أرشيف المقالات

تفسير الربع الثالث من سورة النحل

مدة قراءة المادة : 17 دقائق .
سلسلة كيف نفهم القرآن؟[*]
3.
الربع الثالث من سورة النحل

• الآية 51: ﴿وَقَالَ اللَّهُ﴾ لعباده: ﴿لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ﴾ أي لا تعبدوا مَعبودَيْن اثنين، فـ ﴿إِنَّمَا﴾ مَعبودكم الحق ﴿هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾ وهو اللهُ الخالق الرازق المالك، ﴿فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ﴾: أي فخافوني وحدي ولا تخافوا غيري، لأنني الإله الحق، والأمر كله بيَدِي.
 
• الآية 52: ﴿وَلَهُ﴾ سبحانه جميع ﴿مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ خَلقًا ومُلكًا وتصرفاً وإحاطة، (إذاً فكل ما تعبدونه مع الله: هو مِلكٌ لله، ولم يَأذن بعبادته)، ﴿وَلَهُ﴾ سبحانه ﴿الدِّينُ﴾ أي له وحده العبادة والطاعة والإخلاص ﴿وَاصِبًا﴾ أي دائمًا، ﴿أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ﴾: يعني أتخافونَ مِن غير اللهِ تعالى، واللهُ هو الذي بيَدِهِ كل شيئٍ؟!
 
• الآية 53، والآية 54، والآية 55، والآية 56:﴿وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ﴾ - سواء كانت هداية، أو صحة، أو مال أو ولد، أو غير ذلك -: ﴿فَمِنَ اللَّهِ﴾ وحده، إذ هو سبحانه القادر على إعطاء النعم وسَلْبِها، ودَلَّلَ سبحانه على ذلك بشعورهم الفِطري، فقال: ﴿ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ﴾: يعني إذا أصابكم بلاءٌ وشدة:﴿فَإِلَيْهِ﴾ وحده﴿تَجْأَرُونَ﴾ أي ترفعون أصواتكم بالدعاء والاستغاثة، طالبينَ منه كَشْف الضر، ﴿ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ﴾ يعني إذا جماعة منكم يُشركون بربهم المُنْعِم عليهم بالنجاة، فيَعبدونَ معه غيره، ﴿لِيَكْفُرُوا بِمَا آَتَيْنَاهُمْ﴾: أي لتكون عاقبتهم أن يَجحدوا بما آتاهم اللهُ مِن نِعَم (ومنها كَشْف البلاء عنهم) فيَستحقوا العذاب، ولذلك قال بعدها: ﴿فَتَمَتَّعُوا﴾: أي استمتِعوا أيها المشركون بدُنياكم الزائلة ﴿فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾ عاقبة كُفركم وعِصيانكم.
 
﴿وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ﴾: أي يَجعلون للأصنام - التي لا تعلم شيئًا - جُزءًا مِن أموالهم التي رَزَقهم اللهُ بها (ليتقربوا بها إليهم)، فتوَعَّدَهم سبحانه على ذلك بقوله:﴿تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ﴾ أي يوم القيامة﴿عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ﴾ مِن الكذب على اللهِ تعالى في جَعْلكم معه شركاء في العبادة، وسيُعاقبكم على ذلك بأشد العقاب.
 
