فإنك بأعيننا
مدة
قراءة المادة :
13 دقائق
.
فإنك بأعيننا أبلغُ وأجملُ وأقوى وألطفُ عبارةٍ في الحفظ ﴿ فإنَّك بأعيننا ﴾، وقد خاطبَ اللهُ بها حبيبَه صلى الله عليه وسلم، فكانَت على قلبهِ بردًا وسلامًا، وهي عينُ التأييدِ والنصرِ والحمايةِ، والإسعادِ واللطفِ والاصطفاءِ والحُب، وليت شعري كيف هي مشاعرُ الحبيبِ صلى الله عليه وسلم بعد أن أنزلتْ عليهِ؟
كيف هي قُرَّةُ عينِه يومها؟
وكيفَ هي سعادةُ قلبه، وانشراح صدره، وطمأنينةُ نفسه؟
إن نوحًا عليه السلام وصفَ اللهُ سفينتَه التي تجري على أمواجٍ كالجبال بقوله: ﴿ تَجري بِأعينِنا ﴾، وموسى عليه السلام يقول الله عز وجل عنه: ﴿ ولِتُصنعَ على عَيني ﴾، وأما خطابُ الله عز وجل لحبيبه صلى الله عليه وسلم: ﴿ فإنَّك بِأعُيننِا ﴾، وهي أقوى وألطف، فمن في داخلِ العين ليس كمن على مرآها..
ومفادُها أنتَ في حمايتنا ونصرتنا وتحتَ رعايتِنا وحفظِنا وحراستنا، وعلى مرأى ومنظرٍ منا، نسمع ما يقوله أعداؤك، ونرقُب تحركاتهم، ولن يصلَ إليك أحدٌ منهم، ولن يضرك مخلوقٌ بسوء، فما عليك إلا أن تعيش قريرَ العين مطمئنَّ النفس هادئَ البال، فمن يكُنِ الله حافظه فليمتلئ قلبهُ سعادةً غامِرة، ومن مِثله في الدنيا...
يا لَه من خطابٍ يأخذ بالألباب، ويشوِّق القلوب ويهزُّ الأرواح، ويُدخِل إليها السكينة والطُّمأنينة والرضا، وقد قـال ابـن عطـية رحـمه الله في تفسيرهِ لها عبارة فخمة راقية، فكأنه اختصر ألف قصة ونظم ألف مشهد، واختزلَ ألف كتاب، قال وهو يتأمل إشراقة هذه الآية: "هـذه الآيـة ينبـغي أن يقـرِّرها كـل مـؤمن فـي نفسـه؛ فإنهـا تُفـسِح لـه مـضايق الـدنيا".
نعم تفسح مضايق الدنيا وتوسعها، وتملأ حياتك أمنًا وسكينة واطمئنانًا، ومن كان مع الله وجد الله قريبًا منه يحوطه بعنايته وحفظه..
﴿ فإنّك بأعيننا ﴾؛ تعني أنَّه لن يحاصرك الخوفَ إذا ما كنتَ في عناية اللهِ وعينه، ولن يسيطر عليك الهمُّ، بل ستجد فرجًا ومخرجًا من كلِّ أزمة تمرُّ بها؛ لأنك تعيش في ألطافِ اللهِ..
إن عناية اللهِ شَقَّت لموسى البَحر، وأَخرَجَت يونس مِن بطنِ الحوت، وبَرَّدَت النارَ على إبراهيم، وحفظت رسولنا في الغار، وهي متاحةٌ لكل مَن تعلق بها، وتأمَّل معي يوسف عليه السلام وهم يتعاملون معه كبضاعةٍ؛ إذ يقولُ الله تعالى عنه: (وَأَسَرُّوهُ بِضَـاعَةً)، ظنوه بضاعة وهو نبي كريمٌ، وما هو ببضاعةٍ وإنما تلك عناية اللهِ تدثِّره وتحوطه؛ إذ هو يصنعُ في عينِ اللهِ ليتوَّج بملك مصر..
وحتى تعرف هذا المعنى جيدا تخيَّل لو أن الخوف يحاصرك من كل مكان، وفجأة تجد عظيم بلدك أو رئيسه يقول لك: "أنت في عيني"، ويوجِّه بحراستك وإغداق نِعمه عليك، تُرى كم ستفرح بهذه الكلمة بل كم ستطيرُ فرحًا عند سماعها..؟
إن الدنيا بوسعها لن تَسَعك، سترى كل شيء يهشُّ في وجهك ويبشُّ، ستسعد سعادةً غامرة، بل كل ما حولك سيتقرَّب منك، ويودُّ أن لو يخدمك بسبب قربك من فلانٍ، ستتبَدَّد مخاوفُك، وتنتهي أحزانُك، ويزول قلقُك، وينزاح همك، وينجابُ غمُّك، وتعيش آمنا مطمئنًّا..
