إتحاف الأريب بسقوط شبهات أهل الصليب (2) - خالد عبد المنعم الرفاعي
مدة
قراءة المادة :
67 دقائق
.
الحمدُ لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصَحْبِه ومَن والاه، أمَّا بعدُ:
ذكرنا في المرة السابقة بعض شبهات أعداء الله من النصارى، التي يُلقونها على الأغرار من المسلمين، تشكيكًا لهم في دينهم، بعد عجزهم عن تنصيرهم؛ وصدق الله العظيم إذ يقول: { وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَاء } [ النساء :89]، بل بعدما عجزوا عن صد أتباعهم عن التسرب من النصرانية والدخول في الإسلام، وزادت صدمتهم بعدما نشر "الفاتيكان" عبر موقعه الإلكتروني ما يوافق تقرير مركز "بيو" الأمريكي للأبحاث أن عدد الأقباط المصريين أربعة ملايين ونصف مليون.
ونذكر في هذا المقال بعضًا آخر من شبهاتهم المتهافتة:
- العدْوى غير مثبتة ومعروفة علميًّا! ففي حديث البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضِي الله عنْه أنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليْه وسلَّم قال: « لا عدْوى ولا صفَر ولا هامة».
إذًا هذه الأحاديث تُثبت نفْي محمَّد للأمراض المُعْدية كلِّها، وتناقل الأمراض بين البشَر عن طريق العدْوى، وهذا خطأٌ علْمي؛ فالعدوى موجودة، وهي سبب خوفِنا حاليًّا من انتشار مرض إنفلونزا الخنازير.
يقولون: ومما يدل على العجز العلمي بخصوص الأمراض المعْدية وانتِشارها بالعدوى: أن تعدُّد الزَّوجات وملك اليمين، حلال في الإسلام.
فلو أنَّ مسلمًا ذهب للجِهاد، ومن الغنائم أخذ إحدى السَّبايا وعاشرها، وهو لا يعرف شيئًا عنْها، ولا مَن كانت تعاشِرُه، وهو بكل بساطة ينكحها، فهذا يؤدي إلى العدوى بأمْراضٍ كثيرة، والأخطر من ذلك سيؤدِّي إلى انتِشارها إلى كلِّ الزَّوجات والسَّبايا، بل وأولاده، لو كان هذا أمرًا إلهيًّا، لكان أدرك هذا الخطأ الفادح، لكنَّه لم يؤمن بالعدوى.
أيضًا: حديث الذُّبابة يؤكِّد أنَّه لم يسمع بالعدْوى.
فلو أن ذبابة فيها تيفود، المفْروض أنَّ المسلم يضَع الذُّبابة كلَّها في الماء كي يأخُذ العلاج؛ لأنَّ جناحًا فيه الدَّاء والثاني فيه الدَّواء.
وأيضًا: حديث بئر بضاعة النجِس، كان الرَّسول يذهب يتوضَّأ ويشرب منه، هذا البئر كان للمخلَّفات: كلاب ميتة، ودم حيض، ولمَّا قال النَّاس هذا، أجاب: أنَّ الماء من عند الله، ولا يلوثه أي شيء.
وكان يمصُّ الألسنة، وكذلك شرب بول البعير، وبول الرسول، والنُّخامة، كل هذا دليلٌ أنَّ الرَّسول لَم يؤمِن بالعدْوى.
فالصورة كلَّها: يشْرب من ماء به ذباب وحمار، وبعد هذا يغْسل نفسَه بماء ملوَّث، ولمَّا يمرض يشْرب بول بعير، ويروح ينام مع الأربع وباقي الجواري كي يعديهم.
فلو أنَّ المسلم يريد أن يقول: إنَّ هناك إعجازًا علميًّا، الإعجاز أنَّهم عاشوا ولَم يَموتوا مُباشرة من هذه التعاليم!
وقبل الجواب على هذه الشبهات ودحْضها، وبيان تهافُتها -بحول الله وقوَّته- يحسُن تقْديمُ مقدّمات يليق أن تُذكر هنا لينكشف سرّ الجواب:
المقدمة الأولى: أنَّ الشَّريعة الإسلاميَّة مبنيَّة على موافقة السَّمع الصَّحيح -وهو قول المعصوم الَّذي لا يجوز أن يكون في خبره كذبٌ، لا عمدًا ولا خطأ- للمعْقول الصَّريح -وهو ما كان ثابتًا أو منتفيًا في نفس الأمر، لا بحسب إدراك شخص معين- فلا تناقُض في الإسلام بين معقولٍ صريحٍ ومنقول صحيح، وإنَّما يَظنُّ تعارُضَهما مَن يعارض الدلالات العقليَّة الصَّريحة من السوفسطائيَّة وأمثالهم، أو مَن يظنُّ تعارُض الأدلَّة السمعيَّة، وكثيرًا ما تشتبِه وتتعارض الدلالات عند مَن تخطفه الشُّبهات، والآفة حينئذٍ، من إدراكه هو لا مِن المُدرك نفسه، كالأحْول الَّذي يرى الواحد اثنين، والممْرور الَّذي يجِد الحلْو مرًّا، وما شابه.
أمَّا مَن استقام عقلُه وسلِم من المباهتة والسفْسطة، علم أنَّ الشَّرع لا يأتي بشيء تُحيله العقول البتَّة، فيستحيل أن يتعارض دليلانِ قطعيَّان عقليَّان، ولا سمعيَّان، ولا سمعي وعقلي، ولكن مَن لم يفهم حقيقة القولَين يظنُّ تعارُضَهما؛ لعدم فهمِه، لفساد أحدهما.
وقد دعا الله عبادَه في القرآن الكريم إلى معرِفَته عن طريقين: النَّظر في مفعولاته، والتَّفكُّر في آياته المشْهودة، والمسموعة المعقولة، وتدبُّرها.
ولكن قد يوجد في النَّاس مَن اكتسب عقْل الفِكْر -الَّذي محله الدِّماغ- وفَقَد عقل الهداية -الَّذي محلُّه القلْب- أو العكس، كما في كثيرين من عباد الصليب.
ومعرفة الله لا تتمُّ إلاَّ بالعقْل والقلب معًا، ومَن لم يجعل الله له نورًا فما له من نور.
قال شيخ الإسلام في "درء تعَارُض العَقل والنَّقْل" (ج1 /ص 96): "ما عُلِم بصريح العقْل لا يتصوَّر أن يعارضه الشَّرع البتَّة، بل المنقول الصَّحيح لا يُعارِضُه معقول صريح قط، وقد تأمَّلت ذلك في عامَّة ما تنازع النَّاس فيه، فوجدت ما خالف النُّصوص الصَّحيحة الصَّريحة شبهات فاسدة، يعلم بالعقْل بطلانها، بل يُعلم بالعقْل ثبوتُ نقيضِها الموافق للشَّرع، وهذا تأمَّلته في مسائل الأُصول الكبار، كمسائل التَّوحيد والصِّفات، ومسائل القدر والنبوَّات، والمعاد وغير ذلك، ووجدت ما يعلم بصريح العقْل لَم يخالفْه سمعٌ قطُّ، بل السَّمع الذي يقال: إنَّه يخالفه إمَّا حديثٌ موضوع، أو دلالة ضعيفة؛ فلا يصلح أن يكونَ دليلاً لو تجرَّد عن معارضة العقْل الصَّريح، فكيف إذا خالفَه صريح المعقول؟!"
وقال (ج1 /ص 98): "فلا يعلم حديثٌ واحد يُخالف العقْل أو السَّمع الصَّحيح إلاَّ وهو عند أهل العِلم ضعيف؛ بل موضوع، بل لا يُعلم حديث صحيح عن النَّبي صلَّى الله عليْه وسلَّم في الأمْر والنَّهي أجمع المسلِمون على تركِه إلاَّ أن يكون له حديثٌ صحيح يدلُّ على أنَّه منسوخ، ولا يعلم عن النَّبيّ صلى الله عليْه وسلَّم حديثٌ صحيح أجْمع المسلِمون على نقيضِه، فضلاً عن أن يكون نقيضه معلومًا بالعقْل الصَّريح البيِّن لعامَّة العقلاء، فإنَّ ما يعلم بالعقْل الصَّريح البيِّن، أظهرُ ممَّا لا يعلم إلاَّ بالإجْماع ونحوِه من الأدلَّة السَّمعيَّة.
فإذا لم يوجد في الأحاديث الصَّحيحة ما يعلم نقيضُه بالأدلَّة الخفيَّة -كالإجماع ونحوه- فأنْ لا يكون فيها ما يعلم نقيضُه بالعقْل الصَّريح الظَّاهر أوْلى وأحْرى، ولكن عامَّة موارد التعارُض هي من الأمور الخفيَّة المشتبهة الَّتي يحار فيها كثيرٌ من العقلاء، كمسائل أسماء الله وصفاته وأفعالِه، وما بعد الموت من الثَّواب والعِقاب، والجنَّة والنَّار، والعرش والكرسي، وعامَّة ذلك من أنباء الغيْب التي تقصر عقول أكثرِ العُقلاء عن تحقيق معرِفَتها بمجرَّد رأيهم؛ ولهذا كان عامَّة الخائِضين فيها بمجرَّد رأيِهم إمَّا متنازعين مختلفين، وإمَّا حيارى متهوِّكين".
وقال (ج1 /ص 100): "بل نقول قولاً عامًّا كلّيًّا: إنَّ النُّصوص الثابتة عن الرَّسول صلَّى الله عليْه وسلَّم لَم يُعارِضها قطّ صريحٌ معقول، فضْلاً عن أن يكون مقدَّمًا عليْها، وإنَّما الَّذي يُعارضها شُبه وخيالات مبْناها على معانٍ مُتشابهة، وألفاظ مجملة، فمتى وقع الاستِفْسار والبيان، ظهر أنَّ ما عارضها شُبهٌ سوفسطائيَّة، لا براهين عقليَّة".
