التوكل والأسباب
مدة
قراءة المادة :
13 دقائق
.
التوكل والأسبابقال تعالى: ﴿ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ﴾، إن التوكل لا يكون إلا على الله عز وجل، واعتماد القلب لا بد ألا يكون إلا على خالق الأسباب وحده؛ وهذا ما يفيده تقديم (الجار والمجرور) حيث يفيد الاختصاص فلا يجوز ولا ينفع التوكل إلا على الله تعالى وحده لا شريك له؛ فإن من أسمائه الحسنى تعالى وتقدس (الوكيل): "أي الموكل إليه الأمور كلها، والمستحق بذاته أن تكون الأمور موكولة إليه والقلوب متوكلة عليه"[1].
معنى التوكل: لغة: إظهار العجز والاعتماد على الغير[2].
ويمكن تعريف التوكل بأنه: (وحقيقة التوكل: صدق اعتماد القلب على الله تعالى في استجلاب المنافع ودفع المضار من أمور الدنيا والآخرة كلها، والإيمان بأنه لا يعطي ولا يمنع ولا يضر سواه) [3].
والمؤمنون يتوكلون على الله تعالى في كل الأحوال؛ في جلب المنافع ودفع المضار، ففي أمر الرزق يعتمدون على الله تعالى وحده ويطلبون منه سبحانه، موقنين بأنه الرازق على الحقيقة: قال تعالى ﴿ وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لاَ يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾[4].
وعند الخوف من الأعداء عند اجتماعهم؛ فهم يعتمدون على الله تعالى في دفع أذى الأعداء؛ قال تعالى: ﴿ الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الوَكِيلُ * فَانقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ ﴾ [5]..
وفي غزوة بدر انطلقت إشاعات وأبواق لتثبيط المسلمين وإضعاف روحهم المعنوية؛ فقد قال أبو جهل- لعنه الله- لما أشرف على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه: (والله لا يعبد الله بعد اليوم أبدًا؛ قسوة وعتوًا) [6]، ولما توكل المؤمنون على الله عز وجل نصرهم، وقتل أبو جهل وهزم المشركون؛ قال تعالى: ﴿ إِذْ يَقُولُ المُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ غَرَّ هَؤُلاءِ دِينُهُمْ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ [7]
وعند الأزمات واتخاذ القرارات؛ فإنه بعد التشاور والأخذ بالأسباب الممكنة ودراسة الأمر؛ فإنهم يتوكلون على الله عز وجل؛ قال تعالى: ﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًا غَلِيظَ القَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُتَوَكِّلِينَ ﴾ [8].
التوكل والأسباب:
إن التوكل على الله تعالى من أخص صفات المؤمنين، وهو من أهم الصفات التي يجب أن تستقر في قلب الداعي وكيانه؛ وعلى هذا فإن عليه أن يبذل قصارى جهده ووقته؛ وأن يتسلح بسلاح العلم والمعرفة والكياسة والفطنة والشجاعة والمروءة وغير ذلك من الأسباب ثم يعتمد على الله تعالى في أن تصل دعوته إلى قلوب الناس، وأن يحفظه الله تعالى من كل سوء؛ ومن هنا فإن التوكل لا يصح إلا مع الأسباب.
يقول ابن رجب: (واعلم أن تحقيق التوكل لا ينافي السعي في الأسباب التي قدر الله تعالى المقدورات بها، وجرت سنته في خلقه بذلك؛ فإن الله تعالى أمر بتعاطي الأسباب مع أمره بالتوكل؛ فالسعي في الأسباب بالجوارح طاعة له، والتوكل بالقلب عليه إيمان به؛ قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ ﴾ [9]، وقال تعالى: ﴿ وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الخَيْلِ ﴾ [10]، وقال تعالى: ﴿ فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ ﴾)[11])[12].
فالحذر والإعداد من الأسباب اللازمة عند ملاقاة الأعداء..
والانتشار والسعي لابد منهما لاستجلاب وتحصيل الرزق..
وعن إثبات الأسباب يقول ابن القيم (واعلم أن نفاة الأسباب لا يستقيم لهم توكل البتة لأن التوكل من أقوى الأسباب في حصول المتوكل فيه؛ فهو كالدعاء الذي جعله الله سببًا في حصول المدعو به؛ فإذا اعتقد العبد أن توكله لم ينصبه الله سببًا ولا جعل دعاءه سببًا لنيل شيء؛ فإن المتوكل فيه المدعو بحصوله: إن كان قد قُدِّر حصل توكل أو لم يتوكل، دعا أو لم يدع.
