عزاء من الله. . .
مدة
قراءة المادة :
8 دقائق
.
للأديب لبيب السعيد
علم رسول الله بالنّازلة الجليلة، فغشيه من الحزن ما لم يستطع ردّه، وشاع في نفسه الهمّ الشديد حتى ليبدو للعيان في صفحة وجهه الوضاء.
إن بينه وبين فقيد اليوم قربة الروح والدين فوق قرابة الدم. فالفقيد هو جعفر بن أبي طالب أحد (الرّفقاء النجباء) الذين يعتز بهم ويشيد بفضلهم؛ وفي سبيل دعوته الناشئة آثر الاغتراب في البلد النازح على الإذعان لأعداء الدعوة في أرض الوطن، فتحمل بزوجه إلى الحبشة، حيث جعل الله على يديه إسلام عاهلها ومن تبعه.
والفقيد من أبرّ الناس بالمسلمين، و (أبو المساكين) كما هو يكنيه؛ وهو أحرص الناس على الأخذ بأخلاقه حتى ليبدو أشبه الناس به خُلُقاً إلى كونة أشبههم به خَلْقاً. وهو بعدُ ابن عمّه.
لقد كانت أوبةُ جعفر من مُهَاجره قريبة العهد، فما انقضى عليها غير عام وأربعة أشهر.
ولقد آب يوم فتح الله على رسوله والمؤمنين حصون (خيبر) بعد عراك وجهد، فكان الرّسول ﷺ في غمرة الأفراح يقبّله بين عينيه، ويلتزمه، ويقول: (ما أدري أيّهما أنا اسّر؟ بفتح خيبر أنم بقدوم جعفر؟) ويقول له كذلك: (أشبهتني خُلُقاً وخَلْقاً) فكانت نشوة الفرح والاعتزاز بهذه العواطف وهذه التشريف تأخذ جعفراً حتى ليرقص من فرط الطرّب والسّعادة. فوا أسفا! أأقبل حعفر ليدبر؟ أتحقّقت لقلب الرسول رجيّته ليثكلها بعد حين قليل؟ يا رحمتاه لهذا القلب!! ولقد كان جعفر أمس القريب حين خرج مع السّريّة يكلم رسول الله في ألا يقدَّم عليه زيد بن حارثة، لا إيثاراً لنفسه على زيد، ولكن رجاوة السّبق إلى لقاء المكاره في سبيل دينه.
واستصغاراً للنّصيب الذي فرض له من أعباء الجهاد؛ ورغبة حارة في أحسن بلاء يتاح لمسلم. فأين أمس، حين النبيّ يجيبه: (أمض، فأنك لا تدري أي ذلك خير)، وحين النبي في توديعه هو والجيش، وحين المسلمون ينظرون إليه وإلى الغُزاة نظرة الأمل، ويدعون لهم أطيب الدعاء؟ أين أمس؟.
لقد كان آخر العهد وفرقة الدهر!! وجعفر تخطّفه الموت وهو يطاحن مع ثلاثة آلاف من إخوانه المسلمين مأتي ألف جمّعها (هرقل) وزودها بما استطاع من عدّة.
ولم يلق جعفر حتفه كما يتَّفق، بل لقيه على نحو سيظل في القرون والأجيال آية مثالية باهرةً، وذكرى مروَّيةً لن تبيد.
كان زيد بن حارثة يقاتل براية رسول الله عليه الصلوات (حتى شاط في رماح القوم) فتلقف جعفر الراية، وانطلق يقاتل بها قتال المتشوق لإحدى الحسنيَيْن، حتى إذا ما ألجمه القتال اقتحم عن فرسه، فعقرها، كيلا ينتفع بها العدو، وما برح يقاتل - كما أوصى الرسول يوم هيأهم للخروج - (باسم الله في سبيل الله من كفر بالله)، ولواء النبي الأبيض في يمينه تباهي به ويباهي بها.
حتى جاءته ضربة أطاحت بهذه اليمين.
وكان طَبَيعياً لمن فقد يمينه أن يسُلَّم الراية لغيره - إن قدر على حفظها - ويتخلف بعض الوقت لينظر أمره.