المقدِّمة الثانية: أنَّ القرآن والسنَّة قد اتَّفقا على إثبات قاعدة الأسباب وارتِباطها بمسبباتِها، ولكنَّ السبب لا يستقلُّ بالحادث حتَّى ينتفي المانع ويأذن الله، ونصوص ربْط الأسباب بمسبّباتها شرعًا وقدرًا، وجعل الأسباب محلَّ حكمتِه في أمره الدّيني والشَّرعي، وأمْره الكوني القدَري، ومحل ملكه وتصرُّفه ممَّا يعجز المرءُ عن حصْرِها، ومَن قرأ القرآن الكريم ونظَر في السنَّة المشرَّفة، علِم أنَّ إنكار الأسْباب والقُوى والطَّبائع جحْدٌ للضَّروريَّات، وقدْحٌ في العقول والفِطَر، ومُكابرة للحسِّ وجحد للشَّرائع، فجَعَل سبحانه مصالحَ العباد في معاشِهم ومعادهم، والثَّواب والعقاب، والحدود والكفَّارات، والأوامر والنَّواهي، والحلّ والحرمة، جعل كلَّ ذلك مرتبطًا بالأسباب، قائمًا بها، بل العبد نفسه وصفاته وأفعاله سببٌ لِما يصدر عنْه، بل الموجودات كلّها أسباب ومسببات، والشَّرع كلّه أسباب ومسببات، والمقادير أسباب ومسببات؛ كقوله تعالى: { بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ} [آل عمران: 79]، { بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ } [الأعراف: 39]، { ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ } [ الحج : 10]، { فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ } [الشورى: 30]، { كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الخَالِيَةِ } [الحاقة: 24]، { جَزَاءً وِفَاقاً } [النبأ: 26]، { فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً .
وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ } [النساء: 160-161]، { فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِم بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ} إلى قوله: {وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً .
وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا المَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ} [النساء: 155 -157]، وقوله: {فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً } [المائدة: 13]، وقوله: { فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ} [آل عمران: 159]، وقوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَت تَّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ } [غافر: 22]، وقوله: { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا البَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا} [البقرة: 275]، وقوله: {ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا البَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الحَقَّ مِن رَّبِّهِمْ} [محمد: 3]، وقوله: { فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَّابِيَةً} [الحاقة: 10]، وقوله: {فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ المُهْلَكِينَ } [المؤمنون: 48]، { فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذاً وَبِيلاً} [المزمل: 16]، { فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُم بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا } [الشمس: 14]، وقوله: { فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ . فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِّلآخِرِينَ } [الزخرف: 55، 56]، وقوله: { وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُّبَارَكاً فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الحَصِيدِ} [ق: 9]، وقوله: { حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ المَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ} [الأعراف: 57]، وقوله: {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ} [المائدة: 16]، وقوله: {قَاتِلُوَهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ} الآية [ التوبة : 14]، وقوله: {وَأَنزَلْنَا مِنَ المُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجاً .
لِنُخْرِجَ بِهِ حَباًّ وَنَبَاتاً .
وَجَنَّاتٍ أَلْفَافاً} [النبأ: 14 - 16].
وكل موضع رتّب فيه الحكم الشَّرعي أو الجزائي على الوصف أفاد كونه سببًا له؛ كقوله: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللَّهِ } [المائدة: 38]، وقوله: { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ } [النور: 2]، وقوله: { وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ المُصْلِحِينَ} [الأعراف: 170]، وقوله: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَاباً فَوْقَ العَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ} [النحل: 88]، وهذا أكثَر من أن يُستوْعَب.
وكلّ موضع تضمَّن الشَّرط والجزاء أفاد سببه الشرط والجزاء؛ كقوله: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً} [الأنفال: 29]، وقوله: {لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ } [إبراهيم: 7].
وكل موضع رتَّب فيه الحكم على ما قبْله بحرف الفاء أو غيره، أفاد التسبُّب، وكل موضع تقدَّم وذكرت فيه الباء تعليلاً لما قبلها بما بعدَها، أفاد التسبُّب، وكل موضع صرّح فيه بأنَّ كذا جزاءٌ لكذا، أفاد التسبيب؛ فإنَّ العلَّة الغائيَّة علَّة للعلَّة الفاعليَّة؛ قال تعالى عن ذي القرنين: {وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً } [الكهف: 84]، قال ابن عبَّاس: "عِلْمًا"، وقال قتادة وابن زيد وابن جريج والضحَّاك: "علمًا تسبَّب به إلى ما يُريد"، وقال كثيرٌ من المفسِّرين: "آتيناه من كل ما بالخلق إليه حاجة علمًا ومعونةً له".
وقوله: {فَأَتْبَعَ سَبَباً } [الكهف: 85]، قال مجاهد: طريقًا؛ أي: أتْبع سببًا من تلك الأسباب التي أُوتيها ممَّا يوصِّلُه إلى مقصوده.
وكقوله تعالى: {وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ} [النساء: 102]، وقال تعالى: {فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ } [يوسف: 47]، وهما نص في قاعدة الأخذ بالأسباب.
والسنَّة المشرفة مليئةٌ بذلك؛ فقد ظاهرَ النَّبيُّ صلَّى الله عليْه وسلَّم بين درعَين، وشاور طبيبَين، وعالج سعد بن معاذ بكيه في أكحله، ولمَّا خرج إلى الطَّائف لم يقدِر على دخول مكَّة حتَّى بعث إلى المطعم بن عدي وكان كافرًا، فقال: "أَدخل في جوارِك"، وقد كان يُمكنه أن يدخُل متوكِّلاً بلا سبب.
بل الإعراض عن الأسباب، دفع لحكمة الله؛ والتَّداوي من هذا الباب، فندب إليه الشارع؛ قال صلَّى الله عليْه وسلَّم: « إن الله تعالى أنزل الداء والدواء وجعل لكل داء دواء فتداووا ولا تداووا بالحرام»
[الراوي: أبو الدرداء] [المحدث: ابن الملقن ]، [خلاصة حكم المحدث: إسناده صحيح]، وقد كوى عليْه الصَّلاة السَّلام ابن زرارة، ورقى الكثيرين، وشرع لأمته الرقية.
«وبعث صلَّى الله عليه وسلَّم إلى أُبَيِّ بْنِ كعبٍ طبيبًا، فقطع منه عِرْقًا، ثُمَّ كَواه عليه » [رواه مسلم]
«وأمر صلَّى الله عليه وسلَّم عرفجةَ بن أسعد -لما قُطِعَ أنفُه يوم الكُلاب- أن يتخذ أنفًا من ذهَب » [ رواه أبو داود وغيره.]
والحاصل:
أنَّك لن تجِد كتابًا من الكتُب أعظم إثباتًا للأسْباب من القرآن الكريم، وإذا كان الله خالق السَّبب والمسبب، وهو الَّذي جعل هذا سببًا لهذا، والأسباب والمسببات طوع مشيئته وقدرته، منقادة لحكمه، إن شاء أن يبطل سببيَّة الشيء أبطلها؛ كما أبطل إحْراق النَّار عن خليلِه إبراهيم، وإغراق الماء عن كليمِه موسى وقومه، وكما أبطل ذبح السكين عن نبيه إسماعيل، وإن شاء أقام لتلك الأسْباب موانع تمنع تأثيرَها مع بقاء قواها، وإن شاء خلَّى بيْنها وبين اقتِضائه لآثارها، ولا يستقلُّ سبب بِحادث؛ فهو سبحانه يفعل هذا وهذا وهذا!
فأي قدحٍ يوجب ذلك في الإسلام بوجْهٍ من الوجوه، فإذا توافر السَّبب، وانتفى المانع، وأذِنَ الله حدث الحدث.
ولكن ضعفاء العقول إذا سمِعوا تلك التَّهويشات من أعداء الرُّسُل، من أنَّ المسلمين يبطلون عمَلَ الأسباب بقولهم: "لا عدوى"، ولم يدرِ المستمِع وجْهَ الحديث، ولا ألاعيبَ وأكاذيب أعداء الرُّسل والتوحيد، أحدث في قلبه رِيبةً؛ لأنه لا يوجد شيءٌ أعظم جنايةً على الشَّرائع والنبوَّات والتَّوحيد من إيهام النَّاس أنَّ المسلمين -أهْل التَّوحيد والدين الحق- ينكرون الأسْباب، فإذا رأوا تلك التهويشات، ساءت ظنونُهم بالإسلام، وبمَن جاء به، ولم يدْروا أنَّ ما نفاه النَّبي صلَّى الله عليه وسلَّم في قوله: « لا عدوى ولا صفر ولا هامة » غير ما أثبته في قوله: « لا يوردن ممرضٌ على مصح».
المقدمة الثالثة: أنَّ مَن تدبَّر سيرة النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم علِم ضرورةً أنَّه رسولُ الله حقًّا وصدقًا، فلو لم تكن له معجِزة ظاهرة غير سيرتِه العطِرة، لكفت وشفت؛ وذلك أنَّه عليه الصلاة والسَّلام نشأ أمّيًّا في بلاد جهْل وصحْراء قاحلة، ولم يَخرج عن تلك البلاد، ولا فارق قومَه إلاَّ مرَّتَين: إحداهما إلى الشَّام، وهو صبي مع عمِّه إلى أوَّل أرض الشَّام، ورجع، والأُخرى أيضًا إلى أوَّل الشَّام، ولم يطل بها البقاء قطّ، ثمَّ مكَّنه الله تعالى من العرب كلِّها، فلم تتغيَّر نفسُه، ولا حالت سيرته، إلى أن مات ودرْعُه مرهونةٌ في شعير لقوت أهلِه، أصواع ليست بالكثيرة، ولم يبِت قطُّ في ملكه دينار ولا درهم، وكان يأكُل على الأرض ما وجد، ويخصف نعله بيدِه، ويرقع ثوبه، ويؤْثِر على نفسه، وقتل اليهود ُ رجُلاً من أفاضل أصْحابه، قُتل بين أظهر أعدائه من اليهود، فلم يتسبَّب إلى أذى أعدائِه بذلك؛ إذ لم يوجب الله تعالى له ذلك، ولا توصَّل بذلك إلى دمائهم، ولا إلى دم واحدٍ منهم، ولا إلى أموالهم، بل فداه من عند نفسِه بمائة ناقة، وهو في تلك الحال محتاجٌ إلى بعيرٍ واحد يتقوَّى به، وهذا أمرٌ لا تسمح به نفسُ ملك من ملوك الأرض وأهل الدنيا ، من أصحاب بيوت الأموال بوجه من الوجوه، ولا يوجب هذا أيضًا ظاهر السيرة والسياسة، فصحَّ يقينًا بلا شكٍّ أنَّه إنَّما كان متَّبعًا ما أمر به ربُّه عزَّ وجلَّ سواء كان مضرًّا به في دُنياه غاية الإضْرار، أم كان غير مضرٍّ به، وهذا عجب لِمَن تدبَّره، ثمَّ حضرتْه المنيَّة وأيْقن بالموت، وله عمٌّ أخو أبيه هو أحبُّ النَّاس إليه، وابن عمٍّ هو من أخصِّ النَّاس به، وهو أيضًا زوج ابنتِه الَّتي لا ولدَ له غيرها، وله منها ابنان ذكران، وكلا الرجُلين المذكورَينِ -عمّه وابن عمّه- عندهما من الفضْل والدين والسّياسة في الدُّنيا، والبأس والحلْم وخلال الخير، ما كان كلُّ واحدٍ منهُما حقيقًا بسياسة العالَم كلِّه، فلم يحابِهِما وهُما من أشدِّ النَّاس غناء به، ومحبَّة فيه، وهو من أحبِّ النَّاس فيهما، ولكن لما كان غيرُهُما متقدِّمًا عليْهِما في الفضْل، وإن كان بعيد النَّسَب منه، فوَّض الأمر إليه، قاصدًا إلى أمر الحقِّ واتِّباع ما أمر به، ولم يورث ورثَته -ابنته ونساءه وعمه- فلسًا فما فوقه، وهم كلُّهم أحبُّ النَّاس إليه وأطْوَعُهم له، وهذه أمورٌ لمن تأمَّلها كافية مغْنية في أنَّه إنَّما تصرَّف بأمر الله تعالى لا بسياسة ولا بهوى نفس.