وإن لم يقدر لم يحصل؛ توكل أيضًا أو ترك التوكل..
وصرح هؤلاء- أي نفاة التوكل- أن التوكل والدعاء عبودية محضة لا فائدة لهما إلا ذلك، ولو ترك العبد التوكل والدعاء ما فاته شيء مما قدر له..
وهذا خطأ منهم؛ والصحيح الواقع هو أن يكون الله تعالى قضى بحصول الشيء عند حصول سببه من التوكل والدعاء، فنصب الدعاء والتوكل سببين لحصول المطلوب، وقضى الله بحصوله إذا فعل العبد سببه، فإذا لم يأت بالسبب امتنع المسبب.
وهذا كما قضى بحصول الولد إذا جامع الرجل من يحبلها، فإذا لم يجامع لم يخلق الولد، وقضى بحصول الشبع إذا أكل، والري إذا شرب، فإذا لم يفعل لم يشبع ولم يرو..
وقضى بدخول الجنة إذا أسلم، وأتى بالأعمال الصالحة؛ فإذا ترك الإسلام ولم يعمل الصالحات لم يدخلها أبدًا..
فالتوكل من أعظم الأسباب التي يحصل بها المطلوب، ويندفع بها المكروه؛ فمن أنكر الأسباب لم يستقم منه التوكل، ولكن من تمام التوكل عدم الركون إلى الأسباب وقطع علاقة القلب بها فيكون حال قلبه قيامه بالله لا بها وحال بدنه قيامه بها) [13].
ويا ليت الدعاة إلى الله تعالى يشرحون للناس معنى التوكل وأهمية الأخذ بأسباب الهداية وأسباب الرقي، وحقيقة التوكل؛ لأن كثيرًا من المسلمين تركوا الأسباب واعتمدوا على غيرهم في طعامهم وركوبهم وحمايتهم، وركنوا إلى الدعة والكسل حتى صاروا في مؤخرة الركب وأذل الأمم وأضعفها.
إن حقيقة التوكل تبدأ بمعرفة الرب سبحانه وصفاته، وأنه القادر الكافي الحسيب الذي بيده كل شيء وإليه المرجع في كل شيء، وما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن؛ (فكل من كان بالله وصفاته أعلم وأعرف، كان توكله أصح وأقوى، وأن حقيقة التوكل: توحيد القلب؛ وعلى قدر تجريد التوحيد، تكون صحة التوكل، فإن العبد متى التفت إلى غير الله أخذ ذلك الالتفات شعبة من شعب قلبه، فنقص من توكله على الله بقدر ذهاب تلك الشعبة..) [14]
ومن هنا كان على الدعاة- بعد تعريف الناس بربهم وشرح حقيقة التوكل- أن يوجهوا الناس إلى التخصص في فروع العلم والمعرفة كالعلوم الذرية والنووية والفلك والرياضيات، والدخول في سباق المعلومات ودنيا الاتصالات، وهذا ما أمرنا به ديننا: قال تعالى: ﴿ ..وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا * فَأَتْبَعَ سَبَبًا ﴾ [15].
بيد أن بعض المسلمين في هذا الزمان يفهمون التوكل ويتعاملون مع الأسباب بمعيار مزدوج وتناقض في الأفعال والأقوال؛ ففي حال المرض يسارع الناس إلى الطبيب وتعاطي الدواء من أجل الشفاء ودفع ضرر المرض؛ وهذا طيب لا بأس به لأنهم أخذوا بالأسباب ولم يستسلموا للمرض والألم..
وفي حال الجوع- أيضًا- يبادرون إلى الطعام بلا تأخير ولا كسل ويجتهدون في ذلك حسب ما تسمح به الحالة الاقتصادية لتحقيق أقصى حالات الشبع وملئ البطون، وكل ذلك برضى وارتياح، ولا تقصير أو إهمال، أما حينما يكون الأمر خاصًا بالدين ورفعة شأن المسلمين، وفي حال تسلط الأعداء على بلاد المسلمين والذلة والانكسار فلسان الحال والمقال هو ترك الأمر لله ينصر دينه، وتوكيل الأمر إليه في الانتقام من أعداء الإسلام، وترك الأخذ بأسباب العزة والنصر والتمكين، وإهمال سنة المدافعة والاستسلام للذابح فحلت بهم الهزائم والنكبات.