• الآية 57، والآية 58، والآية 59: ﴿وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ﴾ وذلك حين قالوا - كذباً وافتراءً -: (الملائكة بنات الله)، ﴿سُبْحَانَهُ﴾ أي تَنَزَّهَ اللهُ تعالى وتبرَّأَ مِن أن يكون له ولد (ذكراً كان أو أنثى) لأنه رَبُّ كل شيء ومَالكُه، فما الحاجةُ إذاً إلى الولد؟! ﴿وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ﴾ أي: وفي نفس الوقت الذي يَنسبون فيه البنات إلى اللهِ تعالى، يَجعلون لأنفسهم ما يُحبون من البنين ويَكرهون البنات!،﴿وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى﴾: يعني وإذا جاء مَن يُخبِرَ أحدهم بأنه قد وُلِدَ له بنت: ﴿ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا﴾ أي مُتغيِّراً بالسَواد مِن هذه البُشرَى ﴿وَهُوَ كَظِيمٌ﴾ أي مُمتلىء بالحزن والغم، وتَجِده ﴿يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ﴾: أي يَتَخَفَّي مِن قومه حتى لا يَلقاهم بالذل والعار؛ وذلك ﴿مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ﴾: أي بسبب البنت التي وُلِدت له، وتَجِده مُتحيِّرًا في أمْر هذا المولود: ﴿أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ﴾: يعني أيُبقيهِ حَيّاً على ذلٍّ وفضيحة، ﴿أَمْ يَدُسُّهُ﴾ يعني أم يَدفنه حَيّاً ﴿فِي التُّرَابِ﴾؟ - وهو ما كانَ يُعرَف بـ (وأد البنات) -، فقال تعالى مُنكِراً عليهم هذا الإجرام الفظيع: ﴿أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ﴾: يعني قَبُحَ الحُكم الذي حَكَموه مِن قتل البنات وإذلالهنّ (هذا مِن جهة)، ومِن جهةٍ أخرى: (أنهم يَنسبونَ البنات للهِ تعالى ويُبَرِّئون أنفسهم منها).
 
• الآية 60: ﴿لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ﴾ أي الصفة القبيحة من الجهل وظُلمة النفوس (لأنّ عدم إيمانهم بالحساب والجزاء جَعَلهم لا يَتركون شراً ولا يَعملون خيراً)، ﴿وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى﴾ أي: وللهِ تعالى الصفات العُليا من الكمال والاستغناء عن جميع خَلقه، فلا يَحتاجُ سبحانه إلى زوجةٍ أو ولد، ﴿وَهُوَ الْعَزِيزُ﴾ الذي قهر جميع المخلوقات، ﴿الْحَكِيمُ﴾ في تدبيره وقضاءه.
 
• الآية 61، والآية 62: ﴿وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ﴾ أي بكُفرهم وافترائهم وعِصيانهم:﴿مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ﴾: أي لأَهلَكَهم جميعاً، وما تَرَكَ على الأرض مِن أحدٍ يَتحرَّك، ﴿وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ﴾ سبحانه ﴿إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى﴾ يعني إلى وقتٍ مُحَدّد (وهو نهاية آجالهم) ﴿فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ﴾ عنه ﴿سَاعَةً﴾ ليعتذروا ويتوبوا، ﴿وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ﴾ أي: ولا يَتقدم أجَلُهم عن الوقت المعلوم (ثم يُجازيهم ربهم على أعمالهم السيئة).
 
﴿وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ﴾ أي يَجعلون للهِ ما يَكرهونه لأنفسهم من البنات والشركاء، ومع هذا: ﴿وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى﴾ أي وتقول ألسنتهم كذبًا: إنّ لهم حُسن العاقبة، كما قال بعضهم: ﴿وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى﴾، فرَدَّ تعالى على هذا الافتراء بقوله: ﴿لَا جَرَمَ﴾ أي حقًا ولا شك ﴿أَنَّ لَهُمُ النَّارَ﴾ ﴿وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ﴾ أي مَتْروكون في النار لا يُنقِذهم أحد.
 
• الآية 63: ﴿تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا﴾ رُسُلاً ﴿إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ﴾ - أيها الرسول - ﴿فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ﴾: أي فحسَََّنَ لهم الشيطان ما عملوه من الشِرك والتكذيب ﴿فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ﴾ أي: فهو مُتَوَلٍّ لإضلالهم في الدنيا ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ في الآخرة.
 