علَّمه الله تعالى الحكمة دون معلِّم، وعصمه من كلِّ مَن أراده بشر، على كثْرة مَن أراد قتله مِن شُجْعان العرب وفُتَّاكهم، كعامر بن الطفيل، وأربد بن جزء، وغيرهم، فهل بعد هذا برهانٌ، أو بعد هذه الكفاية من الله تعالى كفاية؟! وهو لا يبغي دُنيا، ولا يمنِّي بها من اتَّبعه، بل أنْذَر الأنصار بالأثَرة عليهم بعدَه، وتابعوه على الصَّبر على ذلك، قام له أصحابُه على قدَم فمنعهم وأنكَرَ ذلك عليْهِم، وأعلمهم أنَّ القِيام لله تعالى لا لخلقِه، ورضُوا بالسجود له، فاستعْظم ذلك وأنكره إلاَّ لله وحْدَه، ولا شكَّ في أنَّ هذه ليست صفةَ طالبِ دُنيا قطُّ أصلاً، ولا صفة راغبٍ في غلَبة ولا بُعْد صوت، بل هذه حقيقة النبوَّة الخالصة لمن كان له أدْنى فَهْم.
كان إسلام جَميع العرب أوَّلهم -كالأوس والخزرج- ثمَّ سائرهم قبيلةً قبيلة؛ لِما ثبت عندهم من آياته، وبهرهم من معجزاته.
فاتَّبعوه صلَّى الله عليه وسلَّم إذ بلغَهم خبرُه في حياته عليْه السَّلام للآيات التي كانت له بحضْرة جَميع أصحابه، كإعجاز القُرآن وانشِقاق القمر، ودُعاء اليهود إلى تمنِّي الموت، وإخْبارهم بعجْزِهم عن ذلك وأنَّهم لا يتمنَّونه أصلاً، والإنذار بالغيوب، ونبعان عين تبوك فهي كذلك إلى اليوم، ونبعان الماء من بين أصابعِه بحضرة العسْكر، وإطْعامه النَّفر الكثير من طعام يسيرٍ مِرارًا جمَّة بحضرة الجموع، وإخباره بأكْل الأرضة كلَّ ما في الصحيفة المكتوبة على بني هاشم وبني عبد المطلب حاشا اسم الله تعالى وإخْباره بمصارع أهل بدْر بحضرة الجيش موضعًا موضعًا، والنُّور الواقع في سوط الطُّفيل بن عمرو الدَّوسي، وحنين الجذع بحضرة جميعِهِم، ونجاته من حصار كفار مكة لبيته، وخروجه وهو يرميهم بتُراب أعمى عيونَهم، تاليًا لآيات القرآن الكريم، ثم دخوله الغار ولم تظفر به جموع قريش.
وشكْوى البعير إليه، وإبْراء عينَي عليٍّ من الرَّمد بحضرة الجماعات في ساعة، وسوخ قوائم فرَس سُراقة إذ تبعه، ودرّ الشَّاة الَّتي لا لبنَ لها مرارًا، وتسبيح الطَّعام بين يديه، وكلام الذئب ومجيئِه، ودعائِه للمطَر فأتى للوقْت وفي الصَّحو فانجلى للوقت.
وكان صلى الله عليه وسلم جَمِيل العِشْرَة، دائم البِشْر، يُداعِبُ أهلَه، ويتَلَطَّفُ بهم، ويوسعُهُم نَفَقَته، ويضاحِك نساءَه، حتى إنه كان يسابق عائشة أم المؤمنين، يتَوَدَّدُ إليها بذلك؛ قالت: سَابَقَنِي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فَسَبَقْتُهُ، وذلك قبل أن أحملَ اللحم، ثم سابقته بعدما حملتُ اللحمَ فسبقني، فقال: "هذِهِ بتلْك"، ويجتمع نساؤه كل ليلة في بيت التي يبيت عندها رسول الله صلى الله عليه وسلم فيأكل معهن العشاء في بعض الأحيان، ثم تنصرف كلُّ واحدة إلى منْزلها، وكان ينام مع المرأة مِنْ نسائه في شعار واحد، وكان إذا صلَّى العشاء يدخل منزله يسمر مع أهله قليلاً قبل أن ينام، يؤانسهم بذلك صلى الله عليه وسلم.
ومات رسول الله صلَّى الله عليْه وسلَّم والإسلام قد انتشر وظهر في جَميع جزيرة العرب، وفي هذه الجزيرة من المدُن والقرى ما لا يعْرِف عدده إلاَّ الله عزَّ وجلَّ كاليمن والبحرين وعمان ونجد، وجبلي طي، وبلاد مضر، وربيعة وقضاعة، والطَّائف ومكَّة، كلُّهم قد أسلم وبنَوا المساجد، ليس منها مدينة ولا قريةٌ ولا حلَّة لأعرابٍ إلاَّ قد قُرئ فيها القُرآن في الصَّلوات، وعلمه الصِّبيان والرجال والنساء.
انتقل رسولُ الله صلَّى الله عليْه وسلَّم إلى الرَّفيق الأعْلى والمسلمون ليْس بيْنهم اختِلاف في شيء؛ فكلُّهم أمَّة واحدة، ودين واحد، ومقالة واحدة، ثمَّ ولِي أبو بكْرٍ سنتَين وستَّة أشهر، فغزا فارس والرُّوم، وفتح اليمامة، وقد ارتدَّ كثيرون بعد موْتِ النَّبيِّ فأخرج إليْهم أبو بكر البعوثَ، فلم يمضِ عام واحد حتَّى راجع الجميع الإسْلام، أوَّلهم عن آخرهم، وإنما كانت نزغةً من الشَّيطان كنارٍ اشتعلت فأطْفأها الله للوقت.
ثمَّ مات أبو بكر ووليَ عُمر، ففُتِحت بلاد الفرس -إيران- طولاً وعرضًا، وفتحت الشام كلّها، والجزيرة ومصر كلّها، ولَم يبقَ مكانٌ إلاَّ وبُنِيَت فيه المساجد، ونُسِخت فيه المصاحف، وقرأ الأئمَّة القرآن، وعلمه الصبيان في المكاتب شرقًا وغربًا.
ثمَّ وليَ عثمان، فزادت الفتوح واتَّسع الأمر، ثمَّ فتح المسلمون الأندلُس وبلاد البربر، وبلاد السودان إلى آخر السند، وكابل وخراسان والترك والصقالبة، وبلاد الهند.
فوضح بما ذكرنا -ولله الحمد كثيرًا- أنَّ نبوَّة محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم حقٌّ، وأنَّ شريعته الَّتي أتى بها هي الَّتي وضحت براهينها واضطرَّت دلائلها إلى تصْديقها، والقطْع على أنَّها الحقّ الَّذي لا حقَّ سواه، وأنَّها دين الله تعالى الَّذي لا دين له في العالم غيرُه، والحمدُ لله ربِّ العالمين عددَ خلقِه ورضاءَ نفسِه، وزنةَ عرشِه ومداد كلماتِه، على ما وفَّقنا إليْه من الملَّة الإسلاميَّة.
فهذا هو الحقُّ، لا ما تدَّعيه النَّصارى من الكذب البحْت في أنَّ الملوك دخلوا دينَهم طوعًا، وقد كذبوا في ذلك؛ لأنَّ أوَّل ملك تنصَّر قسطنطين، بعد نحو ثلاثمائة عامٍ من رفْع المسيح عليه السلام فأي معجزةٍ صحَّت عندَه بعد هذه المدَّة؟! وإنَّما نصَّرته أمُّه لأنَّها كانت نصرانيَّة بنت نصراني، عشِقَها أَبوه فتزوَّجها، وهذا أمر لا تُنكره النَّصارى، وما قدَرَ على إظْهار النَّصرانيَّة حتَّى رحلَ عن روميَّة وبنى بزنطية، وهي قسطنطينية، ثمَّ أجْبَر النَّاس على النصرانيَّة بالسَّيف والعطاء، وكان من عهودِه المحفوظة: أن لا يولي ولايةً إلاَّ مَن تنصَّر، فسارع النَّاس إلى الدُّنيا نافرين عن الأدْنى.
ثمَّ مات قسطنطين وولي ابنُه، ورجعَ إلى عبادة الأوْثان، إلى أنْ مات، ثمَّ ولي رجل من أقاربِ قسطنطين فرجع إلى النصرانيَّة، وسنُفْرد في حلقة مستقلَّة عن مَخازي النَّصارى وبطلان دينِهم، من واقع كتبهم التي بين أيديهم.
