أرشيف المقالات

عشرة مواضع يكره فيها السؤال

مدة قراءة المادة : 12 دقائق .
عشرة مواضع يُكره فيها السؤال


قال الإمام أبو إسحاق الشاطبي رحمه الله: "الإكثار من الأسئلة مَذموم، والدليل عليه النقلُ المستفيض من الكتاب والسُّنَّة وكلامِ السَّلَف الصالح..."، إلى أن قال رحمه الله: "والحاصل أنَّ كثرة السؤال، ومتابعة المسائل بالأبحاث العقليَّة، والاحتمالات النظرية - مذمومٌ، وقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد وُعِظوا في كثرة السؤال حتى امتَنعوا منه، وكانوا يحبون أن يجيء الأعرابُ فيسألون حتى يسمعوا كلامَه صلى الله عليه وسلم، ويحفظوا منه العلمَ...".
 
ثم قال: "ويتبيَّن من هذا: أنَّ لكراهية السؤال مواضع، نذكر منه عشرة مواضع:
أحدها: السؤال عما لا ينفع في الدِّين:
كسؤال عبدالله بن حذافة رضي الله عنه: "من أبي؟"، ورُوِي في "التفسير" أنَّه صلى الله عليه وسلم سُئِلَ: "ما بال الهلال يبدو رَقيقًا كالخيط، ثمَّ لا يزال ينمو حتى يصير بدرًا، ثم ينقص إلى أن يصير كما كان؟ فأنزل الله: ﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ...
﴾ الآية [البقرة: 189]، فإنَّما أجيب بما فيه من منافع الدين.
 
وثانيها: أن يَسأل بعد ما بلغ من العلم حاجته:
كما سأل الرجلُ عن الحج: "أَكُل عام؟" مع أن قوله تعالى: ﴿ وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ ﴾ [آل عمران: 97] قاضٍ بظاهره أنَّه للأَبَد لإطلاقه، ومثله سؤال بني إسرائيل بعد قوله: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً ﴾ [البقرة: 67].
 
وثالثها: السؤال من غير احتياج إليه في الوقت:
وكأن هذا - والله أعلم - خاص بما لم يَنزل فيه حُكم، وعليه يدلُّ قوله صلى الله عليه وسلم: ((ذَروني ما تركتكم))، وقوله صلى الله عليه وسلم: ((وسكتَ عن أشياء رحمةً بكم لا عن نسيان، فلا تبحثوا عنها)).
 
ورابعها: أن يسأل عن صعاب المسائل وشرارها:
كما جاء في النهي عن الأُغلوطات.
 
وخامسها: أن يسأل عن علَّة الحكم وهو من قبيل التَّعبُّدات، أو السائل ممَّن لا يليق به ذلك السؤال: كما في حديث قضاء الصوم دون الصلاة[1].
 
وسادسها: أن يبلغ بالسؤال إلى حدِّ التَّكَلُّف والتَّعمُّق:
وعلى ذلك يدلُّ قوله تعالى: ﴿ قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ ﴾ [ص: 86].
 
• ولمَّا سُئِلَ الرجل: "يا صاحبَ الحوض، هل ترد حوضَك السباعُ؟ قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "يا صاحب الحوض، لا تخبرنا؛ فإنَّا نرِد على السباع وترِد علينا"[2].
 
وسابعها: أن يظهر من السؤال معارضة الكتاب والسُّنَّة بالرأي[3]:
ولذلك قال سعيد: "أعراقيٌّ أنت؟"[4]، وقيل لمالك بن أنس: "فالرجل يكون عالمًا بالسُّنَّة أيجادل عنها؟ قال: لا، ولكن يخبر بالسُّنَّة؛ فإن قُبِلَت منه، وإلاَّ سكتَ"؛ (جامع بيان العلم؛ لابن عبدالبر: 2/ 936).
 
وثامنها: السؤال عن المتشابهات:
وعلى ذلك يدل قوله تعالى: ﴿ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ...
﴾ الآية [آل عمران: 7].
 