• الآية 64: ﴿وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ﴾ - أيها الرسول - ﴿إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ﴾: يعني إلا لتوضح للناس ما اختلفوا فيه من التوحيد والشِرك والهدى والضلال (لتقوم عليهم الحُجّة ببَيَانك)،﴿وَهُدًى﴾ أي: وأنزلنا القرآن رشدًا لمن اتَّبعه من الخلق، فيُنَجِّيهِ من الهلاك، ﴿وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ أي وجَعَله سبحانه رحمةً للمؤمنين (وخَصَّهم بذلك لأنهم المُنتفعون به، العاملونَ بهُداه)، وأما الكافرون فلا يَزيدهم القرآن إلا هَلاكاً وخُسراناً، لأنه قد أقام الحُجَّة عليهم.
 
• الآية 65: ﴿وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا﴾ أي فأخرج به النبات من الأرض، بعد أن كانت يابسة لا خيرَ فيها، ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ﴾ يعني إنّ في إنزال المطر وإنبات النبات ﴿لَآَيَةً﴾ على قدرة اللهِ تعالى على البعث ﴿لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ﴾ أي يَسمعون هذه الآيات، سَمَاعَ تدَبُّر وانتفاع.
 
• الآية 66: ﴿وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ﴾ - وهي الإبل والبقر والغنم - ﴿لَعِبْرَةً﴾ أي لكم فيها عِبرة عظيمة على قدرة اللهِ تعالى، فقد شاهدتم كيف ﴿نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ﴾ أي مِمّا يَخرج مِن ضُروعها (وهو مكان الإرضاع)، فـ ﴿مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ﴾: أي مِن بين الرَّوث (وهي القاذورات الموجودة في الكِرْش)، ومِن بين الدم: يُخرِجُ اللهُ تعالى ﴿لَبَنًا خَالِصًا﴾ من كل الشوائب (ليس فيه شيء من الفرْث أو الدم، لا في لونه ولا رائحته ولا طعمه)، ﴿سَائِغًا﴾ أي لذيذًاً ﴿لِلشَّارِبِينَ﴾.

♦ وهنا قد يقول قائل: لماذا ذَكَرَ اللهُ تعالى كلمة: (بطونه) في هذه الآية (بصيغة المُذكَّر)، على الرغم من أنه سبحانه قد ذَكَرَ نفس الكلمة بصيغة المؤنث في سورة "المؤمنون" حين قال: ﴿ وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ ﴾؟
والجواب: أنّ العلماء قد اختلفوا في ذلك، فمنهم مَن قال بأنّ كلمة: (الأنعام) يَجوز تذكيرها كما يَجوز تأنيثها، ومنهم مَن قال بأنّ المقصود من قوله تعالى: ﴿ نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ ﴾ أي نُسقيكم مِمَّا في بطون الذي له لبن (وهم الإناث)، فآية سورة "النحل" تتحدث - بصفة خاصة - عن إسقاء اللبن من بطون الأنعام مِن بين فرثٍ ودم، واللبن لا يَخرج من جميع الأنعام بل يخرج من الإناث فقط، وأما آية سورة "المؤمنون" فهي تتحدث عن منافع عامة لجميع الأنعام (ذكورها وإناثها)، ومنهم مَن قال بأنّ كلمة: (بطونه) جاءت بصيغة المُذكَّر للإشارة إلى أنّ اللبن يتكون بأمْر مِن هرمونات الذَكَر‏،‏ وذلك لأنّ الأنثى لا تُفرِز اللبن إلا إذا تَسَبَّب ماء الذكَر في إخصاب البويضة‏‏ وتكوّن الجنين‏،‏ مِمَّا يَتسبب في إفراز هرمونات خاصة تعمل على تنشيط الغُدَد اللبَنية حتى تكتمل قدرتها على إفراز اللبن بمجرد الولادة‏،‏ واللهُ أعلم‏‏.‏
 
• الآية 67: ﴿وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ﴾ يعني: ومِن نِعَم الله عليكم أنه يُنبِت لكم من النخيل والأعناب ثَمَراً ﴿تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا﴾: أي تجعلون بعضه خَمرًا مُسْكِرًا - وكانَ هذا قبل تحريم الخمر - ﴿وَرِزْقًا حَسَنًا﴾: أي: وباقي الثمر يكونُ لكم طعامًا طيبًا، ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً﴾ على قدرة اللهِ تعالى واستحقاقه وحده للعبادة ﴿لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ أي يَعقلون البراهين فيَعتبروا بها.
 