ولكن جعفراً الذي أعار الله حياته، والذي لا يعرف شيئاً يمنعه عن المضيء في شرف الجهاد، والذي لا يمكن أن يذل في قراع النوائب خذ اللواء الكريم بشماله، وما أنفك يصاول العدو أروع الصيَّال مرتجزاً: يا حبذا الجنة واقترابها ...
طيّبة وباردٌ شرابها والروم روم قد دنا عذابها ...
كافرة بعيدة أنسابها عليَّ إذ لاقيتها ضِرابها حتى جاءته ضربة أخرى أطاحت بيساره.
أخمدَت لجعفر الصيَّب المنقطع ذراعاه همة؟ أو فُلَّت له عزمة؟ كلا! فهو لم يدع اللواء العزيز المزهوّ يسقط أو يخزى وإنما احتضنه بعضديه، منشوراً لاُ يطوى، كريماً لا يهون، والطعان تتري على جعفر فلا يولّيها دبره، وإنما يتلقاها في استعذاب حتى لتبلغ جراحه بضعة وسبعين كلها فيما أقبل من بدنه.
ولا يزال جعفر في المعمعة يهدر بنشيده القوى: (يا حبذا الجنة واقترابها) حتى تتحقق له الشهادة، إذ يجيئه رومي فيضربه ضربة تقطعه نصفين.
وهنالك فقط يدع الراية لمسلم ثالث؟ هذا هو الفقيد.
وأتى الرسول صلوات الله عليه إلى بيت جعفر يتفقد يتامى تركهم من خلفه خُضراً كأفراخ القطا، ويعزي عن المصاب فيه شريكته المرزّأة: أسماء بنت عميس؛ وإنه ليطلب إليها أن تأتيه ببنيها، وهو يحبس عنها النبأ الفاجع، ويأخذ أطفالها فيشمهم، وينظر إليهم نظرة الأسى المرير.
فيتمثل - إذ يراهم - وجه أبيهم الذي لقي حتفه في غرب شبابه، ويتمثل حلاوة أخلاقه وأن كان يداً قوية للمسلمين على عدوهم، وقلباً انطوت على حب الله ورسوله والإسلام لفائفه، وأترعت بالإيمان والإخلاص والعزم جوانبه، فتفيض عيناه الشريفتان رحمة وحناناً.
وأسماء تستوضحه: (بأبي أنت وأمي يا رسول الله.
! ما يبكيك؟) وتصيح من هول ما تسمع.
ويجتمع إليها النساء، فيعزيها الرسول في حنوٍ وعطف وينهاها: (يا أسماء! لا تقولي: هجرا، ولا تضربي خداً).
ويتوجه إلى الله ضارعاً: (اللهم قدّمه إلى أحسن الثواب، وأخلفه في ذريته بأحسن ما خلقتَ أحداً من عبادك في ذريته! كان خطب البيت النبوي في جعفر خطباً أحسوا له جميعاً لوعة متسعرة؛ وانظر كيف تدخل فاطمة على أبيها رسول الله وهي تبكي وتقول: (وأعمَّاه!).
فيقول والأشجان ملء فؤاده: (على مثل جعفر فلتبك البواكي!!) ويشاء الله برحمته أن يمسح بيده الآسية على قلب نبيه وآله، وأن يعزَّيهم عن فجيعتهم الحمراء عزاءً فذاًّ كمصابهم الفذ، فهذا الروحٍ الأمين ينزل على الرسول المحزون، فيبلغه أن الله قد عوض جعفراً عن ذراعيه بجناحين مضرجين بالدماء، يطير بهما مع الملائكة في الجنة.
يا بشرى!! وهل يبغي حبيب لحبيبه شيئاً وراء ذلك؟ ثم هذا النبي عليه الصلاة السلام يرفع مرة رأسه إلى السماء فيقول: (.
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته!) فيقول الناس: (يا رسول الله! ما كنت تصنع هذا) فيجيبهم: (مرَّ بي جعفر بن أبي طالب في ملأ من الملائكة فسلم عليَّ.
) ندى هذا العزاء الإلهي الأكباد القريحة وصرف عنها الجزع ونِعم الأسى آسٍ من روح الله، ونعم العزاء عزاء بقدر البلاء! (المنصورة) لبيب السعدي