أرشيف المقالات

هل تتفاضل القراءات القرآنية المتواترة؟

مدة قراءة المادة : 6 دقائق .
هل تتفاضل القراءات القرآنية المتواترة؟
 
إذا توافَرَت في قراءةٍ أركانُ القراءة الثلاثةُ، حُكِمَ بصحَّتها ونِسْبَتِها إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم، ولا مجال حينئذٍ للترجيح أو التفاضل بين تلك القراءات المتواترة، من حيث الصحة أو الفصاحة أو السُّنِّيَّة؛ فالكلُّ صحيح، وفي الذِّروة من البلاغة والفصاحة، وكلُّها قراءة النبيِّ صلى الله عليه وسلم.
 
• فأما الترجيح، فممتنع عند المحقِّقين من أهل العلم:
قال أبو منصور الماتريدي - في أثناء حديثه عن قوله تعالى: ﴿ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ ﴾ [القصص: 48] -: "لا نُحِبُّ أن نختار إحدى القراءتين على الأخرى؛ لأنَّه إنما هو خبرٌ أَخْبَرَ عنهم أنهم قالوا ذلك: فمرَّة قالوا: (ساحران)، ومرَّةً قالوا: (سِحْرَانِ)، فأخبر على ما قالوا، وكذلك قوله: (سيقولون الله) بالألف وبغير الألف، لا يُختار أحدهما على الآخَر؛ لأنه خَبَرٌ أخبَرَ عنهم على ما كان منهم؛ فهو على ما أَخْبَر، والله أعلم".
 
وقال أبو حيَّان النحْويُّ - عند تفسير قوله تعالى: ﴿ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ ﴾ [آل عمران: 79] -: "وتَعْلَمُونَ: متعدٍّ لواحد على قراءةِ الحِرْمِيَّيْنِ وأبي عمرو؛ إذ قرؤوا بالتَّخفيف مضارع (عَلِمَ)، فأمَّا قراءة باقي السبعة - بضمِّ التَّاء، وفتح العين، وتشديد اللام المكسورة - فيتعدَّى إلى اثنين؛ إذ هي منقولة بالتضعيف من المتعدِّية إلى واحد، وأول المفعولين محذوف تقديره: (تُعَلِّمُوَن النَّاسَ الكتابَ)، وتَكلَّموا في ترجيح إحدى القراءتين على الأخرى، وقد تقدَّم أني لا أرى شيئًا من هذه التراجيح؛ لأنَّها كلَّها منقولةٌ متواترةٌ قرآنًا، فلا ترجيح في إحدى القراءتين على الأخرى".

وقال ابن عادل الدمشقي: "تقدَّمَ عن ثَعْلبٍ وغيرِه من العلماء أنَّ ترجيح إحدى القراءاتِ المتواترة على الأخرى بحيث تُضعَّفُ الأخرى لا يجوز"، وأقوال أربابِ التَّحقيقِ في هذا الصَّدَدِ متكاثرةٌ.

وقال جلال الدين السيوطي، معلِّقًا على قول البيضاوي - في تفسير قوله تعالى: ﴿ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ﴾ [الفاتحة: 4] -: (وقرأ الباقون: مَلِك، وهو المختار)؛ قال: "عبارة غير حسنة؛ لأنَّ كلتا القراءتين متواترة، فلا يحسن أن يقال في إحداهما: إنها المختارة؛ لما يشعر به من أنَّ الأخرى بخلاف ذلك، وقد أنكَرَ جماعةٌ من الأئمَّة على مَن رجَّح قراءةً على قراءة.

قال السمين: ما ذكر في ترجيح "مَالِكِ" على "مَلِكِ"، وبالعكس غيرُ مرضيٍّ؛ لأنَّ كلتا القراءتين متواترة.
وقد روى أبو عمر الزاهد عن ثعلب أنه قال: "إذا اختلف الإعراب في القرآن عن السبعة، لم أفضِّل إعرابًا على إعراب في القرآن، فإذا خرجتُ إلى كلام الناس، فضَّلتُ الأقوى".

وعليه؛ فما ذهب إليه بعض النحاة أو المفسِّرين من ترجيحِ بعضِ القراءاتِ على بعض - لا ينهض به دليل؛ إذ الخلاف في حروف القراءات هو من جنس الخلاف الواجب، وأحبُّ دائمًا إطلاقَ التعدُّديَّة عليه، لا الاختلاف، وقد تناولتُ تلك القضية بشيء من التفصيل في رسالتي: "القراءات القرآنيَّة ...
شبهات وردود".


وأمَّا التفاضل: فممتنع أيضًا عند المحقِّقين:
قال أبو حيان - عند قوله: ﴿ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ﴾ [البقرة: 259] -: "والقراءة بالراء متواترةٌ، فلا تكون قراءةُ الزَّايِ أَوْلَى".
ونصَّ رحمه الله في غير موضع من كتابه "البحر المحيط" أنه لا أولويَّة لقراءةٍ على أخرى؛ إذا ثبت تواترُهما.
 
على أن بعض أهل العلم قد يفاضل بين القراءات من حيث الأبلغ والأفصح، إلا أني أميل إلى أنه لا مفاضلة من هذه الناحية أيضًا؛ لأنَّ كلَّ قراءةٍ مقصودةٌ لمعنى، سواء ظَهَرَ هذا المعنى، أم لا زال مختبئًا خلف تلك اللفظة التي جاءت بها القراءة، وهذه الألفاظ والتراكيب التي وُضعت للتعبير عن هذا المعنى في تلك القراءة أبلغ من غيرها الموضوعةِ للتعبير عن معنى آخَر في القراءة الأخرى؛ فمعنى كلِّ قراءةٍ مختبئٌ خلف ألفاظِها؛ فلا تفاضُل حينئذٍ.
 
وقد سبق بيان أنَّ القرآن نزل بالأفصح من لهجات العرب، ولم يقتصر نزوله على الأفصح في لهجة معيَّنة، وعليه؛ فكلُّ لفظةٍ من الألفاظ المختلَف فيها أبلغ عند مَن يتكلَّم بها دون غيرها، وتكون الألفاظ كلُّها في الذروة من الفصاحة والبلاغة.
 
وقد يقع التفاضلُ، لكن من حيثيَّاتٍ معيَّنة:
كاختيار قراءةٍ معيَّنة لأهل بلد معيَّنين، تناسب تلك القراءةُ لهجتَهم، وكالتفاضُل بين الآيات من جهةِ موضوعِها؛ فالآيات التي تحدِّثنا عن الله؛ كسورة "الإخلاص" أفضلُ من التي تحدِّثنا عن غيره كسورة "المسد"، والتي تحدِّثنا عن الأبرار أفضل مِن التي تحدِّثنا عن الفجَّار ...
وهكذا.
 
• أمَّا ما نُقِل عن الإمام مالك رحمه الله من قوله: "قراءة نافع سُنَّة، أو قراءة أهلِ المدينة سُنَّة"، فلا يعني بذلك أنَّها سُنَّة دون غيرها؛ بل المراد: أنها سُنَّة أهل المدينة وعادتهم التي يقرؤون بها، لا سيما وقد كان مالك يأخذ بعمل أهل المدينة، ونافع مدنيٌّ كما هو معلوم.
والله أعلم.

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٣