• وأخرج الدارمي عن عمر بن عبدالعزيز رحمه الله قال: "مَن جعل دِينه غرضًا للخصومات، أسرَع التنقُّل"، ومِن ذلك سؤال مَن سأل مالِكًا عن الاستواء، فقال: "الاستواء معلوم، والكَيف مجهول، والسؤال عنه بدعة"؛ (أخرجه الدارمي أيضًا، وأبو نعيم في "الحلية").
 
وتاسعها: السؤال عمَّا شجَر بين السلَف الصالح:
وقد سُئِلَ عمر بن عبدالعزيز رحمه الله عن قتال أهل صِفِّين؟ فقال: "تلك دماء كفَّ الله عنها يدي، فلا أحب أن ألطخ بها لساني"؛ (أخرجه الخطابي في العزلة: ص 136، وابن عبدالبر في جامع بيان العلم: 2/ 934).
 
وعاشرها: سؤال التعنُّت[5] والإفحام، وطلب الغلبة في الخصام:
وفي القرآن في ذمِّ نحو هذا: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ...
[البقرة: 204]، وقال عز وجل: ﴿ بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ ﴾ [الزخرف: 58].
 
• وفي الحديث الذي أخرجه البخاري ومسلم: ((إنَّ أبغض الرِّجال إلى الله الأَلَدُّ[6] الخَصِمُ[7])).
 
هذه جملة من المواضع التي يُكرَه السؤال فيها، يقاس عليها ما سواها، وليس النَّهي فيها واحدًا؛ بل فيها ما تشتدُّ كراهيته، ومنها ما يخفُّ، ومنها ما يحرم، ومنها ما يكون محلَّ اجتهاد، وعلى جملة منها يقع النهي عن الجدال في الدِّين، كما جاء في الحديث الذي أخرجه الإمام أحمد وأبو داود والحاكم: ((أنَّ المِرَاء في القرآن كُفْر))، وقال تعالى: ﴿ وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ...
[الأنعام: 68]، وأشباه ذلك في الآيات والأحاديث...، فالسؤال في مثل ذلك منهيٌّ عنه، والجواب بحسبه".
اهـ؛ (الموافقات: 4/ 319 - 321).
 
• بيان أن النهي في قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ ﴾ [المائدة: 101] مقيَّد بما لا تدعو إليه حاجة.
 
نقل القاسِمي رحمه الله عن بعض المفسرين قوله: "لا بدَّ من تقييد النَّهي في هذه الآية (بما لا تدعو إليه حاجة)؛ لأنَّ الأمر الذي تدعو إليه الحاجة في أمور الدين قد أَذِن الله بالسؤال عنه، فقال: ﴿ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [النحل: 43]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((قاتلَهم الله، ألا سألوا إذ لم يعلموا؛ فإنَّما شفاء العيِّ السؤال...)).
 
وكما قيل:
وليس العمى طولَ السُّؤال وإنَّما ♦♦♦ تمام العمى طولُ السكوتِ على الجهلِ
 
وعن علي رضي الله عنه أنه قال: "العلم قفلٌ ومفتاحُه السؤال"؛ (مفتاح السعادة؛ لطاش كبرى زاده 1/ 25).
 
وقال ابن شهاب رحمه الله: "العلم خزانةٌ مفتاحُها المسألة"؛ (رواه ابن عبدالبر في "جامع بيان العلم"، رقم 524).
 
ثم قال القاسمي رحمه الله: "ولا يخفى أنَّ الآية: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ ﴾ [المائدة: 101] بقيدها - غنيَّةٌ عن أن تقيَّد بقيد آخر كما ذكره البعضُ؛ لأنَّ المراد بها: ما يشقُّ عليهم من التكاليف الصعبة، وما يفتضحون به - كما أسلفنا - ممَّا هو خَوض في الفضول، وشروع فيما لا حاجة إليه، وفيه خطَر المفسدة، والشيء الذي لا يُحتاج إليه ويكون فيه خطر المفسدة - يجب على العاقِل الاحتراز عنه.
 
