أرشيف المقالات

تفسير الربع الأول من سورة المؤمنون

مدة قراءة المادة : 19 دقائق .
سلسلة كيف نفهم القرآن؟  [*]
تفسير الربع الأول من سورة المؤمنون

• من الآية 1 إلى الآية 11: ﴿ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ﴾: أي قد فاز المُصَدّقون بالله ورسوله، العاملونَ بشرعه، (واعلم أنّ الفلاح المقصود هنا هو الفوز بالجنة والنجاة من النار)، ومِن صفات هؤلاء المؤمنين أنهم: ﴿ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ ﴾ أي تَحضُر فيها قلوبهم فلا تنشغل بغيرها، ويكونون في صلاتهم ذليلينَ لربهم (مِن كثرة نعمه عليهم وكثرة ذنوبهم)، (وقد كان السَلَف الصالح إذا قام أحدهم في صلاته يخافُ أن يَلتفت فيها أو أن يُحَدِّث نفسه بشيءٍ من الدنيا وهو بين يدي ربه تبارك وتعالى، بل كان يَنظر إلى الأرض في حياءٍ وخوف، حتى إنّ أحدهم كانَ يقول إذا خرج مِن صلاته: (إنّ مِثلي لا يقومُ بين يديك، ولولا أنك أمَرتني ما فَعَلتُ)).
 
﴿ وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ ﴾ أي يَتركون ما لا خيرَ فيه من الأقوال والأفعال، (ومعنى إعراضهم عن اللغو: أي انصرافهم عنه وعدم التفاتهم إليه)، ﴿ وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ ﴾ أي مُؤَدُّونَ الزكاةَ لِمُستحِقّيها، ليُطَهِّروا بها نفوسهم وأموالهم، ﴿ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ ﴾ أي يَحفظون فروجهم مما حرَّم اللهُ تعالى ﴿ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ ﴾ ﴿ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ ﴾ - من الجواري المملوكات لهم شَرعاً - ﴿ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ ﴾ أي: فلا لومَ عليهم في جماعهنّ؛ لأنّ اللهَ قد أحلَّهنّ لهم، ﴿ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ ﴾ يعني: فمَن طلب التمتع بغير زوجته أو جاريته، فهو من المُتَعَدِّينَ لحدود الله تعالى، المُجاوِزينَ الحلالَ إلى الحرام، المُعَرِّضينَ أنفسهم لغضب اللهِ وعقابه.
 
﴿ وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ ﴾ أي يُحافظونَ على ما كل اؤتمنوا عليه (مِن قولٍ أو عمل أو مال أو غير ذلك)، (ومِن ذلك مُحافظتهم على التكاليف الشرعية التي أمَرَهم اللهُ بها)، وهُم الذين يُوفُّون بكل عهودهم وعقودهم، ﴿ وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ ﴾ أي يُداوِمونَ على أداء صلاتهم في أوقاتها، وعلى هيئتها الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
﴿ أُولَئِكَ ﴾ المتصفون بهذه الصفات ﴿ هُمُ الْوَارِثُونَ ﴾ ﴿ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ ﴾ - وهي أعلى منازل الجنة وأفضلها - ﴿ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ (إذ لا يَنقطع نعيمهم ولا يزول).
 
♦ واعلم أنّ العلماء قد اختلفوا في تفسير قول النبي صلى الله عليه وسلم عن الفردوس الأعلى: (فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة)، فقد قال بعضهم: إنّ مَعنى أوسط الجنة أي أفضلها، واستدلوا بقوله تعالى: ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا ﴾ أي خِياراً، وبقوله تعالى: ﴿ قَالَ أَوْسَطُهُمْ - أي أفضلهم -  أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ ﴾، فعلى هذا يكونُ المعنى: (إنها أعلى الجنة وأفضل الجنة)، وقد ذَكَرَ بعضهم قولاً آخر: وهو أننا إذا تخيلنا أن الجنة عبارة عن صندوق ضخم، فبالتالي تكون الفردوس في منتصف هذا الصندوق ولكنْ في أعلى نقطةٍ فيه، فبذلك تكون أعلى الجنة وأوسط الجنة، واللهُ أعلم.
 