لَم ييأس زكرِيَّا رغم كبر سنِّه وشيب رأسه، ولقد كانت امرأته عاقِرًا، فلا سبب معهُ، ورغم ذلك طَلب الوَلد؛ لأن من يتعلَّق باللهِ يمضي في ديناهُ راجيًا كلَّ الخيرِ من ربِّه، ولأنه يستشعر: ﴿ فإنَّك بأعينِنا ﴾، فسيجد المرغوب وينجو من المرهوب..
ذكر ابنُ كثيرٍ في تفسيرِه أثرًا قدسيًّا يملأ قلبك شعورًا بجلال أن تكون في عين الله: «وعزتي وجلالي ما اعتصم بي عبدٌ، فكادتْ له السماواتُ والأرضُ، إلا جعلتُ له منْ بينِها فرجًا ومخرجًا، وعزَّتي وجلالي ما اعتصم عبدي بغيري إلا أسخْتُ الأرض من تحتِ قدميْهِ».
جرَّب أن تقرأ قبل إشراقة كل شمس من قلبك ثلاثًا: "رضيت بالله ربًّا وبالإسلام دينًا، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيًّا ورسولًا"، وعش عمق هذا الرضا معي، وثِقْ أن الله سيُرضيك إن عشتَ يومك راضيًا عنهُ وبهِ، ولن يخذلك أو يَكِلك إلى أحدٍ سواهُ..
التَّائهون في البيداء، الشاكون من حرارة اللهب في الرمضاء، الواقفون الساعات على الأرصفة، المتسكِّعون في الشوارع، الساهرون على الشاشات، المتنقِّلون من موقع إلى موقع، الفارغون الذين يقتلهم الفراغ، المتذمِّرون من الأوضاع، الباحثون عن وظائف، المُهدرون حياتهم في الغُثاء، ما قيمة أن تمضي الحياة في بُعدٍ عن اللهِ؟
الحياة قصيرةٌ جدًّا لا تساوي لحظةً من لحظاتِ الخلودِ، فلماذا نُبدِّدها في التفاهة؟
نتصارعُ على الدنيا ومناصبها وزخرفها، ونقتَتِل عليها، واللهُ يدعونا إلى رحابه الواسعة، وجنانه الفسيحة..
إنَّ من يجعل حياته وقفًا لله لا يَضلُّ ولا يشقى، ولا يبتئس، بل يتقلَّب في كرم الله ورضوانهِ، في هذه الدنيا كثير من الناس يلاحقهم الشقاء، ويحاصرهم العناء، لكن إن كنتَ في عينِ الله أراحك من كلِّ همٍّ وَلِأَنَّ هذه الدُّنيا أَحيَانًا تَأْتِي بما لا يسر، كنْ قريبًا منهُ ليرضيك، فإن اقتربتَ منه أتراه يكلك إلى سواهُ، إنه المُعطي الكريم الذي يجزي بالحسنة عشرًا، فإن أنت بذلتَ وأعطيتَ وقدَّمت ابتغاءَ مرضاته، فأبشر بكرمه ونواله، ولن يحاصرك الجدبُ؛ لأنك تحت رعايتهِ، وقد قيل: "ما افتقرَ كريمٌ"، فكيف إن كان هذا الكريم يعامِل الله أكرم الكرماء؟
كان هناك في منطقة من المناطق سبع عشرة مزرعة، كلها فيها آبار، يأتي الرعاة دومًا بأغنامهم إلى هذه المزارع، فتكون النتيجة الطردُ إلا مزرعة واحدة تستقبلهم، وتسمح لهؤلاء الرعاة بسقي أغنامهم منها، بل إن صاحب هذه المزرعة فعل أكبر من ذلك، إذ أقام جدولًا طويلًا للشرب ويملأه بالماء، وتقف الأغنام إلى جانب بعضها للشرب في منظر جميلٍ، أقسَمَ بالله من حدَّث بالقصة وصاحبُ المزرعة قريبٌ له، أنه ما مرَّ إلا عام فقط حتى جفَّت آبار هذه المزارع كلها، إلا هذه المزرعة ما تأثَّرت آبارها ولا نقص منها شيء.