وهذا أوان الشُّروع في الجواب:
أمَّا معنى الحديث الذي في الصَّحيحين عن أبي هريرة رضِي الله عنْه قال: إنَّ رسول الله صلَّى الله عليْه وسلَّم قال:« لا عدْوى ولا صفر ولا هامة»، فالجواب من وجوه:
منها: أنَّ تمام الحديث في الصحيحيْن: « فقال أعرابي: يا رسول الله، فما بالُ إبِلي تكون في الرمل كأنَّها الظباء، فيأتي البعير الأجرب فيدخل بينها فيجربها؟ فقال:فمَن أعدى الأوَّل؟! »
فالنَّبي صلَّى الله عليه وسلَّم في هذا الحديث الشَّريف إنَّما نفى ما كان عليْه أهل الإشْراك وغيرهم، من اعتقاد ثبوت العدوى بطبيعةِ المرض ؛ أي: إنَّ السبب يستقلّ بالحادث بدون إذن الله، ولَم يرد أن ينفِيَ كونَ العدْوى سببًا للمرض، وإنَّما نفى أن يكون شيءٌ في كونِه إلاَّ بإذنِه سبحانه والسبب قد يتخلَّف عن سببِه كما يتخلَّف الشِّفاء بعد أخْذ الدَّواء، وكما في غيرهما من الأسباب، يُبينه نهيُه صلَّى الله عليه وسلَّم عن دخول المريض على الصَّحيح، فقال: « لا يوردن ممرضٌ على مصح»؛ متَّفق عليه، وروى مسلم عن عمرو بن الشَّريد عن أبيه قال: « كان في وفد ثقيف رجلٌ مجْذوم، فأرسل إليه النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم: إنَّا قد بايعْناك فارجع ».
وقال صلَّى الله عليْه وسلَّم: « فرَّ من المجْذوم فرارَك من الأسد» [رواه أحمد].
ففي تلك الأحاديث وغيرِها إثباتٌ للعدْوى كسبب للمرض بما يقدِّره الله تعالى فإيراد الممرض على المصحّ قد يكون سببًا يَخلق الله تعالى به المرض في السليم، وقد يصرِف الله سبحانه تأثيره بأسباب تضادُّه أو تمنعه قوَّة السببيَّة، وهذا محض التَّوحيد الذي يعزُب فهمُه عن غير الموحِّدين من المشْركين.
قال ابن القيِّم في كتاب "مِفتاح دار السَّعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة" (2 /273): "فالتَّوحيد من أقْوى أسباب الأمْن من المخاوف، والشِّرك من أعظم أسباب حصول المخاوف؛ ولذلك مَن خاف شيئًا غيرَ الله سلّط عليه، وكان خوفه منه هو سببَ تسْليطه عليه، ولو خاف الله دونَه ولم يخفه، لكان عدم خوفِه منْه وتوكُّله على الله من أعظم أسباب نجاته منْه، وكذلك مَن رجا شيئًا غير الله، حُرِم ما رجاه منْه، وكان رجاؤُه غير الله من أقوى أسْباب حِرْمانه، فإذا رجا الله وحْده، كان توْحيد رجائِه أقْوى أسباب الفوز بما رجاه، أو بنظيره، أو بما هو أنفع له منْه".
اهـ.
ومنها: قولُه صلَّى الله عليه وسلَّم: « إذا سمِعْتُم بالطَّاعون بأرض فلا تدخلوها، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تَخرجوا منه »؛ رواه البخاري ومسلم عن سعد بن أبي وقَّاص.
وقوله: «فلا تدخلوها »؛ أي: مقامكم في الموضِع الَّذي لا طاعون فيه أسكنُ لقلوبِكم وأطيب لعيشِكم، فلو كانت العدْوى منفيَّة بالمعْنى الَّذي فهِمه المنصِّرون، ما نَهاهم النَّبيُّ عن دخول البلَد الموبوء؛ إذِ العلَّة عدم العدوى، فتأمَّل.
ومنها: ما قد بيَّنَّاه أنَّ ثبوت الأسباب شرعًا وقدرًا متواتِر في الشَّريعة الإسلاميَّة، وما ظُن أنَّه جاء على خلافها كحديث: « لا عدْوى»، فليس كذلك، وإنَّما هو تنبيه للمؤْمنين أنَّ الله تعالى هو خالق السَّبب، وأنَّه يتصرَّف فيه حيث شاء -لا معقِّب لحكمه، ولا يُسْأل عمَّا يفعل- فيسلبه سببيَّته إن شاء، أو يبقيها عليه إن شاء، فليس كلُّ مَن جدَّ وجد، ولا كلّ مَن زرع حصد، ولا كلّ مَن تاجر ربح؛ إلاَّ بإذن الله ومشيئتِه؛ لأنَّ الله تعالى كما أمرنا بالأخْذ بالأسباب، أعلَمَنَا أنَّه سبحانه هو مَن يقوت السَّبب، فيعمل أو يمنع عنه قوَّته فيبطل، وهذا من معاني اسم الله "المقيت"، الَّذي مَن لا يعرفه لا يعرف الله، ومَن تأمَّل تلك الآيات، علِم هذا: {أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ .
أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ .
لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ .
إِنَّا لَمُغْرَمُونَ .
بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ .
أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ .
أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ .
لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ .
أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ .
أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشِئُونَ .
نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِّلْمُقْوِينَ .
فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الواقعة: 63 - 74].
ومنها: أنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم لم يرد إنْكار الأسباب؛ بل أراد إثبات القدَر، وردَّ الأسْباب كلها إلى الفاعل الأوَّل؛ إذْ لو كان كلُّ سبب مستندًا إلى سبب قبله لا إلى غاية، للزِم التسلْسُل في الأسباب، وهو ممتنع عقلاً؛ لما يلزم منه من القول بقدَم العالم، فقطَع النبي صلَّى الله عليه وسلَّم التسلسُل بقولِه: « فمن أعْدى الأوَّل؟!» إذ لو كان الأوَّل قد جرب بالعدْوى والَّذي قبله كذلك -لا إلى غاية- لزِم التسلسل الممتنع.
ومنها: أنَّ العدْوى المنفيَّة هي الَّتي أثبتها الأعرابي في قوله: "فيجرب"، ومراده أنَّ سببَ جرب البعير الأوَّل قد استقلَّ في إصابة البَعير الصَّحيح بالمرض بلا إذْنٍ من الله، وهذا ما نفاه النَّبي صلَّى الله عليْه وسلَّم.
ومنها: أن نفي العدْوى نظير نفْي الشفاعة في قوله تعالى: { لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ} [البقرة: 254]، فنفى الشفاعة التي أثبتَها أهل الشِّرك، وهي تقدُّم الشَّافع بين يدَي المشفوع عنده وإن لم يأذَن له، ثمَّ أثبتَ شفاعةً للنَّبيِّ وللمؤمنين؛ ولكن بعد إذنه سبحانه فقال تعالى: { مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} [البقرة: 255]، وقال: {وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى } [الأنبياء: 28]، وقال: { وَلاَ تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ: 23].
قال الإمام النَّووي في "شرْح النَّووي على مسلم" (7 /372): "المراد به نفْي ما كانت الجاهليَّة تزْعُمه وتعتقِده: أنَّ المرَض والعاهة تعْدِي بطبعها لا بفعْل الله تعالى، وأمَّا حديث: « لا يورد ممرض على مصحّ» فأرشد فيه إلى مُجانبة ما يحصل الضَّرر عنده في العادة بفعل الله تعالى وقدَرِه، فنفى في الحديث الأوَّل العدْوى بطبعها، ولم ينْفِ حصول الضَّرر عند ذلك بقدَر الله تعالى وفعْلِه، وأرْشد في الثَّاني إلى الاحتِراز ممَّا يحصُل عنده الضَّرر بفعل الله وإرادتِه وقدَره".
وقال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري": "المراد بنفْي العدوى: أنَّ شيئًا لا يعدي بطبعه، نفيًا لما كانت الجاهليَّة تعتقده أنَّ الأمراض تعْدي بطبعها من غير إضافة إلى الله، فأبطل النبي صلَّى الله عليْه وسلَّم اعتقادهم ذلك، وأكل مع المجْذوم ليبيِّنَ لهم أنَّ الله هو الذي يُمْرِض ويَشفي، ونهاهم عن الدنوِّ منْه ليبيِّن لهم أنَّ هذا من الأسباب الَّتي أجْرى الله العادة بأنَّها تُفْضِي إلى مسبّباتها، ففي نَهيه إثبات للأسباب، وفي فعْله إشارة إلى أنَّها لا تستقل، بل الله هو الَّذي إن شاء سلبَها قُواها فلا تؤثِّر شيئًا، وإن شاء أبْقاها فأثَّرت".
أمَّا ما زعمَه المنصرون: أنَّ المسلمين كانوا يطؤُون السبايا بمجرَّد التمكُّن منهنَّ، فكذب محض؛ فقد أمر النَّبي صلَّى الله عليه وسلَّم باستبراء مَن ملك أمةً، والأصل في ذلك: حديث أبي سعيد رضِي الله عنه أنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليْه وسلَّم قال في سبايا أوطاس: « لا تُوطَأ حاملٌ حتَّى تضَع، ولا غير ذات حمل حتَّى تَحيض حيضة » [أخرجه أبو داود وصحَّحه الحاكم]، وله شاهد عنِ ابن عبَّاس بلفظ: « نَهى رسول الله صلَّى الله عليْه وسلَّم أن تُوطأ حاملٌ حتَّى تضَع، أو حائلٌ حتَّى تَحيض » [ رواه الدارقطني].
وروى أحمد وأبو داود عن رويفع بن ثابت الأنصاري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين:« لا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر، أن يسقي ماءه زرع غيره، يعني إتيان الحبالى، ولا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر، أن يقع على امرأة من السبي حتى يستبرئها».
قال الإمام الصنعاني في "سبل السلام" (5 /273): "والحديث دليلٌ على أنَّه يجب على السَّابي استبراء المسبيَّة إذا أراد وطْأَها بحيضةٍ، إن كانت غير حامل؛ ليتحقَّق براءة رحِمها، وبوضع الحمل إن كانت حامِلاً، وقيس على غير المسبيَّة المشتراةُ والمتملَّكة بأي وجه من وجوه التملُّك، بجامِع ابتِداء التملُّك، وظاهر قوله: « ولا غير ذات حمل حتَّى تحيض حيضة» عموم البِكْر والثَّيب؛ فالثيّب لما ذكر، والبِكْر أخذًا بالعموم، وقياسًا على العدَّة، فإنَّها تجِب على الصَّغيرة مع العلم ببراءة الرَّحِم، وإلى هذا ذهَب الأكثرون".
أمَّا أحاديث مصّ اللِّسان، فلم يصحَّ منها شيء؛ قال الحافظ ابن حجر "نصب الراية في تخريج أحاديث الهداية" (12 /54): "قال ابن عدي: "ويمصُّ لسانَها": لا يقوله إلاَّ محمَّد بن دينار، وقد ضعَّفه يحيى بن معين، وسعد بن أوس؛ قال ابن معين فيه أيضًا: بصري ضعيف، وقال عبدالحق في "أحكامه": "هذا حديثٌ لا يصحّ؛ فإنَّ ابن دينار، وابن أوْس لا يحتجُّ بهما، وقال ابن الأعرابي: بلغني عن أبي داوُد، قال: هذا الحديث غير صحيح".