• من الآية 12 إلى الآية 16: ﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ ﴾ - وهو آدم عليه السلام - ﴿ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ ﴾ أي مِن طينٍ مأخوذ من جميع الأرض، ثم نَفَخَ اللهُ فيه مِن روحه فصارَ بشراً سوياً، ﴿ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً ﴾ أي: ثم تناسلتْ ذريته مِن نُطفة (وهي ماء الرَجُل)، حيث تَخرج النُطفة من ظهور الرجال، ثم تستقر ﴿ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ﴾ أي في مُستَقَرّ مُتمكِّن - مُهَيّأ لحِفظ النُطفة - وهو أرحام النساء، ﴿ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً ﴾: أي: ثم يَتحول هذا المَنِيّ بقدرة اللهِ إلى عَلَقة (وهي قطعة من الدم الغليظ متعلقة بالرَحِم)، ثم تتحول هذه العَلَقة بقدرة اللهِ إلى مُضغة (وهي قطعة لحم صغيرة قَدْر التي تُمْضَغ في الطعام)، ﴿ فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ﴾ أي: ثم تتحول هذه المُضغة اللينة بقدرة اللهِ إلى عظام، ثم يَكسو اللهُ هذه العظامَ لحمًا.
 
﴿ ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آَخَرَ ﴾ أي: ثم يُنشئه اللهُ تعالى خَلقاً آخر غير الذي ابتدأه به (وذلك بعد نَفْخ الروح فيه)، إذ أصبح إنساناً يتحرك بعد أن كانَ جماداً لا حياةَ فيه، ﴿ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ﴾ أي:َ َعَظُمَتْ قدرة اللهِ تعالى الذي أحسن كل شيء خَلَقه، (واعلم أنّ معنى قوله تعالى: ﴿ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ﴾ أي أحسن الصانعين، لأنّ كلمة الخَلق تأتي في اللغة بمعنى الصناعة، فاللهُ تعالى يَصنع، والناسُ يَصنعون، واللهُ سبحانه أحسن الصانعين)، ﴿ ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ ﴾ أي ستموتون أيها البشر بعد انتهاء أعماركم، ﴿ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ ﴾ أي يَبعثكم اللهُ من قبوركم أحياءً للحساب والجزاء.
 
• الآية 17:  ﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ ﴾ أي سبع سماواتٍ بعضها فوق بعض، ﴿ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ ﴾ -الذين تحت السماوات -﴿ غَافِلِينَ ﴾ بل كنا حافظينَ لهم مِن أن تسقط عليهم فَتُهلِكهم، وكُنّا نُدَبّر أمورهم ونَعتني بمَصالحهم ومَنافعهم (وبذلك انتظم الكونُ والحياة، وإلاّ لَفَسَدَ كلُ شيء).
♦ ولعل اللهَ تعالى وَصَفَ السماوات بالطرائق لأنها الطُرُق التي تسير فيها الملائكة أو التي تسير فيها الكواكب، ويُحتمَل أيضاً أن يكون معنى طرائق: (أنّ بعضها فوق بعض)، وهذا مِثل قول العرب: (طارَقَ بين ثوبين) أي جَعَلَ أحدهما فوق الثاني، واللهُ أعلم.
 
• الآية 18: ﴿ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ ﴾ أي بمقدارٍ مُعَيّن (بحسب حاجة الخلائق) ﴿ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ ﴾ أي جَعَلنا الأرضَ مُستقَرًا لهذا الماء (كالأنهار والمياه الجوفية، وغير ذلك)، ﴿ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ ﴾ أي قادرونَ على الذَهاب بهذا الماء، وحينئذٍ ستَهلك البشرية عطشاً (وفي هذا تهديدٌ للظالمين).
• الآية 19، والآية 20: ﴿ فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ ﴾ - أي بهذا الماء - ﴿ جَنَّاتٍ ﴾ أي حدائق ﴿ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ ﴾ ﴿ لَكُمْ فِيهَا ﴾ أي في تلك الحدائق ﴿ فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ ﴾ تَربَحونَ منها بالتجارة، وتصنعون منها العصائر ﴿ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ ﴾، (واعلم أنّ اللهَ تعالى قد خَصَّ العنب والتمر من بين باقي الفواكه لمَكانتهما عند العرب وكثرة فوائدهما).
﴿ وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ ﴾ أي: وأنشأنا لكم بهذا الماء شجرةَ الزيتون التي تخرج حول جبل الطُور بـ "سيناء"، والتي ﴿ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ ﴾ أي يُعصَر منها الزيت فيُدَّهَن، ﴿ وَصِبْغٍ لِلْآَكِلِينَ ﴾ أي يَغمس الآكِلونَ اللقمةَ في هذا الزيت ويأكلونها، (وفي الآية إشارة إلى أنّ أول مَنبَت لشجر الزيتون كان بطُور سيناء، ثم تناقله الناس مِن إقليمٍ إلى آخر).
 