من تعاملَ مع اللهِ على أنَّه الكريم أرحم الرُّحماء، وجد من اللهِ الرعاية والتوفيق والبركة في حياته، ولن يخسر لأن عناية الله تحوطه..
ومن كان في عناية الله، وجد التكريم من اللهِ، وإن طارده البَشَر، فالرسول صلى الله عليه وسلم ضاقت عليه مكة، ففتحَ اللهُ له المدينة، فقد تضيقُ عليكَ بلادٌ، ويلاحقُك أهلها ويبالغون في جفائك، ويهيئ اللهُ لكَ موطنًا آخر يجعلُك أهلُه في حدقاتِ عيونهم، سمعتُ قصةً من أحد العلماء الثقات يتحدَّث عن شيخ جليلٍ يعرفه من علماء طرابلس الشام، كانَ يسكنُ في بيتِ أجرةٍ، ويبدو أن صاحب البيت أراد أن يُخرجه من البيت والقانون معه، فأقام عليه دعوى واستحقَّ الحكم، والعالِم ليس له بيت وهو رجل تقي صاحب عيال متكفِّف، فأحد كبار أغنياء طرابلس رأى في المنام رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له اِشترِ لفلان بيتًا، فما صدَّق وهو يبحث عنه حتى وجده، فقال له انتقِ أي بيت واشتراه له...
فيا سائرًا إلى الله ليهديكَ لا تبتئس من موحشاتِ الطريقِ، واعلم أن ما تعسَّر سيسهُل، وما ابتعَد سيقرُب، وما ارتَفع سيدنو وسيحلو لكَ القطاف واقرأ على قلبك:
﴿ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ ﴾ [لقمان: 16].
اعلَم أنَّ الله يعلمُ سرَّك وجهرك، ظاهرَك وباطنك وهو محيطٌ بك ويعلمُ عنك أكثرَ مما تعلمه أنتَ عن نفسِك، إنه يعلم خطرات فؤادك، وهمساتِ قلبِك، وما تحتويهِ مشاعرك، فاطرُد الأسى من عينيك، والحزن من قلبك، وانفُض غبارَ الإحباط الذي يحاصر جهاتك الست، فما أخلص عبد للهِ وردَّه، ولا تعلق به صابرٌ فصدَّه، ثقْ بكرمِ الذي لو طلبته نجمةً أعطاك نجومَ سمائك، وقطرةً لأعطاكَ أنهارَ أرضك تذكر جمال عنايته يهن عليكَ طولَ السرى..
يتعافَى قَلبُك عندما تُوقن أنَّ البَّلاء ما جاء إلَّا لأجلِ أن تدخل ضمن لواءِ الصابرين، وأنَّ اللّه يبتلي الناس على قدر إيمانهم، وأن هذه الدنيا ما هي إلا ساعة في زمن الخلودِ الأبدي، ثم يكونُ التكريمُ الأوفى لمن صبر، ثم إن هذا البلاء ما يدريك أنهُ كتب لك بهِ الفردوس، وتأخر إجابتك ما يدريك أنه يُنسج لك بها قدرًا جميلًا ما خطر على بالك.
ثِق أنَّ في مَكمَن الخوفِ لُطفًا مؤنسًا سيغمُرُ قلبك جبرًا، وأنَّ الدُّعاء سيمحو أساك، ويزيل شجاك، وأنَّ ما أعجزَك ووقف عقبةً في طريقكَ على اللّه هيِّن، ويوما ستسعد بإجابة إنَّا نُبشِّرُك.
في بطنِ الحوتِ كان هناك أملٌ عند يونس؛ لأن من كانَ في عينِ اللهِ لا يهلِك، فأمرَ اللهُ الحوتَ أن يلفظه، فخرجَ من بطنِ الحوتِ مُجهدًا مُتعبًا سقيمًا، لا يقوى على الحِراك، وليسَ بهِ طاقةٌ في أن يذهب بعيدًا للبحثِ عن طعامٍ ولباسٍ، فأنبتَ عليهِ شجرةً اليقطين يأكلُ منها ويلبس، وهيَّأ له بعدَ ذلكَ استقبالًا فخمًا وتَرحابًا وبِشرًا من مائة ألف أو يزيدون..
الله يُربِّيك بالبلاء ليهذِّبك، وتعود أصفى من ذي قبل..