• الآية 68، والآية 69: ﴿وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ﴾: أي ألْهَمَ ربك النحل بـ﴿أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ﴾: أي اجعلي لكِ بيوتًا في الجبال، وفي الشجر، وفيما يَبني لكِ الناس من البيوت، ﴿ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ﴾ أي مِن كل ثمرةٍ تشتهينها، ﴿فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا﴾: أي فاسلكي طُرُق ربك مُذللةً لكِ، سَهلة عليكِ (لا تَضِلِّينَ عنها)، وذلك لطلب الرزق في الجبال وخلال الشجر، ﴿يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ﴾: أي يَخرج مِن بطون النحل عسلٌ مختلف الألوان (مِن بياضٍ وصُفرةٍ وحُمرة) ﴿فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ﴾ (إذا شَرِبوه بِنِيّة الشفاء، أو إذا ضَمُّوهُ إلى دواءٍ آخر)، ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ﴾ يعني إنّ فيما يَصنعه النحل ﴿لَآَيَةً﴾ أي لَدلالةً قوية على قدرة خالقها ﴿لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ فيَعتبروا.
 
• الآية 70: ﴿وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ﴾ من العدم، ﴿ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ﴾ في نهاية أعماركم، ﴿وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ﴾ أي: ومنكم مَن يَصيرُ إلى أردأ العُمر (وهو الهِرَم)، حيث يَفقد الإنسان ما كانَ له مِن قوةٍ وعقل ﴿لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا﴾: أي حتى يَصير لا يَعلم شيئًا مِمَّا كانَ يَعلمه (كما كانَ في طفولته)، ﴿إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ﴾ إذ إنّه تعالى - كما رَدَّ الإنسان إلى هذه الحالة - فإنه أيضاً قادرٌ على أن يَبعثه بعد الموت.
♦ واعلم أنّ اللهَ سبحانه قدَّمَ اسمه (العليم) قبل اسمه (القدير) لأنّ القدرة تتعلّق بالعِلم، وبمقدار سعة العلم يكون عِظَم القدرة، واعلم أيضاً أنّ اللام التي في قوله تعالى: ﴿ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ ﴾ تُسَمَّى: (لام العاقبة) أي ليَصير الإنسان إلى هذه الحالة.
 
• الآية 71: ﴿وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ﴾ (فمِنكم الغني ومنكم الفقير، ومنكم المالك ومنكم المملوك)، ﴿فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ﴾ أي: فلا يُعقَل أن يُعطِي المالكونَ لمَملوكيهم المالَ الذي يَصيرونَ به شركاءَ لهم، مُتساوينَ معهم في الرزق! (فإذا لم يَرضوا بذلك لأنفسهم، فلماذا رضوا بأن يَجعلوا للهِ شُركاءَ مِن خَلقه وعبيده؟!) ﴿أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ﴾؟! يعني إنّ هذا مِن أعظم الظلم والجحود لِنعم اللهِ عَزَّ وجَلّ (وذلك لأنهم جحدوا نعمة العقل أولاً، فلم يُفكروا بعقولهم، ثم جحدوا نعمة اللهِ عليهم في خَلقهم ورِزقهم فعبدوا معه أصناماً لا تملك شيئاً ولا تنفع ولا تضر).
 
• الآية 72: ﴿وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا﴾ أي خَلَقَ لكم - مِن نفس نوعكم - زوجاتٍ لتستريح نفوسكم معهنّ، (ويُحتمَل أن يكون المقصود مِن قوله تعالى:  ﴿ مِنْ أَنْفُسِكُمْ ﴾ أنّ حواء خُلِقتْ مِن ضِلع آدم، وباقي النساء خُلِقنَ مِن ماء الرجال)، ﴿وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً﴾ أي أبناءً وأحفاداً من أبنائكم، ﴿وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ﴾ أي رَزَقكم مِن الأطعمة الطيبة (من الثمار والحبوب واللحوم وغير ذلك)،﴿أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ﴾: يعني أفَبَعْد هذا كله، يؤمنون بآلهتهم الباطلة التي لم تخلق شيئاً ﴿وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ﴾ أي: ويَجحدون بنعم اللهِ التي لا تُحصَى، ولا يَشكرونه سبحانه بإفراده وحده بالعبادة؟!
 