• الآية 21، والآية 22: ﴿ وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ ﴾ - وهي الإبل والبقر والغنم - ﴿ لَعِبْرَةً ﴾ أي لكم فيها عِبرةٌ عظيمة على قدرة اللهِ تعالى، فقد شاهدتم كيف ﴿ نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا ﴾ من اللبن (إذ يُخرِجُ اللهُ تعالى مِن بين الدم، ومِن بين القاذورات الموجودة في الكرْش: لَبَنًا خالصاً ليس فيه شيءٌ من الرَوَث أو الدم، لا في لونه ولا رائحته ولا طعمه)، ﴿ وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ ﴾ - كالصُوف والجلود - ﴿ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ ﴾ ﴿ وَعَلَيْهَا ﴾ أي: على الإبل في البر ﴿ وَعَلَى الْفُلْكِ ﴾ أي: وعلى السفن في البحر: ﴿ تُحْمَلُونَ ﴾ أي تَركبون عليها وتَحملون عليها أمتعتكم، (أفلا تشكرونَ اللهَ تعالى على هذه النعم فتعبدوه وحده ولا تُشركوا به؟!).
 
• الآية 23: ﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ ﴾ ليَدعوهم إلى التوحيد وترْك الشِرك، ﴿ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ﴾ وحده، فـ﴿ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ ﴾ يَستحق العبادة ﴿ غَيْرُهُ ﴾، إذِ هو سبحانه الذي يَخلقُ ويَرزق، ويُحيي ويُميت، ويَضر ويَنفع، فأخلِصوا له العبادة، ﴿ أَفَلَا تَتَّقُونَ ﴾؟ يعني: أفلا تخافونَ عذابَ اللهِ وغضبه، إنْ بَقيتم على ما أنتم عليه؟!

• الآية 24، والآية 25: ﴿ فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ﴾ أي قال الكُبَراء والسادة المُكَذِّبينَ لنوح - ليَصُدُّوا الناسَ عن الإيمان به -: ﴿ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ ﴾: يعني: ما نوحٌ إلا إنسانٌ مِثلكم لا يتميَّز عنكم بشيء، ولا يريد بدعوته إلا الرئاسة عليكم، ﴿ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً ﴾ يعني: ولو شاء اللهُ أن يُرسل إلينا رسولاً لأَرسله من الملائكة، ﴿ مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آَبَائِنَا الْأَوَّلِينَ ﴾: أي لم نَسمع قبل ذلك كلاماً مِثل الذي جاء به نوح، ولم يَقُل به أحدٌ من أجدادنا السابقين، ﴿ إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ ﴾: أي ما هو إلا رجلٌ به مَسٌّ من الجنون ﴿ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ ﴾ أي انتظروا حتى يُفيق فيَترك دَعْوته، أو يموت فتستريحوا منه.
 