ما دمتَ مع اللهِ فأنت في عنايته، وحاجتك ستُقضى من خزائنهِ، وهو بكَ عليمٌ، ومعك ودود لطيفٌ رحيمٌ فطمئن قَلبك، وأرِح بالك، والوصولُ إلى عنايتهِ أن يكون حبُّه هو وحده المستولي على قلبِك وإرادتك وعزيمتك.
من يطلب العيش تحت عناية الله، تَراه نشيطًا في يومه، عاكفًا على حياةِ قَلبه، لا يُزاحم أهلَ الدنيا، همُّه الله والدار الآخرةُ، يصنع لنفسهِ حصونًا، يواجه بها عواصف الشيطان إذا تسوَّر عليه المِحـراب!
ما تقترفه يداك هو بابُ الشيطانِ لملاحقتكَ ألم تقرأ ﴿ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا ﴾ [آل عمران: 155]، ومن احتوشه الشيطانُ لم يحظَ بعناية الرحمن، وكان مآلُه ﴿ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ ﴾ [البقرة: 166]، واعلم أنَّ حظَّك من النجاة على قَدر حظِّك من الرعاية لنَفسك والارتقاء بها في سُلَّم الطائعين الذين ولجوا البابَ على الله، فزادتهم العبادة اجتماعًا على الله وقربًا منه، فاجتباهم واصطفاهم، وإنَّ كلَّ مَن استَجدى السواقي مِن غيرِ العنايةِ الإلهية ذوَت غصونُ قلبهِ، وتصحَّرت رياضُ روحهِ، ومن تحمَّل المشَقَّة في التدقيق، صار من أهل العنايةِ والتوفيقِ، وما يَدفعُ عَوائق الحِرمان عن الوصول؛ مثل كثرةِ الابتهال بالقبول..
إذا انهارت الأجسادُ وتشظَّت القلوب، وتفتَّتت الأكباد من حوادث الدهرِ ومصائب الدنيا، وتقلبات الأيامِ، لا ترى ذلك المحفوظ في عين الله إلا مُنشرحًا كأنَّه مَـن قيل لـه: ﴿ أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ ﴾ [الشرح: 1].
إنهم يتقلبون في رياضِ النعيم، ولا نعيمَ أجمل من نعيمِ القلبِ، ثم في الآخرة فلا تعلمَ نفسٌ: ﴿ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ ﴾ [السجدة: 17].
لو أجدَبتِ الدروبُ على القوم، فدربُهم تغشاهُ الغيوث، ولو أظلمتِ الطُّرق في وجوهِ السالكين، لرأيت الشعاع يلاحقهم، أَتُراك مُفَوِضًا له مُستعينًا به متوكلًا عليهِ عظيمَ الثقة به..؟
كُل ساعاتِ العتابِ في المحرابِ، إنَّما هي أسبابٌ تُرقِّيك للحصولِ على الرعاية، وَمن جاهد نفسه اسَتحقَّ ﴿ مَقعد صِدق ﴾، ومن وهَب للهِ قَلبه وهبَه الله عَونه..
أيُّ سكينةٍ يريد أن يثبِّتك الله بها وهو يحفُّك بسلامهِ كلما صلَّيت له وسجدت، وأي حماية يريد أن يدثِّرك بها وهو يقول لك: ﴿ لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ ﴾ [الرعد: 11].
أجمل ما في الوجودِ أن اللّه يَسمعُك، فصوتك ليس مَحجوبًا عنهُ، وأنَّه يراك قريب منك مطلعٌ على حالِك فاثبُت لتزف لَك البشرى وردِّد ﴿ فإنَّكَ بأعيُنِنا ﴾.
﴿ فإنَّكَ بأعيُنِنا ﴾، أجملُ عبارةٍ يمكن أن تُردِّدها إذا ما صبَرت واحتَسبت وابتهَلت، وسلَّمت قلبك للهِ، فهي سلوةٌ لك من الأحزان، وهي مرهمٌ لك على الأوجاع، وهيَ شهدٌ مُصفًّى على لسانك، وزادٌ عظيم في رحلةِ الحياةِ إلى علام الغيوب، وهي قوة لا تُضاهى عند نزولِ الكروبِ؛ لأنك تستشعر أنك في حفظ من لا يغفل ولا ينام، الحي القيوم الذي يُصرِّف أمورَ الكون ويسير سفينة الحياة وبيده الأمر كله..