أرشيف المقالات

الطبع والتطبع

مدة قراءة المادة : 7 دقائق .
الطبع والتطبع
علي سلطان علي السيد [*]

(زارنا "ثعبان" وديعٌ، وقد حمل إلينا الكثيرَ من الهدايا والتحف، ومن المأكولات ما لذَّ وطاب، وبعد المسامرة والمؤانسة نام "الثعبان" بيننا في سلام وأمان).

ما رأيك عزيزي القارئ في هذه الحادثة؟
قد يقول قائل: إن هذه الطُّرْفةَ من حكايات (ألف ليلة وليلة)[1].

وقد يقول آخر: ربما هذه القصة من (شطحات أبو لَمعة)!

وربما تساءل ثالث: هل هذا "الثعبان" حقيقيٌّ؛ أي: بصفات الثعبان المعروفة لدى الصغار؛ من: (سم قاتل modern snake لدغ مميت، عداء فاتك)؟ أم هو...؟

قلت: كل هذه الأقوال والتساؤلات محتملة وصائبة؛ فالأشياء لها صفاتٌ ثابتة (فِطَر) لا تتغيَّر بمرور الزمن، فالنار تحرقُ، والثعبان يلدغ، والكلب يَعَضُّ، والأسد يفترس.

فلم نسمع يومًا عن تغيُّر حقائق (جواهر) هذه المخلوقات إلا في حالة معجزات الأنبياء، أو كرامات الأولياء؛ فالنار فقدت خاصيَّة الإحراق بأمر الله، فلم تحرقْ خليلَ الرحمن؛ ﴿ قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ ﴾ [الأنبياء: 69]، والثعبان ذو السمِّ الناقع جاء يومًا إلى العابد الزاهد (إبراهيم بن أدهم) وهو نائم، جاءه الثعبان وفي فمه طاقة نرجس[2].

والكلب كان أنيسًا لأهل الكهف؛ ﴿ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ ﴾ [الكهف: 18].

ولعلك تلاحظ معي - أيها القارئ الحصيف - أن الله تعالى راعى طبيعة الكلب، وجعل مكانَه (الوصيد)؛ أي: باب الكهف؛ حتى يتسنَّى للملائكة دخول الكهف؛ لأن الملائكة لا تدخل بيتًا فيه كلبٌ.


والأسد كان دليلاً لأحد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم "سفينة" مولى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم عندما كُسِر به المركبُ، وخرج إلى جزيرة[3].

أما في غير المعجزات والكرامات فطبائع المخلوقات وخواصها لا تتغيَّر، ثابتة على ما فطرها الله تعالى حتى قيام الساعة،

فلا يعقل أن يكون (الثعبان) صديقًا للإنسان، أو يكون الذئب حارسًا للأغنام ...، إنَّ من عنده مسكةَ عقل يستنكر ذلك.

فعندما يخبر الله سبحانه في القرآن الكريم بأن (اليهود) أعداءٌ لنا فلا مجال للشكِّ؛ لأن الله تعالى هو المُتحدِّث؛ ﴿ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا ﴾ [النساء: 87]؟

ولا مجال للشك في عداوتهم لنا؛ لأن الله تعالى قال: ﴿ لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ ...
[المائدة: 82]،

لكن ما سر عداوة اليهود لنا؟!

لقد بيَّن لنا ابن كثير رحمه الله سرَّ هذه العداوة فقال: (ما ذاك إلا لأن كفرَ اليهود كفرُ عنادٍ وجحود ومباهتةٍ للحق، وغمط للناس، وتنقص لحملة العلم؛ ولهذا قتلوا كثيرًا من الأنبياء حتى همُّوا بقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم غير مرة، وسموه، وسحروه - عليهم لعائنُ الله المتتابعة[4].

ولا غرابةَ في وجود أعداء لنا؛ لأنه كما قال الشاعر:
ليس يخلو المرءُ من ضدٍّ ولو ♦♦♦ حاوَلَ العُزلة في رأس الجبل

فهذه سنة الله في خلقه، ﴿ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا ﴾ [الأحزاب: 62].

ولكن العجيبَ والغريبَ حقًّا هو أن نطلبَ من العدو أن يُغيِّر جلدَه، ويتحول بين عشيَّة وضحاها إلى صديق حميم، كيف هذا؟!

إن هذا مُحالٌ بنص الكتاب العزيز؛ ﴿ وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ ﴾ [البقرة: 120]؛ أي: (وليست اليهود - يا محمد - ولا النصارى براضيةٍ عنك أبدًا، فدَعْ طلبَ ما يرضيهم ويوافقهم، وأقْبِل على طلب رضا الله في دعائهم إلى ما بعثَك الله به من الحق)[5].

فشرطُ رضاهم عنا هو أن نتساوى في الكفر؛ ﴿ وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً ﴾ [النساء: 89]، وقد صدَق ذو النورين رضي الله عنه حين قال: (ودَّت الزانية لو أن النساءَ كلَّهن زوانٍ).

وأجمل منه قوله تعالى: ﴿ وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ ﴾ [البقرة: 109]؛ (ففي هذه الآية: يُحذِّر الله تعالى عبادَه المؤمنين عن سلوك طريق الكفار من أهل الكتاب، ويعلمهم بعداوتهم لهم من الباطن والظاهر، وما هم مشتملون عليه من الحسد للمؤمنين)[6].

فالطبع فطرة ثابتة، ﴿ فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ﴾ [الروم: 30].

وإن توقُّع الخير من العدو أو مجرد الأمل في ذلك سَفَهٌ وحُمق وخَرْق؛ لأنه كما قال الشاعر:
ومُكلِّفُ الأيام ضد طباعها ♦♦♦ متطلِّب في الماء جذوةَ نارِ

فمهما حاول الشرير إخفاءَ شرِّه وكشحه تحت ثوب من الخير، فلا تنخدع بهذه الصورة الزائفة؛ لأن (الطبع يغلب التطبع).



[*] معلم شرعي بمدارس دار الصفوة الأهلية - الرياض.
[1] هو مصنف عربي ضخم من إبداع عباقرة مجهولين، يشتمل على مجموعة من الحكايات المتباينة؛ مثل: السندباد البحري، علاء الدين ومصباحه السحري، شهر زاد.

[2] ابن رجب الحنبلي البغدادي؛ جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثًا من جوامع الكلم، ص:163 الناشر دار الفكر - السعودية.

[3] السابق، ص: 163.

[4] ابن كثير؛ تفسير القرآن العظيم، المجلد الثاني، ص: 80، الناشر: دار المفيد - بيروت - لبنان، الطبعة الأولى 1983.

[5] السابق، المجلد الأول ، ص: 142.

[6] السابق، المجلد الأول، ص: 133

شارك الخبر

ساهم - قرآن ١