• الآية 26: ﴿ قَالَ ﴾ نوحٌ - داعياً ربه -: ﴿ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ ﴾ أي انصرني على كفار قومي; بسبب تكذيبهم لي.
• الآية 27: ﴿ فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا ﴾ أي اصنع السفينة تحت بَصَرِنا وتحت رعايتنا، ﴿ وَوَحْيِنَا ﴾ يعني: وبتوجيهنا وتعليمنا (إذ لم يكن يَعرف السُفُن ولا كيفية صُنعها)، ﴿ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا ﴾ بإهلاكهم ﴿ وَفَارَ التَّنُّورُ ﴾ أي نَبَعَ الماء بقوة من الفرن الذي يُخبز فيه (وكانَ هذا علامة على مَجيء العذاب، لأنّ اللهَ تعالى قد فجَّرَ الأرض عُيوناً من الماء، حتى نَبَعَ الماء من الفرن) ﴿ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ ﴾ أي: فحينئذٍ أدخِلْ في السفينة مِن كل نَوعٍ من أنواع الحيوانات (ذكر وأنثى) ليَبقى النَسل، وأدخل فيها أهلَ بيتك ﴿ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ ﴾ يعني إلا مَنِ استحق العذاب لكُفره (كزوجتك وابنك)، ﴿ وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا ﴾ أي لا تطلب مِنِّي صَرْفَ العذاب عن هؤلاء الذين ظلموا أنفسهم بالكفر، ولا تَشفع لهم في تخفيفه عنهم، فـ ﴿ إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ ﴾ بالطوفان لا مَحالة.
 
• الآية 28، والآية 29: ﴿ فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ ﴾ يعني: فإذا عَلَوْتَ السفينةَ واستقرَرْتَ عليها - أنت ومَن معك (آمِنينَ من الغرق): ﴿ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾ ﴿ وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا ﴾ أي: يَسِّر لي النزول المبارك الآمن، ﴿ وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ ﴾ أي خيرُ مَن يُنزِلُ الناسَ في المكان الطيب المبارك.
♦ ويُلاحَظ أنّ الله تعالى قال: ﴿ وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ ﴾ ، ولم يقل: (وأنت وحدك المُنزِل)، لأنه قد يوجد مَن يُنزِلُ شخصاً في مكانٍ مُريح (كأنْ يُسكِنه في بيتٍ مُريح، أو يَستقبله ضيفاً عليه أو غير ذلك)، إذاً فالعبد يُنزل، واللهُ تعالى يُنزِل، واللهُ خيرُ المُنزِلين.
 
• الآية 30: ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ ﴾: يعني إنّ في إنجاء المؤمنين وإهلاك الكافرين لَدلالاتٍ واضحاتٍ على صِدق الرُسُل فيما جاؤوا به، ﴿ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ ﴾ يعني: ولقد كنا مُختبرينَ الأمم بإرسال الرُسُل إليهم قبل نزول العقوبة بهم.
 
• الآية 31، والآية 32: ﴿ ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آَخَرِينَ ﴾ أي أنشأنا جيلاً آخر بعد قوم نوح (وهُم هنا قوم عاد، على الراجح من أقوال العلماء)، ﴿ فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ ﴾ - وهو هود عليه السلام - فأمَرَهم ﴿ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ ﴾ وحده، فـ﴿ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ ﴾ يَستحق العبادة ﴿ غَيْرُهُ ﴾ ﴿ أَفَلَا تَتَّقُونَ ﴾: يعني أفلا تخافونَ عقاب اللهِ إذا عبدتم معه غيره؟
 
♦ واعلم أنّ اللهَ تعالى قال: ﴿ فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ ﴾ ولم يقل: (فَأَرْسَلْنَا إليهِمْ)، لأنّ هوداً عليه السلام كان مِن أهل قريتهم، أما عندما أخبر تعالى عن موسى وفرعون فإنه قال: ﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآَيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ * إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ ﴾ ، لأنّ موسى عليه السلام لم يكن منهم.
 