انتهى كلام عبدالحق.
وأعلَّه ابن القطان في كتابه بمصدع فقط، وقال: قال السَّعدي: كان مصدع زائغًا حائدًا عن الطَّريق -يعني: في التشيُّع- وتعقِّب بأنَّه أخرج له مسلم في "صحيحه"، وقال ابن الجوزي في "العلل المتناهية": محمَّد بن دينار، وسعد بن أوس، ومصْدع ضُعفاء بمرَّة.
انتهى".
أمَّا قولُه صلَّى الله عليْه وسلَّم: « إذا وقع الذُّباب في شرابِ أحدِكم، فليغمسْه ثمَّ لينزعْه؛ فإنَّ في إحْدى جناحيْه داءً، والأخْرى شفاء»؛ متَّفق عليه، فآية من آيات نبوته، وعلم من أعلام رسالته صلَّى الله عليْه وسلَّم وإن رغمت أنوف المشركين.
فمِن المعْلوم أنَّ الذُّباب يحمِل على جسْمِه كمّيَّات كبيرة من الفيروسات، والبكتيريا الضارَّة، وعلى الرَّغْم من ذلك أمَرَ النَّبيُّ صلَّى الله عليْه وسلَّم بغمْس الذُّبابة في الإناء، ثمَّ الشُّرب منْه، وأخبر صلَّى الله عليْه وسلَّم عن وجود سُمٍّ في الذُّباب قاتل لتلك الفيروسات، وهذا السمّ القاتل للفيروسات لم يكشَف بصفةٍ قاطعة إلاَّ في العصر الحديث، فصار الحديث من أعْلام النبوَّة، ولو أنَّ هذا المنصِّر قد نصَحَ نفسَه، وأراد الله به الخير، لأسلم بعد اطِّلاعة على تقارير غيرِ المسلمين، الَّتي أثبتوا فيها ما أخبر به محمَّد بن عبد الله صلَّى الله عليْه وسلَّم قبل أكثر من أربعةَ عشر قرنًا من الزَّمان، يقيِّض الله له من غير المسلمين مَن يثبِت صحَّة قولِه؛ فقرر أن الذُّبابة تحتوي على كمّيَّات من المضادَّات الحيويَّة يقولون: إنَّها من أكفأ المضادَّات الحيويَّة، وأنَّه بمجرَّد غمس الذُّباب في السوائل تتحرَّر منه مضادَّات للبكتريا والفيروسات، وهو ما قالتْه باحثة أستراليَّة، وكذلك البروفيسير الألماني برفلت، وهو أستاذ بجامعة "هال" بألمانيا، حيث توصَّل إلى أنَّ الذبابة تحمِل أنواعًا من الجراثيم تسبِّب التيفود والدوسنتريا، وغيرها من الأمراض، ووجد في الوقت ذاتِه أنَّها تحمل نوعًا من الفطريات سمَّاها (النيوزموسكي)، وهذا الفطر يقتُل جميع الجراثيم الَّتي تفْرِزها الذُّبابة من جناحها الآخر، وقد توصَّل بالبحث العلمي أنَّ الذبابة لا تفْرِز هذا الفِطْر إلاَّ إذا غُمست كلّها.
أمَّا البرفسور جون برافو في جامعة طوكيو، فقال: إنَّه سوف يصدر بحثًا عن دواء جديد، وهو فعَّال لكثير من الأمراض، مستخلَص من السَّطح الخارجي للذُّباب، من جسده وجناحه والغلاف الخارجي للذباب.
ويقولُ علماءُ في جامعة ستانفورد: "إنَّها المرَّة الأولى في العالم 2007م الَّتي نكتشِف فيها مادَّة في الذُّباب تقوِّي جهاز المناعة لدى الإنسان".
قال الأستاذ الدكتور أمين رضا -أستاذ جراحة العظام والتَّقويم بجامعة الإسكندريَّة-: "عندي من المراجع القديمة ما يصِف وصفات طبّيَّة لأمراض مختلِفة باستعمال الذباب، أمَّا في العصْر الحديث، فجميع الجرَّاحين الَّذين عاشوا في السَّنوات الَّتي سبقت اكتِشاف مركَّبات السَّلفا رأَوا بأعينهم علاج الكسور المضاعفة، والقرحات المزمنة، بالذُّباب، وكان الذباب يربَّى لذلك خصيصًا، وكان هذا العلاج مبنيًّا على اكتِشاف فيروس البكتريوفاج القاتل للجراثيم، على أساس أنَّ الذُّباب يحمل في آنٍ واحد الجراثيم التي تسبِّب المرض، وكذلك البكتريوفاج الَّذي يُهاجم هذه الجراثيم.
وكلمة "بكتريوفاج" هذه معناها: "آكلة الجراثيم"، وجديرٌ بالذِّكْر أنَّ توقُّف الأبحاث عن علاج القرحات بالذُّباب لم يكن سببه فشَل هذه الطَّريقة العلاجيَّة، وإنَّما كان ذلك بسبب اكتِشاف مركَّبات السلفا التي جذَبَتْ أنظار العُلماء جذبًا شديدًا، وكلّ هذا مفصَّل تفصيلاً دقيقًا في الجزْء التَّاريخي من رِسالة الدكتوراه الَّتي أعدَّها الزَّميل الدكتور/ أبو الفتوح مصطفى عيد، تحت إشرافي، عن التِهابات العظام، والمقدَّمة لجامعة الإسكندرية من حوالي سبْع سنوات، وقد أثبت العلم الحديث أنَّ الأحياء الدَّقيقة من بكتريا وفيروسات وفطريَّات تقتُل بعضها الأخرى، بإفراز موادَّ سامَّة يستعمل بعضُها في العلاج، وهي ما تسمَّى بالـ "المضادَّات الحيويَّة"، مثل البنسلين والكلوروميستين وغيرهما".
اهـ.
موضع الحجَّة منْه مختصرًا.
أمَّا ما رواه أنس بن مالك: أنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم كان يطوف على نسائِه في اللَّيلة الواحدة، وله يومئذٍ تِسْعُ نسوة، قال قتادة: قلتُ لأنس: أوكان يطيقُه؟ قال: "كنَّا نتحدَّث أنَّه أُعطيَ قوَّة ثلاثين".
ففي هذا الحديث أيضًا معجِزة ظاهرة للنَّبيِّ صلَّى الله عليْه وسلَّم بِخرق العادة له في كثْرة الجماع ، مع التقلُّل من المأكول والمشروب، وكثْرة الصيام والوِصال في الصيام اليوم واليومَين، الَّتي تكسِر الشَّهوة، فانخرقت هذه العادة في حقِّه صلَّى الله عليه وسلَّم.
ومن المعلوم عند جَميع العُقلاء: أنَّ ممَّا يُمدح به الرَّجُل كامِل الرُّجولة، وتام الفحولة: شدَّة الباءة والقوَّة على الجماع، والنَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم، وهو سيِّد البشر وسيِّد الخلق أجْمعين، له الغاية القصْوى في صفات الكمال.
هذا؛ وقد ذكرنا في المقال السَّابق: أنَّ قوى الإنسان ثلاثٌ: قوَّة العقل، وقوَّة الغضب، وقوَّة الشهوة ، وهي الَّتي فيها جلب المنفعة، وهي القوَّة الجاذِبة الجالبة للملائِم، وقوام النَّوع الإنساني بها، وحسب تلك القُوى كان مَجموع الفضائل ثلاثًا؛ فكمال القوَّة العقليَّة: العلم والإيمان، وكمال القوَّة الغضبيَّة: الشُّجاعة والحلم، وكمال القوَّة الشهويَّة: العفَّة.
ولكمال النَّبيِّ صلَّى الله عليْه وسلَّم في القُوى الثَّلاث؛ أباح الله لهُ ما لم يُبِحْه لأحد من أمَّته، فليْس مذمومًا في حقِّ الأنبياء أو يُنافي عصمتَهم، جِماعهم لنسائِهم إلاَّ عند مدَّعي الرَّهبنة، والنَّبيُّ صلَّى الله عليْه وسلَّم لكماله في قوَّة الشَّهوة كان يطوف على نسائِه في اللَّيلة الواحِدة، كما طاف نبيُّ الله سليمان على تِسْعين امرأةً في ليلة.
أمَّا إن كان مقصود المنصِّرين مسألة تعدُّد الزَّوجات، فالخلْق والشَّرع والأمْر لله وحْده، يُبيح ما يَشاء ويَمنع ما يشاء، كما أباح لِداود مائةَ زوجةٍ، ولِسليمان ألفَ زوجة، وأباح لخليلِه محمَّد بن عبد الله إحدى عشرة امرأة، كما أباح التعدُّد للرجال دون النِّساء؛ لحكم جليلةٍ لا تَخفى على العُقلاء، تدلُّ على كمال الشَّريعة الخاتمة، وعلى حكمة الرَّبّ تعالى وإحْسانه، ورحْمته بخلْقِه ورعاية مصالحهم، ومن هذه الحكم:
أنَّ الرَّجُل الصَّحيح إذا جامعَ امرأتَه، أمكنَه أن يُجامِع غيرَها من نسائِه في الحال، والمرأة العفيفة إذا قضى الرَّجُل وطرَه، فترتْ شهوتُها، وانكسرتْ نفسُها، ولم تطلُب قضاءَها من غيره في ذلك الحين.
ومنها: أنَّه لو أبيح للمرْأة أن تكون عند زوجَين فأكثر، لفسَدَ العالَم، وضاعت الأنساب، وقتل الأزْواج بعضُهم بعضًا، وعظمت البليَّة، واشتدَّت الفِتنة، وقامت الحرب على ساق؛ إذ كيف يَستقيم حال امرأةٍ فيها شركاء متشاكِسون؛ فمَجيء الشَّريعة الإسلامية السمحة بما جاءت به، مِن أعظم الأدلَّة على حكْمة الشَّارع ورحمته وعنايته بخلْقه.
ومنها: أنَّ الرَّجل أُعْطي من القوَّة والحرارة الَّتي هي سلطان الشَّهوة، أكثرَ ممَّا أعْطِيَته المرْأة، وبُلي بما لم تُبلَ به، فأطلق له من عدد المنكوحات ما لم يُطْلَق للمرأة، وهذا ممَّا خصَّ الله به الرِّجال وفضَّلهم به على النِّساء، كما فضَّلهم عليهنَّ بالرِّسالة والنبوَّة، وغير ذلك.
