مفهوم الصبر عند الغزالي
مدة
قراءة المادة :
18 دقائق
.
مفهوم الصبر عند الغزاليوصف القرآن للصابرين:
تحدَّث الغزالي بإسهاب في كتابه "إحياء علوم الدين" عن الصبر، فذكر أن الله سبحانه قد وصف الصابرين بأوصاف، وذكر الصبرَ في القرآن في نيف وسبعين موضعًا، وأضاف أكثر الدرجات والخيرات إلى الصبر، وجعلها ثمرةً له، فقال تعالى: ﴿ وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا ﴾ [السجدة: 24]، وقال تعالى: ﴿ أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا ﴾ [القصص: 54]، وقال سبحانه: ﴿ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [النحل: 96]، وقال تعالى: ﴿ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ [الزمر: 10]، فما مِن قُربة إلا وأجرها بتقدير وحساب، إلا الصبر، وجمع للصابرين بين أمور لم يجمعها لغيرهم، فقال تعالى: ﴿ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ﴾ [البقرة: 157]، ولأجل كون الصوم من الصبر، وأنه نصف الصبر، قال الله تعالى: ((الصومُ لي، وأنا أجزي به))، فأضافه إلى نفسه مِن بين سائر العبادات، ووعَد الصابرين بأنه معهم، فقال تعالى: ﴿ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ [الأنفال: 46]؛ فالهُدى والرحمة والصلوات مجموعةً للصابرين، واستقصاءُ جميع الآيات في مقام الصبر يطول[1].
آثار في الصبر:
وأما الآثار فقد وُجد في رسالة عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى أبي موسى الأشعري: "عليك بالصبر، واعلم أن الصبرَ صبران: أحدهما أفضل من الآخر، الصبر في المصيبات حسَن، وأفضلُ منه الصبرُ عما حرم الله تعالى، واعلم أن الصبرَ مِلاك الإيمان؛ وذلك بأن التقوى أفضلُ البِر، والتقوى بالصبر".
وقال عليٌّ رضي الله عنه: "الصبرُ من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، ولا جسدَ لِمَن لا رأس له، ولا إيمان لِمَن لا صبر له".
وكان عمرُ رضي الله عنه يقول: "نعم العدلانِ، ونعمت العلاوةُ للصابرين"، يعني بالعدلَيْنِ الصلاةَ والرحمة، وبالعلاوة الهدى، والعلاوة ما يُحمَل فوق العدلين على البعير، وأشار به إلى قوله تعالى: ﴿ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ﴾ [البقرة: 157].
وكان حبيبُ بن أبي حبيب إذا قرأ هذه الآية: ﴿ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ ﴾ [ص: 44]، بكى، وقال: "واعجباه، أعطَى وأثنَى"؛ أي: هو المعطي للصبرِ، وهو المُثْني، وقال أبو الدرداء: "ذروةُ الإيمانِ الصبرُ للحُكم، والرضا بالقدر"[2].
الصبر بعده فضيلةٌ قلبية:
وقبل التوغُّل أكثرَ في تأويلات الغزالي عن الصبر، لا بد - في رأيي - من العودة ولو قليلًا إلى مفهوم القلب عنده، باعتبار أن الصبرَ يعُود في جملة معانيه إلى الأمور القلبيَّة.
يبيِّن الغزالي أن "القلب الذي هو عبارة عن الرُّوح المدبر لجميع الجوارح، المخدوم من جميع القوى والأعضاء، بالإضافة إلى حقائق المعلومات - كالمِرآة بالإضافة إلى صُوَر المتلوِّنات، فكما أن للمتلوِّن صورة ومثالًا لتلك الصورة ينطبع في المرآة، ويحصل فيها، فكذلك لكل معلومٍ حقيقة، وتلك الحقيقة صورته، فتنطبع في المرآة، أعني مرآة القلب، فتتضح فيه، وكما أن المرآةَ غير، وصورة الأشخاص غير، وحصول مثالها في المرآة غير، فهي ثلاثة أمور، ويحتاج إلى أمر رابع، وهو نورٌ بواسطته تنكشف الصورة في المِرآة وتظهر، فكذلك ها هنا أربعةُ أمور: القلب، وحقائق الأشياء، وحصول نقش الحقائق في القلب وحضوره فيه، ونور به تنكشفُ الحقائقُ في القلب"[3].