• من الآية 33 إلى الآية 38: ﴿ وَقَالَ الْمَلَأُ ﴾ وهم السادةُ والأشرافُ ﴿ مِنْ قَوْمِهِ ﴾ ﴿ الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾ بوحدانية اللهِ تعالى ﴿ وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآَخِرَةِ ﴾ ﴿ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾ أي طَغَوا بما أُنعم اللهُ عليهم في الدنيا من تَرَف العيش، فهؤلاء قالوا لقومهم ليَصُدّوهم عن الإيمان بهُود: ﴿ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ ﴾ (أي لا فرقَ بينكم وبينه، فكيف تَرضون أن يكون سَيّداً عليكم يأمركم وينهاكم؟!)، ﴿ وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ ﴾ (أي ستَخسرون مَكانتكم بسبب اتِّباعكم له وترْكِكم لآلهتكم)، ﴿ أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ ﴾ مِن قبوركم أحياء؟ كيف تُصَدِّقون هذا؟! ﴿ هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ ﴾ أي بعيدٌ حقًا ما يَعِدكم به، ﴿ إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا ﴾: أي ما حياتنا إلا في هذه الدنيا، ﴿ نَمُوتُ وَنَحْيَا ﴾ أي جيلٌ يموت وجيلٌ يَحيا، فيموت الآباءُ مِنّا ويَحيا الأبناء ﴿ وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ ﴾ بعد الموت، ﴿ إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ ﴾ أي: ما هذا إلا رجلٌ قد اختلق على اللهِ كذبًا، ولَسنا بمُصَدِّقينَ ما قاله لنا.
 
• الآية 39: ﴿ قَالَ ﴾ هودٌ - داعياً ربه -: ﴿ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ ﴾ أي انصرني عليهم بسبب تكذيبهم لي.
• الآية 40: (﴿ قَالَ ﴾) اللهُ - مُجيبًا لدعوته -: ﴿ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ ﴾ أي: بعد زمنٍ قصير سيُصبحون نادمينَ على تكذيبهم.
 
• الآية 41: ﴿ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ ﴾ أي جاءتهم صيحة شديدة مع ريحٍ شديدة ﴿ بِالْحَقِّ ﴾ أي بالعدل (بسبب كُفرهم وذنوبهم) فماتوا جميعًا ﴿ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً ﴾ أي أصبحوا كغُثاء السَيل (وهي الرَغوة التي تطفو على سطح الماء ثم تتلاشى أو تُرْمَى) (والمعنى أنهم أصبحوا لا حياةَ فيهم ولا فائدةَ منهم)، ﴿ فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾ أي هلاكًا لهؤلاء الظالمين وبُعْدًا لهم من رحمة الله.
 
• الآية 42، والآية 43، والآية 44: ﴿ ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُونًا آَخَرِينَ ﴾ أي أنشأنا أُمَمًا آخرين بعد قوم هود (كقوم صالح وقوم شعيب)، ﴿ مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا ﴾ أي لا تتجاوزُ أُمَّةٌ أجَلَها فتزيد عليه ﴿ وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ ﴾: أي ولا يَتأخرون عن ذلك الوقت لحظة، ﴿ ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا ﴾ إلى تلك الأمم ﴿ تَتْرَى ﴾ أي يَتبَع بعضهم بعضًا، ﴿ كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ ﴾ - رغم وضوح المُعجِزات التي يأتي بها الرُسُل -، ﴿ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا ﴾ بالهلاك والدمار، فلم يَبْقَ إلا أخبار هَلاكهم ﴿ وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ ﴾ أي قصصاً يَحكيها مَن بعدهم لتكون عبرةً لهم، ﴿ فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾ أي هَلاكًا لقومٍ لا يُصَدِّقونَ الرُسًل ولا يُطيعونهم.



[*] وهي سلسلة تفسير لآيات القرآن الكريم، وذلك بأسلوب بسيط جدًّا، وهي مُختصَرة من (كتاب: "التفسير المُيَسَّر" (بإشراف التركي)، وأيضًا من "تفسير السّعدي"، وكذلك من كتاب: " أيسر التفاسير" لأبي بكر الجزائري) (بتصرف)، عِلمًا بأنّ ما تحته خط هو نص الآية الكريمة، وأما الكلام الذي ليس تحته خط فهو تفسير الآية الكريمة.
• واعلم أن القرآن قد نزلَ مُتحدياً لقومٍ يَعشقون الحَذفَ في كلامهم، ولا يُحبون كثرة الكلام، فجاءهم القرآن بهذا الأسلوب، فكانت الجُملة الواحدة في القرآن تتضمن أكثر مِن مَعنى: (مَعنى واضح، ومعنى يُفهَم من سِيَاق الآية)، وإننا أحياناً نوضح بعض الكلمات التي لم يذكرها الله في كتابه (بَلاغةً)، حتى نفهم لغة القرآن.

شارك الخبر

المرئيات-١