قال الإمام ابن القيم في "زاد المعاد" (ج4 /ص 228): "وأمَّا الجماع والباه، فكان هدْيه فيه أكملَ هدْي، يحفظ به الصحَّة، وتتمُّ به اللذَّة وسرور النفس ، ويحصل به مقاصدُه التي وضع لأجلها؛ ولذلك كان صلَّى الله عليه وسلَّم يتعاهدُه ويحبُّه ويقول: « حبِّب إليَّ مِن دنياكم: النِّساء والطيب » وحثَّ على التَّزويج أمَّتَه فقال: «تزوَّجوا؛ فإنِّي مكاثر بكم الأُمَم ».
وقال ابن عبَّاس: خير هذه الأمَّة أكثرها نساء.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إني أتزوَّج النساء، وأنام وأقوم، وأصوم وأفطر، فمَن رغب عن سنَّتي فليس منّي »، وقال: « يا معشر الشباب ، مَن استطاع منكم الباءَة فليتزوَّج؛ فإنَّه أغضُّ للبصَر وأحفظ للفرْج، ومَن لَم يستطع فعليْه بالصَّوم؛ فإنَّه له وجاء » ولمَّا تزوَّج جابر ثيِّبًا قال له: « هلاَّ بكرًا تُلاعِبُها وتلاعبك » وقال: « لم نرَ للمتحابَّين مثل النكاح »، وفي صحيح مسلم من حديث عبدالله بن عمر قال: قالَ رسول الله صلَّى الله عليْه وسلَّم: « الدنيا متاع، وخيرُ متاع الدُّنيا المرأة الصَّالحة».
وكان صلَّى الله عليه وسلَّم يحرِّض أمَّته على نكاح الأبْكار الحسان وذوات الدين، وفي سنن النَّسائي عن أبي هريرة قال: « سُئِل رسول الله صلَّى الله عليْه وسلَّم: أي النساء خير؟ قال: التي تسرُّه إذا نظر، وتطيعُه إذا أمر، ولا تخالفُه فيما يكره في نفسِها وماله».
وفي الصَّحيحين عنْه عن النَّبي صلَّى الله عليْه وسلَّم قال: « تنكح المرأة لمالها ولحسبها ولجمالها ولدينها، فاظفَرْ بذات الدِّين ترِبَتْ يداك »، وكان صلَّى الله عليه وسلَّم ربَّما جامع نساءَه كلَّهنَّ بغسْلٍ واحد، وربَّما اغتسل عند كلِّ واحدة منهنَّ؛ فروى مسلم في صحيحه عن أنس: «أنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليْه وسلَّم كان يطوف على نسائه بغسل واحد».
وروى أبو داود في سُننه عن أبي رافع موْلى رسول الله صلَّى الله عليْه وسلَّم: «أنَّ رسول الله صلَّى الله عليْه وسلَّم طاف على نسائِه في ليلةٍ، فاغْتَسَل عند كلِّ امرأةٍ منهنَّ غسلاً، فقلتُ: يا رسول الله، لو اغتسلت غسلاً واحدًا، فقال: هذا أزْكى وأطهر وأطيب ».
وشرع للمُجامع إذا أراد العوْد قبل الغسل الوضوء َ بين الجِماعين؛ كما روى مسلم في صحيحه من حديث أبي سعيد الخُدْري قال: قال رسولُ الله صلَّى الله عليْه وسلَّم: «إذا أتى أحدُكُم أهله ثمَّ أراد أن يعود فليتوضَّأ».
وفي الغسل والوضوء بعد الوطْء من النَّشاط وطِيب النَّفس، وإخلاف بعضِ ما تحلَّل بالجِماع، وكمال الطُّهْر والنَّظافة، واجتماع الحار الغريزي إلى داخل البدَن بعد انتشاره بالجِماع، وحصول النَّظافة التي يحبُّها الله ويُبغض خلافها ما هو من أحسن التَّدبير في الجِماع وحفظ الصحَّة والقوى فيه".
اهـ.
أمَّا مسألة التداوي بألْبان وأبوال الإبل؛ كما ورد في حديث أنسٍ رضي اللهُ عنْه: «أنَّ ناسًا اجْتَوَوا في المَدينَة فأمَرَهُم النَّبِيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم أنْ يَلْحَقُوا بِراعِيه -يعْنِي: الإبِلَ- فيَشْرَبُوا مِن ألْبانِها وأبْوالِها، فلَحِقُوا بِراعِيه فشَرِبُوا مِن ألْبانِها وأبْوالِها، حتَّى صَلَحَتْ أبْدانُهُمْ، فقَتَلُوا الرَّاعيَ وساقُوا الإبلَ، فبَلَغَ النَّبِيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم فبَعَثَ في طَلَبِهمْ، فجِيءَ بِهِمْ، فقَطَعَ أيْدِيَهُم وأرْجُلَهُم وسَمَر أعْيُنَهُم» رواه البخاري.
فهذا الحديث شاهدٌ على كذِب النَّصارى الضلاَّل؛ لأمور:
منها: أنَّ الطِّبَّ بابُه التَّجرِبة والنَّتيجة المترتِّبة على تلك، فالأعراب الَّذين أمرَهم النَّبي صلَّى الله عليْه وسلَّم بشرْب ألبان الإبل وأبوالِها، قد شفاهُم الله بها؛ كما في الحديث السَّابق.
ومنها: أنَّ المنصِّرين حذَفوا أجزاء الحديث الَّتي فيها أنَّ الأعراب قد صحُّوا، ولم يذكروا باقيَ القصَّة، وهي قوله: « حتَّى صلحت أبدانهم »، وفي راوية: « فلمَّا صحّوا ».
ومنها: أنَّهم زعَموا أن الإسلام يحث على ترَك الأخْذ بالأسباب، وفي هذا الحديث بيان كذبهم لأنه صلَّى الله عليْه وسلَّم أمرهم بالتداوي ببول الإبل واللبن.
ومنها: أنَّ التَّداوي في الشَّريعة الإسلاميَّة ليس واجبًا أصْلاً، سواء ببوْل الإبل وألبانها، أو غيرِه، فمَن عافت نفسُه شربَه، ترَكَه؛ كما ثبت عن النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم « أنَّه أباح أكْلَ الضَّبّ ولم يأكله، وقال: لَم يكن بأرض قوْمي فأجدني أعافه ».
هذا؛ وقد أثبت الطّبُّ الحديث علاجَ بعض الأمراض ببوْل الإبل ولبنه، فصار الحديث حجة عليهم، إذ غدا علمًا من أعلام نبوته.
ففي دراسة علميَّة تجريبيَّة أجْرَتْها كلّيَّة المختبرات الطبّيَّة بجامعة الجزيرة بالسودان، عن استِخْدامات قبيلة البطانة في شرْق السودان (بول الإبل) في علاج بعْض الأمراض، حيث إنَّهم يستخْدِمونه شرابًا لعلاج مرض (الاستِسْقاء) والحمّيَّات والجروح.
وقد كشفَ الدُّكتور أحمد عبدالله محمدانى تفاصيلَ تِلْك الدراسة العلميَّة التَّطبيقيَّة داخل ندوة جامعة الجزيرة؛ حيثُ ذكر أنَّ الدِّراسة استمرَّت 15 يومًا، اختير 25 مريضًا مصابين بمرض الاستِسقاء المعروف، وكانت بطونهم منتفِخة بشكل كبير قبل بداية التَّجربة العلاجيَّة، وبدأت التَّجربة بإعطاء كلّ مريض يوميًّا جرعة محسوبة من (بول الإبل)، مخلوطًا بلبَن الإبل، وبعد 15 يومًا من بداية التَّجربة أصابنا الذُّهول من النَّتيجة؛ إذ انخفضت بطونُهم، وعادت لوضْعِها الطَّبيعي، وشُفي جَميع أفراد العيِّنة من الاستسقاء، وتصادف وجود بروفسور إنجليزي أصابه الذُّهول أيضًا وأشاد بالتَّجربة العلاجيَّة.
وأوضح د.
أحمد المكوِّنات الموجودة في بول الإبل؛ حيث قال: "إنَّه يَحتوي على كمّيَّة كبيرة من البوتاسيوم والزلال والمغنسيوم، ومعروف أنَّ مرض الاستسقاء هو نقْص في الزلال والبوتاسيوم، وبول الإبل غني بالاثنَين معًا".
اهـ.
موضع الحجة منه مختصرًا "نقلا عن جريدة الخرطوم".
وفي دراسة للدكتور محمَّد مراد "الإبل في مجال الطّبّ والصحَّة"، يشير إلى أنَّه في الماضي البعيد استخدم العرب حليبَ الإبل في معالجةِ الكثير من الأمراض، ومنها أوْجاع البطن، وخاصَّة المعدة والأمعاء، ومرض الاستِسْقاء، وأمراض الكبِد، وخاصَّة اليرقان وتليّف الكبد، وأمراض الربو وضِيق التنفُّس، ومرض السكري".
اهـ.
نقلاً عن مقال بجريدة الاتّحاد، العدد (9515).
وقالت الدكتورة أحلام العوضي في بحثها عن الأمراضِ التي يُمكِنُ علاجُها ببوْلِ الإبِل من واقع التجربة: "أبوالُ الإبل ناجعةٌ في علاج الأمراض الجلديَّة كالسعفة -التينيا-، والدَّمامل، والجُروح التي تظهَرُ في جِسْم الإنسان وشعره، والقُروح اليابسة والرَّطبة، ولأبوالِ الإبِل فائدةٌ ثابتةٌ في إطالة الشَّعر ولمعانِه وتكثيفِه، كما يُزِيل القِشرة من الرأس، وأيضًا لأبوالِها علاجٌ ناجعٌ لِمرَض الكبِد الوبائِيّ، حتَّى لو وَصَلَ إلى المراحِل المتأخِّرة والَّتي يعجِزُ الطبُّ عن علاجِها".
اهـ.
نقلا عن مجلَّة "الدَّعوة" في عددها (1938).
