبراهيم، فكان يدعو وينظر إلى السماء، فأنزل الله: ﴿ قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا ﴾ [البقرة: 144] إلى قوله: ﴿ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ ﴾ [البقرة: 144]، فارتاب من ذلك اليهود، وقالوا: ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها؟ فأنزل الله: ﴿ قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [البقرة: 142]، وقال: ﴿ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ ﴾ [البقرة: 115][2].
 
وهذا النوع لا خلاف في جوازه عقلاً ووقوعه سمعًا عند القائلين بالنَّسخ كافة.
 
2 - النَّسخ إلى بدل أخف:
وهذا كثير في شريعتنا، ولنكتفِ بمثالين:
الأول: قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ ﴾ [الأنفال: 65].
 
فهذه الآية نسخت بالآية التي بعدها، وهي قوله تعالى: ﴿ الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ [الأنفال: 66].
 
ولا شك أن الحكم الأخير أخف بكثير من الأول؛ فبدلاً من أن يصابر المسلم عشرة من الكفار عليه أن يصابر اثنين فقط.
 
الثاني: نسخ تحريم الأكل والشرب والجماع بعد النوم في ليالي رمضان، ولعل هذا التحريم كان ثابتًا بالسنة، فتم نسخُه بالقرآن؛ قال تعالى: ﴿ أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 187].
 
قال الحافظ ابن كثير - رحمه الله تعالى - عند تفسيره لهذه الآية: "هذه رُخصة من الله تعالى للمسلمين، ورَفْع لِما كان عليه الأمر في ابتداء الإسلام؛ فإنه كان إذا أفطر أحدهم إنما يحل له الأكل والشرب والجماع إلى صلاة العشاء أو ينام قبل ذلك، فمتى نام أو صلى العشاء حرم عليه الطعام والشراب والجماع إلى الليلة القابلة، فوجدوا من ذلك مَشَقة كبيرة.
 
وروى الإمام ابن جرير الطبري - رحمه الله تعالى - بسنده عن ابن عباس في قول الله تعالى ذكره: ﴿ أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ ﴾ [البقرة: 187]؛ وذلك أن المسلمين كانوا في شهر رمضان إذا صلوا العشاء حُرِّم عليهم النساء والطعام إلى مثلها من القابلة، ثم إن نَاسًا من المسلمين أصابوا الطعام والنساء في رمضان بعد العشاء، منهم عمر بن الخطاب، فشكَوْا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله: ﴿ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ ﴾ [البقرة: 187]، يعني: انكحوهن، ﴿ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ﴾ [البقرة: 187][3].
 
وهذا النوع كالنوع الأول، لا خلاف في جوازه عقلاً ووقوعه سمعًا عند القائلين بالنَّسخ أجمعين.
 
3 - النَّسخ إلى بدل أثقل:
مثاله: ما يتعلق بتحريم الخمر، وحد الزنا:
فبعد الإباحة تم الانتقال إلى تحريم الخمر في أوقات الصلوات، ثم حرم نهائيًّا، وهذا الأمر يذكره بعض العلماء كمثال على النَّسخ إلى بدل أثقل، والذي أراه - والعلم عند الله - أن هذا ليس من النَّسخ إلى بدل أثقل، فبالنظر إلى عواقب شُرب الخمر وما يسببه من الأضرار - البدنية وكذا المالية - بل ومن الجرائم والصد عن ذكر الله؛ كما قال سبحانه: ﴿ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ ﴾ [المائدة: 91] - فنسخ إباحته بتحريمه هو عين التخفيف على الأمة، والله أعلم.
 
وأما بالنسبة لحد الزنا، فقد كان الحكم في بداية الإسلام حبس الثيب وتعنيف البكر، فنُسخ ذلك بالرجم للثيب والجلد بالنسبة للبكر؛ قال تعالى: ﴿ وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا * وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا ﴾ [النساء: 15، 16].
 
"كان الحكم في ابتداء الإسلام أن المرأة إذا زنت، فثبَت زناها بالبينة العادلة، حُبست في بيت، فلا تُمكَّن من الخروج منه إلى أن تموت؛ ولهذا قال: ﴿ وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ ﴾ [النساء: 15] يعني: الزنا ﴿ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا ﴾ [النساء: 15] فالسبيل الذي جعله الله هو الناسخ لذلك.
 
قال ابن عباس: كان الحكم كذلك حتى أنزل الله سورة النور، فنسخها بالجلد، أو الرجم.
 
وكذا رُوي عن عِكرمة، وسعيد بن جُبَير، والحسن، وعطاء الخُراساني، وأبي صالح، وقتادة، وزيد بن أسلم، والضحاك: أنها منسوخة، وهو أمر متفق عليه"[4].
 
وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((خذوا عني، خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلاً؛ البِكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم))؛ رواه مسلم وأصحاب السنن.
 
ومن أهل العلم من قال: إن هذا ليس بنسخ، وإنما هو من قبيل المجمل الذي تم بيانه؛ حيث قال تعالى: ﴿ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا ﴾ [النساء: 15]، وهذا السبيل قد بيَّنه الله تعالى، لكن الراجح النَّسخ، والله أعلم.
 
وهذا النوع من النَّسخ - أي إلى بدل أثقل - اختلف فيه، وجمهور العلماء على جوازه عقلاً وسمعًا، ولهم أدلة - ذكرت بعضها - تثبت الوقوع السمعي، وهو أدل دليل على الجواز العقلي.



[1] رواه الحاكم في المستدرك وقال: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه بهذا السياق".


[2] تفسير ابن كثير: 1 /391.


[3] جامع البيان في تأويل آي القرآن: 3 /496.


[4] تفسير ابن كثير: 2 /233.

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٣