ماهية الصبر:
يقول الغزالي موضحًا ماهيَّة الصبر: اعلَمْ أن الصبر مقامٌ مِن مقامات الدِّين، ومنزِل من منازل السالكين، وجميع مقامات الدِّين إنما تنتظم من ثلاثة أمور: معارف، وأحوال، وأعمال؛ فالمعارف هي الأصول، وهي تورِث الأحوال، والأحوال تثمِر الأعمال؛ فالمعارف كالأشجار، والأحوال كالأغصان، والأعمال كالثِّمار، وهذا مطَّرِد في جميع منازل السالكين إلى الله تعالى، واسم الإيمان تارةً يختص بالمعارف، وتارة يُطلَق على الكل، والصبرُ لا يتم إلا بمعرفة سابقة، وبحالة قائمة؛ فالصبرُ - على التحقيق - عبارة عنها، والعمل هو كالثمرة يصدُرُ عنها، ولا يُعرَف هذا إلا بمعرفة كيفية الترتيب بين الملائكة والإنس والبهائم؛ فإن الصبرَ خاصية الإنس، ولا يُتصوَّر ذلك في البهائم والملائكة، أما في البهائم فلنقصانها، وأما في الملائكة فلكمالها، وبيانه أن البهائم سُلِّطت عليها الشهوات، وصارت مسخَّرة لها، فلا باعث لها على الحركة والسكون إلا الشهوة، وليس فيها قوة تصادم الشهوةَ وتردها عن مقتضاها حتى يسمى ثباتُ تلك القوة في مقابلة مقتضى الشهوة صبرًا، وأما الملائكةُ عليهم السلام فإنهم جُرِّدوا للشوق إلى حضرة الربوبية، والابتهاج بدرجة القرب منها، ولم تُسلَّط عليهم شهوةٌ صارفة صادَّة عنها حتى يحتاج إلى مصادمة ما يصرِفها عن حضرة الجلال بجند آخرَ يغلِبُ الصوارفَ، وأما الإنسان فإنه خُلق في ابتداء الصِّبا ناقصًا مثل البهيمة، لم يُخلَقْ فيه إلا شهوة الغذاء الذي هو محتاج إليه، ثم تظهر فيه شهوةُ اللعب والزينة، ثم شهوة النكاح، على الترتيب، وليس له قوة الصبر البتَّة[4].
ابنُ آدمَ والصبر:
وابن آدم، كما يرى الغزالي، لا ينفكُّ ولا ينفصلُ عن حركة أو سكون، وقلبه مثل الزُّجاج، وأخلاق السوء كالدُّخَان والظُّلمة، فإذا وصل إليه ذلك أظلمَ عليه طريقُ السعادة، وأخلاق الحسن كالنور والضوء، فإذا وصل إلى القلب طهَّره من ظلم المعاصي؛ كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أتبِعِ السيئةَ الحسنةَ تَمْحُها))، والقلب إما مضيء أو مظلم، ولا ينجو إلا مَن أتى اللهَ بقلب سليم، وكذلك الشهوة والغضب، ينبغي أن يكونا تحت يدِ العقل، فلا يفعل شيئًا إلا بأمره، فإن فعل ذلك صحَّ له حسن الأخلاق، وهي صفات الملائكة، وهي بذر السعادة، وإن عمل بخلاف ذلك، فخدَم الشهوة والغضب، صح له الأخلاقُ القبيحة، وهي صفاتُ الشياطين، وهي بذر الشقاء[5].
الصبرُ بعده هداية ربانية:
ويُضيف الغزالي: إن نور الهداية أيضًا يختلف في الخَلْق اختلافًا لا ينحصر، فلنُسَمِّ هذه الصفةَ التي بها فارَق الإنسانُ البهائمَ في قمع الشهوات وقهرها باعثًا دينيًّا، ولنُسَمِّ مطالبةَ الشهوات بمقتضياتها باعثَ الهوى، وليُفهَمْ أن الخلاف قائم بين باعث الدِّين وباعث الهوى، والاختلاف بينهما سِجال، ومكانُ هذا التخالف قلبُ العبد، ومدَدُ باعثِ الدِّين مِن الملائكة الناصرين لعباد الله تعالى، ومددُ باعثِ الشهوة من الشياطين؛ فالصبر عبارةٌ عن ثبات باعث الدِّين في مقابلة باعث الشهوة، فإن ثبَت حتى قهَره واستمرَّ على مخالفة الشهوة، فقد نصر عبد الله، والتحَق بالصابرين، وإن تخاذل وضعف حتى غلَبَتْه الشهوةُ ولم يصبِرْ في دفعها التحَق بأتباع الشياطين، الصبرُ عبارة عن ثبات عنصر في مقابلة عنصر آخرَ لتضادِّ مقتضياتهما ومطالبهما، وليس