وقد ذكر ابن سينا في كتاب "القانون" في الطّبّ وهو من أمَّهات كتب الطّبّ القديمة: "فقد علم أنَّ لبن النُّوق دواء نافع لما فيه من الجلاء برفق، وما فيه من خاصّيَّة، وأنَّ هذا اللَّبن شديد المنفعة، فلو أنَّ إنسانًا أقام عليه بدلَ الماء والطَّعام شفِي به، وقد جرِّب ذلك في قوم دفعوا إلى بلاد العرب فقادتْهم الضَّرورة إلى ذلك، فعُوفوا، وأنْفع الأبوال بول الجمل الأعرابي وهو النَّجيب". اهـ.
أما مسألة شرب بول النبي صلى الله عليه وسلم للتَّبرُّك، فلم يقل به أحد من أئمة المسلمين المعتبرين، وإنما ذكره البعض في أيامنا هذه؛ واستدل على زعمه بحديث لا يصح بوجه من الوجوه، رواه الحاكم، والدارقطني، والطبراني، وأبو نعيم مِن حديث أبي مالك النخعي، عن الأسود بن قيس, عن نبيح العنزي, عن أم أيمن, قالت: "قام رسول الله صلى الله عليه وسلم من الليل إلى فخارة في جانب البيت، فَبَالَ فيها, فقمتُ من الليل وأنا عطشانة, فشربتُ ما فيها وأنا لا أَشعُر, فلما أصبح النبي صلى الله عليه وسلم قال: يا أم أيمن، قُومي فأهريقي ما في تلك الفخارة، قلتُ: قد والله شربتُ ما فيها.
قالت: فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بَدتْ نواجذه, ثم قال: أما والله إنه لا تَتَّجِعِينَ بطنك أبدًا".
قال الحافظ ابن حجر في "تلخيص الحبير": "ورواه أبو أحمد العسكري بلفظ: (لن تشتكي بطنك) وأبو مالك ضعيفٌ، ونبيحٌ لم يلحق أم أيمن".
وضعَّفه الرحيباني الحنبلي في "مطالب أولي النهى في شرح غاية المنتهى".
وأيضًا فالحديث فيه أبو مالك النخعي واسمه: عبدالملك بن الحسين، قال الإمام النسائي في "الضعفاء والمتروكين" ترجمة (383): "عبدالملك بن الحسين أبو مالك النخعي: متروك".
اهـ.
وأورده الإمام الدارقطني في "الضعفاء والمتروكين" ترجمة (363) وقال: "عبدالملك بن حسين أبو مالك النخعي، عن البصريين والكوفيين".
كما أورده الإمام ابن أبي حاتم في "الجَرْح والتعديل" (2/2/347، 5/347/1641) قال: "عبدالملك بن الحسين أبو مالك النخعي، سألتُ أبي عنه فقال: ضعيف الحديث".
وقال: "سألتُ أبا زرعة عن أبي مالك النخعي فقال: ضعيف الحديث".
وقال: "حدثنا العباس بن محمد الدوري قال: سمعت يحيى بن معين يقول: أبو مالك النخعي ليس بشيء".
وأورده الإمام البخاري في كتابه "الضعفاء الصغير" ترجمة (219) وقال: "ليس بالقوي عندهم".
وأورده الإمام ابن عدي في "الكامل" (5/303، 479/1447) وقال: حدثنا علان، حدثنا ابن أبي مريم ، سألتُ يحيى بن معين عن أبي مالك فقال: "ليس بشيء".
وقال الإمام ابن حبان في "المجروحين" (2/134): "عبدالملك بن الحسين بن أبي الحسين النخعي أبو مالك: من أهل واسط، كان ممن يروي المقلوبات عن الأَثْبَات؛ لا يجوز الاحتجاج به فيما وافق الثقات، ولا الاعتبار فيما لم يخالف الأثبات".
اهـ.
وأورده الإمام الذهبي في "الميزان" (2/653/5198) ونقل أقوال أئمة الجَرْح والتعديل في عبدالملك بن حسين أبو مالك النخعي وأقرَّها.
وأورده الحافظ ابن حجر في "التهذيب" (12/240/1006) وقال: "أبو مالك النخعي الواسطي اسمه عبدالملك بن الحسين، ثم نقل أقوال الأئمة قائلاً: قال عمرو بن علي: ضعيف مُنكَر الحديث، وقال الأزدي والنسائي: متروك الحديث".
فالحديث مداره على أبي مالك النخعي، واسمه عبدالملك بن الحسين أجمع الأئمةُ على أنه متروك، مُنكَر الحديث، ليس بشيء، وعلى ذلك فقصة شرب أم أيمن لبول النبي صلى الله عليه وسلم واهية، تالفة السند.
وقد رويت تلك القصة من حديث أُمَيْمَةَ بنت قيقة عن أمها أنها قالت: « كان للنَّبي صلى الله عليه وسلم قَدَحٌ مِنْ عيدانٍ تحت سريره يَبُولُ فيه بالليل»؛ رواه أبو داود والنسائي وليس فيه قصة الشرب، ورواه الطبراني في "الكبير"، وأبو نعيم الأصبهاني في "معرفة الصحابة "، والبيهقي بزيادة: "فأَرَادَه فإذا القدح ليس فيه شيء"، فقال لامرأة يقال لها بركة، كانت تخدم أم حبيبة، جاءت بها من أرض الحبشة: (أين البول الذي كان في القدح؟)، قالت: "شربتُه"، قال: (ولقد احتظرتِ من النار بحظار).
وضعَّف هذه الزيادة الألباني ؛ لشذوذها وإرسالها.
ولو سلمنا صحة الحديث، فليس فيه أن الصحابية قصدَتِ التَّبرُّكَ بالبول عند شُرْبه! وإنما وقع ذلك منها على سبيل الخطأ كما هو ظاهر.
أما حديث بئر بضاعة الذي رواه أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي عن أبي سعيد الخدري، قال: «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: وهو يقال له: إنه يستقى لك من بئر بضاعة، وهي بئر يلقى فيها لحوم الكلاب والمحايض وعذر الناس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الماء طهور لا ينجسه شيء».
فلا يعقل أن يظن عاقل أن أحدًا من خلق الله -الصحابة أو غيرهم- يقوم بإلقاء تلك القاذورات والنجاسات في ماء البئر التي يشرب منها الناس، لاسيما وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن البول في الماء الدائم، وعن البول في المستحم، فالمقصود من حديث بئر بضاعة، غير ما شنع به ذلك النصراني، من أن الناس كانوا يعمدون إلى إلقاء ذلك في الماء، فهذا لا يُعرف من بني آدم وعادتهم أبيضهم وأسودهم أحمرهم وأصفرهم مؤمنهم وكافرهم، وإنما معنى الحديث: أن الناس كانوا يلقون تلك القاذورات في البراري، ثم يأتي المطر فيجرفها السيل إلى تلك البئر التي كانت في مكان منخفض.
قال السندي في تعليقه على سنن ابن ماجه: "عادة الناس دائماً في الإسلام والجاهلية، تنزيه المياه وصونها عن النجاسات، فلا يتوهم أن الصحابة -وهم أطهر الناس وأنزههم- كانوا يفعلون ذلك عمداً مع عزة الماء فيهم، وإنما كان ذلك من أجل أن هذه البئر كانت في الأرض المنخفضة، وكانت السيول تحمل الأقذار من الطرق وتلقيها فيها". اهـ.
أما استعمال النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة لماء البئر بعد ما وقعت فيها تلك القاذورات، فلأن الماء قد بلغ درجة من الكثرة لم يعد يؤثر فيه شيء، وهذا يدرك بالحس، خصوصاً؛ إذا علمنا أن ماء الآبار دائمة التجدد؛ لوجود روافد بداخلها، ولهذا كان جواب النبي صلى الله عليه وسلم عن السؤال عن استعمالها، هو: « إن الماء طهور لا ينجسه شيء»، يعني: ما دام على تلك الكثرة، فإنه لا يحمل النجاسة، فإن غلبت النجاسة على أحد أوصافه الطبيعية اللون، أو الطعم، أو الرائحة، فهو نجس بالنص وإجماع المسلمين.
أما تشنيع المنصرين بأن الصحابة كانوا يتبركون بنخامة النبي صلى الله عليه وسلم، فالأحاديث في ذلك من آيات نبوته صلى الله عليه وسلم لمن تأملها، ففي صحيح البخاري ، عن المسور بن مخرمة، ومروان بن الحكم، في حديث صلح الحديبية: أن المشركين أرسلوا عروة بن مسعود؛ ليفاوض رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل عروة يرمق أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بعينه قال: فوالله ما تنخم رسول الله صلى الله عليه وسلم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ، كادوا يقتتلون على وَضوئه، وإذا تكلم، خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدون إليه النظر؛ تعظيمًا له، فرجع عروة إلى أصحابه، فقال: أيْ قوم، واللهِ لقد وفدت على الملوك، ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشي، واللهِ إن رأيت ملِكًا قطّ يعظمه أصحابه كما يعظم أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- محمدًا، والله إن تنخم نخامة، إلا وقعت في كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ، كادوا يقتتلون على وَضوئه، وإذا تكلم، خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدون إليه النظر؛ تعظيمًا له، وإنه قد عرض عليكم خُطة رشد فأقبلوها"، فما تستقذره بعض النفوس من غيره فهو في حقه صلى الله عليه وسلم غير ذلك، لأمور:
منها: أن ذلك من معجزاته الظاهرة والباهرة؛ التي فها خرق العادة، حتى صار المستقذر مستطابًا، ولهذا كان سببًا في إسلام عروة بن مسعود يوم الخندق، لما هاله ما رأى؛ فلو لم تكن معجزة ظاهرة لاستقذر هو الآخر وبقي على كفره.
ومنها: أن حب النبي صلى الله عليه وسلم من أعظم أركان الإيمان ، وهو ما دفع الصحابة لفعل الصورة الشامخة التي رسمها عروة، فالمرء قد يطيع ملوك الدنيا في الظاهر، وهو يلعنهم في الباطن ومع خاصته، ولكن ما فعله الصحابة مع النبي صلى الله عليه وسلم من طاعة مطلقة في الظاهر، ثم التهافت على وَضوئه ونخامته؛ لدليل على أن تلك الطاعة نابعة من باطن عامر بحب حقيقي عقلي امتلأت به عقولهم وقلوبهم؛ كما قيل:
لا تَعْذُلِ المُشْتَاقَ في أشْواقِهِ حتى يَكونَ حَشاكَ في أحْشائِهِ
وقول الآخر:
قلْ للعذولِ أطلتَ لومي طامعاً أنَّ الملامَ عنِ الهوى مستوقفي
دعْ عنكَ تعنيفي وذقْ طعمَ الهوى فإذا هَويتَ فبعدَ ذلكَ عنِّفِ
ومنها: أن آثار نبينا صلى الله عليه وسلم ليست كآثار غيره من البشر؛ ولهذا «كانت الصحابية أم سليم تسلت عرقه صلى الله عليه وسلم فتجعله في طيبها، وقالت: وهو من أطيب الطيب »؛ رواه مسلم، عن أنس بن مالك، وعنه في الصحيحين قال: «ما شممت عنبرًا قط، ولا مسكًا ولا شيئًا أطيب من ريح رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا مسست شيئًا قط ديباجًا ولا حريرًا ألين مسًّا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ».