وأمَّا ما تدعو إليه الحاجة، فلا تشمله الآية - كما يتَّضح من نَظْمها الكريم - مع ما بيَّنته السُّنَّة في سبب النزول، وتحرُّجُ الصحابة عن المسائل المارُّ بيانُه - معلوم أنه فيما لا ضرورة إليها، وإلاَّ فمسائلهم في الضروريات والحاجيات طفحت بها كتب السُّنَّة، ممَّا يُبيِّن أن هذه الآية في موضوع خاص.
 
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يَكره فَتْح باب كَثْرة المسائل؛ خشية أن تفضِي إلى حرَج، أو مساءة، أو تعنُّت.
 
وقد روى الشيخان عن المغِيرة بن شعبة أنه كتب إلى معاوية: "أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان ينهى عن قِيل وقال، وإضاعة المال، وكَثْرة السؤال[8]"؛ ا هـ بتصرف.

[1] وفيه أن عائشة رضي الله عنها سُئِلَت عن قضاء الحائض الصومَ دون الصلاة، فقالت للسائلة: "أحروريَّة أنتِ؟"، ثمَّ قالت: "كنا نُؤمر بقضاء الصوم، ولا نؤمر بقضاء الصلاة "؛ (أخرجه مسلم).

[2] أخرجه الدارقطني وابن أبي شيبة، وقال النووي رحمه الله في "المجموع" (1/ 173): "هذا الأثر إسناده صحيح إلى يحيى بن عبدالرحمن، لكنه مرسل منقطع...، إلا أنَّ له شواهد تقويه.

[3] مثل ما جاء في البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في امرأتين من هُذَيل اقتتلَتا، فرمَت إحداهما الأخرى بحَجَر؛ فأصاب بطنَها وهي حامل، فقتلت ولدها الذي في بطنها، فاختصموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقضى أن دِيَة ما في بطنها غُرَّةٌ؛ عبدٌ أو أَمَةٌ، فقال وليُّ المرأة التي غرمَت: كيف أغرم يا رسول الله مَن لا شرب ولا أكل، ولا نطق ولا استهلَّ، ومثل ذلك يُطَلُّ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إنما هذا من إخوان الكهَّان))؛ ومعنى "يُطَلُّ": يُهدر، وفي بعض الروايات: "بَطَل" بالباء الموحدة والتخفيف، من البطلان.

[4] فقد قال ربيعة لسعيد في مسألة عقل الأصابع: "حين عظم جرحها، واشتدت مصيبتها، نقص عقلها؟"، فقال سعيد: "أعراقي أنت؟"، فقلت: "بل عالم متثبِّت، أو جاهل مُتعلِّم"، فقال: "هي السُّنَّة يا بن أخي"؛ (انظر"معالم السنن" للخطابي: 4/ 28)، و(فقه الإمام سعيد بن المسيب: 4/ 67).

[5] أي: يسأل ليُعنِت المسؤول ويقهره، لا ليعلم.

[6] الأَلَدُّ: هو شديد اللدد، كثير الخصومة، مأخوذ من لديدي الوادي، وهما جانباه؛ لأنه كلما احتجَّ عليه بحجَّة أخذ في جانب آخر؛ (الإمام النووي رحمه الله).

[7] الخَصِمُ: الذي يُخاصم أقرانَه ويحاجهم بالباطل، ولا يقبل الحقَّ.

[8] وقد سئل الإمام مالك رحمه الله عن هذا الحديث فقال: "أمَّا كثرة السؤال، فلا أدري: أهو ما أنتم فيه ممَّا أنهاكم عنه من كثرة المسائل؟! فقد كره رسول الله صلى الله عليه وسلم المسائلَ وعابَها، وقال الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ ﴾ [المائدة: 101]، فلا أدري أهو هذا أم السؤال في الاستعطاء؟"؛ اهـ (من الموافقات: 4/ 316).

شارك الخبر

ساهم - قرآن ١