في الصبيِّ إلا باعث الهوى، كما في البهائم، ولكن الله تعالى بفضله وسَعة جوده أكرَم بني آدمَ، ورفَع درجتهم عن درجة البهائم، فوكَّل به عند كمال شخصه بمقاربة البلوغ ملَكينِ، أحدهما يَهديه، والآخر يقوِّيه، فتميز بمعونة الملَكين عن البهائم، واختص بصفتين، إحداهما معرفة الله تعالى، ومعرفة رسوله، ومعرفة المصالح المتعلقة بالعواقب، وكل ذلك حاصلٌ مِن الملَك الذي إليه الهداية والتعريف؛ فالبهيمةُ لا معرفة لها، ولا هدايةَ إلى مصلحة العواقب، بل إلى مقتضى شهواتها في الحال فقط؛ فلذلك لا تطلب إلا اللذيذَ، وأما الدواء النافع مع كونه مضرًّا في الحال فلا تطلبه ولا تعرفه، فصار الإنسانُ بنور الهداية يعرف أن اتباعَ الشهوات له مغبَّاتٌ مكروهة في العاقبة، ولكن لم تكُنْ هذه الهداية كافيةً، ما لم تكُنْ له قدرةٌ على ترك ما هو مضرٌّ، فكم من مضرٍّ يعرفه الإنسان كالمرض النازل به مثلًا، ولكن لا قدرة له على دفعه، فافتقر إلى قدرة وقوة يدفع بها في نحر الشهوات، فيجاهدها بتلك القوة حتى يقطع عداوتَها عن نفسه، فوكَّل الله تعالى به ملَكًا آخر يسدِّده ويؤيِّده ويقوِّيه بجنود لم تروها، وأمَر هذا الجند بقتال جند الشهوة، فتارة يضعف هذا الجند، وتارة يقوي ذلك، بحسَب إمداد اللهِ تعالى عبدَه بالتأييد[6].
مقال آخر في ماهية الصبر:
يشرح الغزالي أكثرَ ماهية الصبر بالقول: إنه لما كان الصبر صبرًا عن باعث الهوى بثباتِ باعث الدِّين، وكان باعث الهوى قسمين؛ باعث مِن جهة الشهوة، وباعث مِن جهة الغضب؛ فالشهوة لطلب اللذيذ، والغضب للهرب من المؤلِم، وكان الصوم صبرًا عن مقتضى الشهوة فقط، وهي شهوة البطن والفَرْج دون مقتضى الغضب، قال بهذا الاعتبار: ((الصومُ نصف الصبر))؛ لأن كمالَ الصبر بالصبر عن دواعي الشهوة، ودواعي الغضب جميعًا، فيكون الصومُ بهذا الاعتبار ربعَ الإيمان، فهكذا ينبغي أن تفهم تقديرات الشرع بحدود الأعمال والأحوال، ونسبتها إلى الإيمان، والأصل فيه أن تعرف كثرةَ أبواب الإيمان؛ فإن اسمَ الإيمان يُطلَق على وجوه مختلفة، يبيِّن الغزالي أن الصبرَ نصف الإيمان؛ فالإيمان تارة يختص في إطلاقه بالتصديقات بأصولِ الدِّين، وتارة يختص بالأعمال الصالحة الصادرة منها، وتارة يطلق عليهما جميعًا، وللمعارف أبواب، وللأعمال أبواب، ولاشتمال لفظ الإيمان على جميعها كان الإيمان نيِّفًا وسبعين بابًا، والصبر نصف الإيمان باعتبارين، وعلى مقتضى إطلاقين:
أحدهما: أن يُطلَق على التصديقات والأعمال جميعًا، فيكون للإيمان ركنان؛ أحدهما: اليقين، والآخر: الصبر، والمراد باليقين المعارفُ القطعية الحاصلة بهداية الله تعالى عبدَه إلى أصول الدِّين، والمراد بالصبر: العملُ بمقتضى اليقين؛ إذ اليقين يعرِّفه أن المعصيةَ ضارة، والطاعة نافعة، ولا يمكن ترك المعصية والمواظبة على الطاعة إلا بالصبر، وهو استعمال باعث الدِّين في قهر باعث الهوى والكسل، فيكون الصبر نصفَ الإيمان بهذا الاعتبار، الاعتبار الثاني: أن يطلَقَ على الأحوال المثمرة للأعمال، لا على المعارف، وعند ذلك ينقسم جميعُ ما يلاقيه العبد إلى ما ينفعه في الدنيا والآخرة، أو يضره فيهما، وله بالإضافة إلى ما يضره حال الصبر، وبالإضافة إلى ما ينفعه حال الشكر، فيكون الشكر أحدَ شطرَيِ الإيمان بهذا الاعتبار، كما أن اليقينَ أحد الشطرينِ بالاعتبار الأول[7].