من الخطأ في الفهم والتصور أن يعتمد المسلمون على مجرد أنهم مسلمون وأن الله سينصرهم من غير أن يعدوا عدة أو يأخذوا بأسباب النصر، ويكتفوا بالدعاء وهم في بيوتهم أو في مساجدهم، لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل المتوكلين على الله، وكان يلبس لامة الحرب ويحرض المؤمنين على القتال، ويتجهز بما استطاع من قوة ومن رباط الخيل ليرهب أعداء الله، ثم يضع الخطط، ويستشير أصحابه، ثم يجأر إلى الله تعالى بالدعاء، ويطلب منه سبحانه وتعالى النصر والتأييد.
أما في أمر القضاء والقدر فكذلك الخلل في الفهم والتناقض في الأفعال، فإذا أصاب أحدهم وجع فإنه لا يسكت ويهرع إلى إزالته بكافة الوسائل والأسباب، وإذا جاع فإنه لا يألوا جهدًا ولا يهدأ حتى يأكل ويشرب ويمتلئ، وفي الحالتين فإنه لا يعلن الرضى والسكوت والاستسلام للوجع أو للجوع، بل يسعى جاهدًا لتحسين حاله والحفاظ على صحته لأن ذلك يخص نفسه، أما فيما يخص دينه فإن الأمر يختلف، والموقف يتراجع وتتردد عبارات مثل: "اترك الأمر لله"، "هذا قدرنا"، "الله قادر أن يغير"، "سينصر الله دينه"، "ماذا نملك وماذا نفعل"؛ وكلها عبارات استسلام وانهزام تدل على ما وصل إليه المسلمون من تخلف في فهم الدين ومسايرة الأحداث، فليسوا فاعلين ولا مؤثرين بل تابعين وخاضعين حتى صاروا كالجسد الميت أو المخدر وقد أصيبوا بفقدان الوعي والذاكرة، فالصواب في مسألة القدر هو دفع القدر بالقدر؛ أي منازعة أقدار الحق بالحق للحق، والرجل من يكون منازعًا للقدر، لا من يكون مستسلمًا مع القدر؛ يقول ابن القيم في مسألة دفع القدر بالقدر؛ (وراكب هذا البحر في سفينة الأمر، وظيفته: مصادمة أمواج القدر، ومعارضتها بعضها ببعض، وإلا هلك.
فيرد القدر بالقدر.
وهذا سير أرباب العزائم من العارفين..
ولا تتم مصالح العباد في معاشهم إلا بدفع الأقدار بعضها ببعض فكيف في معادهم؟.
والله تعالى أمر أن تدفع السيئة- وهي قدره- بالحسنة- وهي من قدره- وكذلك الجوع من قدره، وأمر بدفعه بالأكل الذي هو من قدره، ولو استسلم العبد لقدر الجوع مع قدرته على دفعه بقدر الأكل حتى مات: مات عاصيًا.
وكذلك البرد والحر والعطش كلها من أقدار الله، وأمر سبحانه بدفعها بأقدار تضادها، والدافع والمدفوع والدفع من قدره..
وإذا طرق العدو من الكفار بلد الإسلام طرقوه بقدر الله.
أفيحل للمسلمين الاستسلام للقدر، وترك دفعه بقدر مثله، وهو الجهاد الذي يدفعون به قدر الله بقدره؟..
وكذلك المعصية إذا قدرت عليك، وفعلتها بالقدر فادفع موجبها بالتوبة النصوح.
وهي من القدر) [16]؛ فلا يجوز إذن الاستسلام للقدر ولا الاحتجاج به تبريرًا للعجز والكسل بل منازعة ذلك ودفعه ومقاومته بما قدر الله من أسباب.
[1] شرح أسماء الله الحسنى- أبي حامد الغزالي، دار الكتب العلمية، بيروت، ص 99.
[2] مختار الصحاح.
[3] جامع العلوم والحكم، ص 547.
[4] سورة العنكبوت (16-17).
[5] سورة آل عمران (173-174).
[6] تفسير ابن كثير، ج2، ص 318.
[7] سورة الأنفال (49).
[8] سورة آل عمران (159).
[9] سورة النساء (71).
[10] سورة الأنفال (60).
[11] سورة الجمعة (10).
[12] جامع العلوم والحكم، ص548.
[13] مدارج السالكين، ابن القيم، ج1، ص 225، 226.
[14] المرجع السابق، ص 526.
[15] سورة الكهف (85).
[16] مدارج السالكين، ج1، ص 179.