• الآية 73، والآية 74: ﴿وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا﴾ أي: ويَعبد المشركون أصنامًا لا تملك أن تعطيهم شيئًا من السماء (كالمطر)، ولا من الأرض (كالزرع)، لأنهم لا يَملكون شيئًا ﴿وَلَا يَسْتَطِيعُونَ﴾ أن يَفعلوا شيئاً مِن ذلك لِعَجْزهم.
 
♦ فإذا عَلِمتم أنّ الأصنام لا تنفع: ﴿فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ﴾ (وذلك بأن تُطلِقوا لفظ "إله" على صَنَمٍ أو غيره)، فبذلك تجعلون للهِ تعالى نُظَراء وشركاء في العبادة (لا يَملكون لأنفسهم ولا لعابدِيهم نفعاً ولا ضراً) ﴿إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ﴾ أنه تعالى له المَثَل الأعلى وأنّ ما يَضربونه له باطل، ﴿وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ ذلك، فلهذا نَهاكم سبحانه عن أن تَضربوا له مَثَلاً فيه نقصٌ أو تشبيهٌ بخلقه.
 
♦ واعلم أنّ الأمثال جَمْع (مَثَل)، وهي هنا بمعنى (المُماثِل)، ومعنى أنهم يَضربونَ الأمثالَ للهِ تعالى: أنهم شَبَّهوا الأصنام بالخالق جَلَّ وعَلا (حيثُ عَبَدوها بالذبح والنَذر والدعاء، والحَلِف بها، والعكوف حولها، والاعتقاد بأنها تَشفع لهم عند اللهِ تعالى وأنها تُقَرِّبُهم إليه، وأنها واسطةٌ لهم بمَثابة الوزير للأمير)، (ومِن ذلك أيضاً مَن يَتوسطون بالأولياء والأنبياء فيَدعونهم ويَذبحون عندهم، زاعمينَ أنّ هؤلاء الأولياء مُقرَّبون إلى اللهِ تعالى، وأنه يَستجيب لهم ولا يَستجيب لغيرهم)!، فهؤلاء قد جعلوا اللهَ تعالى كَمُلوك الدنيا الذين يَحتاجون إلى واسِطةٍ بينهم وبين الناس ليقضوا مصالحهم، واللهُ تعالى لا يَحتاجُ إلى واسطةٍ بينه وبين خَلقه في العبادة، قال تعالى: ﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ﴾.

[*] وهي سلسلة تفسير لآيات القرآن الكريم بأسلوب بسيط جدًّا، وهي مُختصَرة من (كتاب: "التفسير المُيَسَّر" (بإشراف التركي)، وأيضًا من "تفسير السّعدي" ، وكذلك من كتاب: " أيسر التفاسير" لأبي بكر الجزائري) (بتصرف)، عِلمًا بأنّ ما تحته خط هو نص الآية الكريمة، وأما الكلام الذي ليس تحته خط فهو التفسير.
• واعلم أن القرآن قد نزلَ مُتحدياً لقومٍ يَعشقون الحَذفَ في كلامهم، ولا يُحبون كثرة الكلام، فجاءهم القرآن بهذا الأسلوب، فكانت الجُملة الواحدة في القرآن تتضمن أكثر مِن مَعنى: (مَعنى واضح، ومعنى يُفهَم من سِيَاق الآية)، وإننا أحياناً نوضح بعض الكلمات التي لم يذكرها الله في كتابه (بَلاغةً)، حتى نفهم لغة القرآن.

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٢