أقسام أخرى للصبر:
وقيل: الصبر على قسمين: أحدهما: صبرٌ على ما هو كَسْبٌ للعبد، وصبر على ما ليس بكسبٍ له؛ فالصبر على الكسب ينقسم على قسمين، أحدهما: على ما أمر الله به عز وجل، والثاني: على ما نهاه عز وجل عنه، وأما الصبرُ على ما ليس بكسب للعبد: فصبرُه على مقاساةِ ما يتصل به مِن حُكم الله وقضائه فيما له فيه مشقة وألم في القلب والجسد، وقيل: الصابرون ثلاثة: متصبِّر، وصابر، وصبَّار، وهناك مَن ذهب إلى أن الصبرَ على ثلاثة أضرب: أحدها: صبر لله عز وجل، وهو على أداء أمره وانتهاء نَهيِه، وصبر مع الله عز وجل، وهو الصبرُ تحت جريان قضائه وأفعاله فيك مِن سائر الشدائد والبلايا، وصبر على الله عز وجل، وهو الصبرُ على ما وعَد مِن الرزق والفرَج، والكفاية والنصر، والثواب في دار الآخرة[8].
أنواع الصبر عند الغزالي:
ويذهب الغزالي إلى أن الصبرَ ضربان؛ أحدهما: ضرب بدني؛ كتحمُّل المشاقِّ بالبدن والثبات عليها، وهو إما بالفعل؛ كتعاطي الأعمال الشاقة، إما مِن العبادات، أو مِن غيرها، وإما بالاحتمال؛ كالصبر على الضرب الشديد، والمرَض العظيم، والجراحات الهائلة، وذلك قد يكون محمودًا إذا وافق الضربانِ، ولكن المحمود التام هو الضرب الآخر، وهو الصبرُ النفسي عن مشتهَيات الطبع، ومقتضيات الهوى، ثم هذا الضرب، إن كان على احتمال مكروه، اختلفت أساميه عند الناس باختلاف المكروهِ الذي غلَب عليه الصبر، فإن كان في مصيبة اقتصَر على اسم الصبر، وتُضادُّه حالةٌ تسمى الجزَعَ والهلَع، وهو إطلاق داعي الهوى ليسترسل في رفع الصوت، وضرب الخدود، وشق الجيوب، وإن كان صبرًا على شهوة البطن والفَرْج، سُمِّيَ عفَّة، وغيرهما وإن كان في احتمال الغنى سُمِّي ضبطَ النفس، وتُضادُّه حالة تسمى البطَر، وإن كان في كظم الغيظ والغضب سُمِّي حِلمًا، ويُضادُّه التذمُّر، وإن كان في نائبة من نوائب الزمان مُضجِرة سُمِّي سَعة الصدر، ويُضادُّه الضجَر والتبرُّم وضِيق الصَّدر، وإن كان في إخفاء كلام سُمِّي كتمانَ السر، وسُمِّي صاحبُه كَتُومًا، وإن كان عن فضول العيش سُمِّي زهدًا، ويُضادُّه الحرصُ، وإن كان صبرًا على قدرٍ يسير من الحظوظ سُمِّي قناعة، ويُضادُّه الشَّرَهُ، فأكثرُ أخلاق الإيمان داخلٌ في الصبر[9].
الصبر جزء مِن التقوى والطاعة:
وفي المعاني أعلاه، يقول ابنُ الجوزي مخاطبًا الإنسان بضرورة التحلي بالصبر والتقوى والطاعة: "يا مَن رواحله في طلب الدنيا لها إسراع، متى تحلُّ عنها نطاق الأمل، فيكون الانقطاع؟ إذا طلبت الآخرة، تمشي رويدًا، فمتى يكون الانتفاع؟ عجبًا كيف تشدُّ الرحال في طلب الفاني وفي طريقه قطَّاع! العمر أمانة أتلفَتْ شبابَه في الخيانة، وكهولته في البطالة، وفي الشيخوخة تبكي وتقول: عُمري قد ضاع، متى أفلح الخائن فيما اشترى أو باع؟ أنت في طلب الدنيا صحيح الجسم، وفي طلب الآخرة بك أوجاع، كم تعرج عن سبل التقوى يا أعرج الهمة، يا مَن يبقى في القاع".