ومنها: أن العقل لا يقضي بالمنع من مثل ذلك لمن جاء بالرسالة، من باب خرق العادة له؛ ولكن العبرة بإثبات ذلك إلى الرسول صلى الله عليه وسلم بالأسانيد الصحيحة؛ فالأمور ليست بالدعاوى، أو الزعم الباطل، كما هو الحال في دين النصارى الباطل القائم على الحكايات التاريخية، التي نتحداهم أن يأتوا بإسناد متصل لأي جزئية فيها.
ومنها: أنه يلزم من أنكر تلك المعجزات الظاهرات، أن ينكر معجزات جميع الرسل والأنبياء، كموسى وعيسى عليهما السلام وإلا فهل يستطيع أحد منهم أن يثبت لنا إحياء عيسى عليه السلام للموتى -بإذن الله- من غير القرآن الكريم؟!.
هذا؛ ومَن نظر في الإسلام، أيقن أنَّه دين النَّظافة والتنزه عن كل المستقذرات، بل إن النظافة من الإيمان؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: «الطُّهور شطر الإيمان »؛ رواه مسلم، عن أبي مالك الأشعري، وقال تعالى: { وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ } [المدثر: 4]، وجعل إزالة الأذى من الطريق شعبةً من شعب الإيمان، فقال صلى الله عليه وسلم: « الإيمان بضع وسبعون، أو ستون شعبة، أفضلُها: قول لا إله إلا الله، وأدناها: إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان»؛ رواه مسلم، بل جعل الإسلام من بداية الدخول فيه الاغتسال؛ فعن قيس بن عاصم: «أنه أسلم فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يغتسل بماء وسدر»؛ رواه أحمد وأصحاب السنن، وروى أحمد عن أبي هريرة: « أن ثمامة أسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اذهبوا به إلى حائط بني فلان، فمروه أن يغتسل»، بل قد أوجب الإسلام على الأحياء تغسيل الأموات.
ونصوص الكتاب والسنة الآمرة بالطهارة والنظافة في البدن والملبس والمسكن، غاية في الكثرة، ويصعب تتبعها في تلك العجالة:
منها: قوله صلى الله عليه وسلم: « طهروا أفنيتكم، فإن اليهود لا تطهر أفنيتها»؛ رواه الترمذي، وأمر المؤمن بالتَّنظُّف والاغتِسال للجمعة، وجعل ذلك واجبًا وحقًّا؛ فقال صلى الله عليه وسلم: « الغسل يوم الجمعة ، واجب على كل محتلم، وأن يستن، وأن يمس طيبًا إن وجد »، وقال صلى الله عليه وسلم: « حق على كل مسلم، أن يغتسل في كل سبعة أيام يومًا يغسل فيه رأسه وجسده »؛ متفق عليهما.
وكذلك أجمع المسلمون على استحباب الاغتسال للأعياد؛ من أجل اجتِماع الناس، ونَهى عن دخول المسجد لمن أكل الثُّوم أو البصل أو غيرهما مما يتأذى الناس من رائحته، وأمر بتنْقية البراجم، وقصّ الأظافر، والسِّواك، والاستِحْداد، وجعل الوضوء الذي يفعله المسلم كل يوم خمس مرات أو أكثر، فلا يبقي من وسخه شيئًا، شرطًا في صحة الصلاة؛ فقال صلى الله عليه وسلم: «لا تقبل صلاة بغير طُهور، ولا صدقة من غُلو ل»؛ رواه مسلم.
بل إن إهْمال النظافة الشخصية، ربما تعدَّى إلى فساد العبادة، مثل من يهْمل أظْفاره، فيجتمع تحتَها الوسخ المانع لوصول الماء في الوضوء، وسُنَّ التزيُّن للنِّساء في قوله تعالى: { وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ}[البقرة: 228]، وكان حبر الأمَّة ابن عبَّاس رضِي الله عنهما يقول: "إنِّي لأحبُّ أن أتزيَّن للمرأة كما أحبُّ أن تتزيَّن لي"، وقد كان النَّبيُّ صلَّى الله عليْه وسلَّم أنظف النَّاس وأطْيب النَّاس، وكان لا يفارقه السواك، وكان يكره أن يُشمَّ منه ريح ليست طيِّبة، وكان النَّبيُّ صلَّى الله عليْه وسلَّم يحب الطِّيب.
كلّ هذا على العَكْس تمامًا من تعاليم ما يسمَّى بالكتاب المقدَّس، فتستدل على هوية أصحابه بما يبعث منهم من روائح منكرة، وهذا أمر مشاهد يجده كل من جاورهم في بلاد المسلمين، فلا يتطهرون من جنابة، ولا يستبرئون من بول، ولا غائط، ولا تغتسل نساؤهم من حيض ولا نفاس؛ وصدق الله العظيم {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ } [التوبة: 28].
أما ما يحويه الكتاب المقدس! من بذاءة ألفاظ، وتعْبيرات خادشة للحياء، وقصص مُخجلة، وزنا محارم، ودعارة صريحة، وقتْل للأطْفال والشُّيوخ والنساء، وسفك دماء الأبرياء، وذكر للنجاسات؛ فقل ما شئت، وهذا ما أحدث أثرًا كبيرًا في نفوس المنصِّرين، فدفعهم اليأس لمُحاولات طائِشة؛ لصرْف النَّاس عن طوامِّهم، واختلافهم في ربِّهم.
وهذه تَطوافة عاجلة؛ لنتعرف على النظافة الراقية في الكتاب المقدس!:
"فَالآنَ اقْتُلُوا كُلَّ ذَكَرٍ مِنَ الأَطْفَالِ، وَكُلَّ امْرَأَةٍ عَرَفَتْ رَجُلاً بِمُضَاجَعَةِ ذَكَرٍ اقْتُلُوهَا" (عدد 17 : 31).
"الشَّيْخَ وَالشَّابَّ وَالعَذْرَاءَ وَالطِّفْلَ وَالنِّسَاءَ، اقْتُلُوا لِلهَلاَكِ، ولا تَقْرُبُوا مِنْ إنْسَانٍ عَلَيْهِ السِّمَةُ، وَابْتَدِئُوا مِنْ مَقْدِسِي، فَابْتَدَؤُوا بِالرِّجَالِ الشُّيُوخِ الَّذِينَ أَمَامَ البَيْتِ" (حز 6:9).
"طُوبى لِمَنْ يُمْسِكُ أَطْفَالَكِ وَيَضْرِبُ بِهِمُ الصَّخْرَةَ" (مز 137 :39).
"وَأَخْرَجَ الشَّعْبَ الَّذِينَ بِهَا وَنَشَرَهُمْ بِمَنَاشِيرِ وَنَوَارِجِ حَدِيدٍ وَفُؤُوسٍ، وَهكَذَا صَنَعَ دَاوُدُ لِكُلِّ مُدُنِ بَنِي عَمُّونَ، ثُمَّ رَجَعَ دَاوُدُ وَكُلُّ الشَّعْبِ إِلَى أُورُشَلِيمَ" (1 أخبار الأيام 3: 20).
سفر هوشع - 16: "تُجَازَى السَّامِرَةُ لأَنَّهَا قَدْ تَمَرَّدَتْ عَلَى إِلَهِهَا، بِـالسَّيْفِ يَسْقُطُونَ، تُحَطَّمُ أَطْفَالُهُمْ وَالْحَوَامِلُ تُشَقُّ".
إنجيل لوقا - 27: "أَمَّا أَعْدَائِي أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِيدُوا أَنْ أَمْلِكَ عَلَيْهِمْ، فَأْتُوا بِهِمْ إِلَى هُنَا وَاذْبَحُوهُمْ قُدَّامِي".
"فَعَلِمَ أُونَانُ أَنَّ النَّسْلَ لاَ يَكُونُ لَهُ، فَكَانَ إِذْ دَخَلَ عَلَى امْرَأَةِ أَخِيهِ أَنَّهُ أَفْسَدَ عَلَى الأَرْضِ؛ لِكَيْ لاَ يُعْطِيَ نَسْلاً لأَخِيهِ" (تك 9:38).
(حزقيال 4 - 12): "وَتَأْكُلُ كَعْكاً مِنَ الشَّعِيرِ، عَلَى الخُرْءِ الَّذِي يَخْرُجُ مِنَ الإِنْسَانِ تَخْبِزُهُ أَمَامَ عُيُونِهِمْ".
(حزقيال 4 - 15) "فَقَالَ لِي: انْظُرْ، قَدْ جَعَلْتُ لَكَ خِثْيَ البَقَرِ بَدَلَ خُرْءِ الإِنْسَانِ فَتَصْنَعُ خُبْزَكَ عَلَيْهِ".
(أشعياء) (Is-36-12 ): "فقال ربشاقي: هل إلى سيدك وإليك أرسلني سيّدي لكي أتكلَّم بهذا الكلام؟ أليس إلى الرجال الجالسين على السور ليأكلوا عذرَتَهم ويشربوا بوْلَهم معكم".
فهذا هو كتاب النَّصارى المقدَّس! وفيه الكثير والكثير ممَّا سنفرد له مقالات مستقلة، فهلا انشغل الأحبار والرهبان برتق فتقهم، أم أن الخرق اتسع على الراقع؟! فعجزوا عن الجواب للضالين من أتباعهم، فهلا نظروا في بعض ما عندهم، فأحدثوا تحريفًا جديدا، وزادوا ما يناسب الحال! فهذا أحسن لهم من تعرضهم لسيد الخلق ولدين الإسلام، حتى لا يضطرونا لإخراج ما في كتابهم هذا من بلايا ورزايا لا تنطلي إلا على كل أحمق مرور، ممن يتعرون في الطرقات، ويقذفهم الأطفال بالحجارة.
وإلى حلقة قادمة إن شاء الله تعالى، حيث الجواب عن باقي الترهات والخزعبلات، وحسبنا الله ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
- المقال التالي...