ونقَل ابن الجوزي القصيدة الآتية:
إذا أنا لم أصبِرْ على مَن أحبُّه
وإن حال عن وصلي فما أنا صانعُ
أأتركُه والقلب مِن فَرْط حبه
أسيرٌ بما تطوى عليه الأضالع
أأسمع فيه العَذْلَ والوجدُ حاكمٌ
فما يغنني بالعذل ما أنا سامع
أأسلوه والشوقُ يمنع سلوتي
وأكتم ما قد أظهرَتْه المدامع
ويَعْتِبني قلبي إذا زاد وَجْده
فأضرب صفحًا دونه وأمانع
وإن زاد ما به اشتكتهفحسبُه
على كل حال عند شكواي شافع
فلا عيشةٌ تصفو، ولا موعد يفي
ولا نظرٌ يُسْلي، ولا الصبر نافع
أرى الدهر يمضي برهة بعد برهة
ولم أُلْفَ ما مالت إليه المطامع
فإن ضقتُ ذرعًا بالذي قد لقيتُه
فكلُّ مضيقٍ فَهْو في الحب واسع[10]
الصبر بين القوة والضعف:
ويرى الغزالي أن الصبرَ أيضًا ينقسم باعتبار حُكمه إلى فرض ونفل، ومكروه ومحرَّم؛ فالصبر عن المحظورات فرض، وعلى المكاره نفل، والصبر على الأذى المحظور محظور؛ كمَن تُقطَع يده أو يدُ ولده وهو يصبر عليه ساكتًا، وكمَن يقصد حريمه بشهوة محظورة، فتهيج غَيرتُه، فيصبر عن إظهار الغَيرة، ويسكُت على ما يجري على أهله، فهذا الصبر محرَّم، والصبر المكروه هو الصبرُ على أذًى يناله بجهة مكروهة في الشرع، فليكُنِ الشرعُ محكَّ الصبر، فكونُ الصبر نصفَ الإيمان لا ينبغي أن يخيلَ إليك أن جميعَه محمود، بل المراد به أنواع مِن الصبر مخصوصة، كما أن الصبرَ ينقسم أيضًا باعتبار اليُسر والعُسر إلى ما يشقُّ على النفس، فلا يمكنُ الدوام عليه إلا بتعب شديد، ويسمى ذلك تصبُّرًا، وإلى ما يكون مِن غير شدة تعب، بل يحصُلُ بأدنى تحاملٍ على النفس، ويخص ذلك باسم الصبر، وإذا دامت التقوى وقوِيَ التصديق بما في العاقبة مِن الحسنى، تيسَّر الصبرُ؛ ولذلك قال تعالى: ﴿ فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى ﴾ [الليل: 5 - 7][11].
[1] أبو حامد محمد بن محمد الغزالي الطوسي (المتوفى: 505هـ): "إحياء علوم الدين"، دار المعرفة - بيروت، بدون تاريخ، 4 / 61.
[2] الغزالي: "إحياء علوم الدين"، 4 / 64.
[3] أبو حامد محمد بن محمد الغزالي الطوسي (المتوفى: 505هـ): "معارج القدس في مدارج معرفة النفس"، دار الآفاق الجديدة - بيروت، الطبعة: الثانية، 1975، ص 9.
[4] الغزالي: "إحياء علوم الدين"، 4 / 62 - 63.
[5] أبو حامد محمد بن محمد الغزالي الطوسي (المتوفى: 505هـ): "كيمياء السعادة"، والكتاب هو مقتطفات مترجمة، والأصل: كتاب اسمه: كميائي سعادات، في مجلدين كبار، وهو ترجمة - تقريبًا - لكتابه الإحياء مع تغير بسيط، ص 132 - 134.
[6] الغزالي: "إحياء علوم الدين"، 4 / 64.
[7] الغزالي: "إحياء علوم الدين"، 4 / 65.
[8] عبدالقادر بن موسى بن عبدالله بن جنكي دوست الحسني، أبو محمد، محيي الدين الجيلاني، أو الكيلاني، أو الجيلي (المتوفى: 561 هـ): "الغنية لطالبي طريق الحق عز وجل"، المحقق: أبو عبدالرحمن صلاح بن محمد بن عويضة، الناشر: دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان، الطبعة: الأولى، 1417 هـ - 1997، 2 / 329.
[9] الغزالي: "إحياء علوم الدين"، 4/ 67.
[10] جمال الدين أبو الفرج عبدالرحمن بن علي بن محمد الجوزي (المتوفى: 597هـ): "بحر الدموع"، المحقق: جمال محمود مصطفى، دار الفجر للتراث، الطبعة الأولى 1425هـ - 2004م، ص 53.
[11] الغزالي: "إحياء علوم الدين"، 4 / 68 - 69.