تفسير قوله تعالى: يوم يكشف عن ساق
مدة
قراءة المادة :
13 دقائق
.
تفسير قوله تعالى:﴿ يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ ﴾ [القلم: 42]
أي: اذكر يوم القيامة حين تظهر الشدائد، وتبدو الحقائق.
يُنظر: [(تفسير ابن جرير) (23/ 186)، (تفسير السمعاني) (6/ 28)، (تفسير ابن كثير) (8/ 198، 199)، (تفسير ابن عادل) (7/ 134)، (تفسير الألوسي) (15/ 39)، (تفسير ابن عاشور) (29/ 97، 98)].
قال ابن قتيبة رحمه الله: "من الاستعارة في كتاب الله قوله عز وجل: ﴿ يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ ﴾؛ أي: عن شدة من الأمر...
وأصل هذا: أن الرجل إذا وقع في أمر عظيم يحتاج إلى معاناته والجد فيه - شمَّر عن ساقه، فاستعيرت الساق في موضع الشدة"؛ [(تأويل مشكل القرآن) (ص: 89)، ويُنظر: (معاني القرآن) للزجاج (5/ 210)].
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "جميع ما في القرآن من آيات الصفات، فليس عن الصحابة اختلاف في تأويلها...
إلا في مثل قوله تعالى: ﴿ يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ ﴾، فروي عن ابن عباس وطائفة أن المراد به: الشدة، أن الله يكشف عن الشدة في الآخرة، وعن أبي سعيد وطائفة أنهم عدُّوها في الصفات؛ للحديث الذي رواه أبو سعيد في الصحيحين، ولا ريب أن ظاهر القرآن لا يدل على أن هذه من الصفات، فإنه قال: ﴿ يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ ﴾ نكرة في الإثبات لم يضفها إلى الله، ولم يقل: عن ساقه، فمع عدم التعريف بالإضافة، لا يظهر أنه من الصفات إلا بدليل آخر، ومثل هذا ليس بتأويل، إنما التأويل صرف الآية عن مدلولها ومفهومها ومعناها المعروف"؛ [(مجموع الفتاوى)، (6/ 394، 395)].
وقد رجح ابن تيمية وابن القيم أن هذه الآية من آيات الصفات؛ للحديث المذكور، ولسياق الآية ومعناها؛ [يُنظر: (بيان تلبيس الجهمية) لابن تيمية (5/ 473، 474)، (الصواعق المرسلة) لابن القيم (1/ 252، 253)].
وكذلك رجح أن هذه الآية من آيات الصفات الشوكاني؛ قال رحمه الله في تفسيره: "قد أغنانا الله سبحانه في تفسير هذه الآية بما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما عرفت، وذلك لا يستلزم تجسيمًا ولا تشبيهًا، فليس كمثله شيء"؛ [(فتح القدير) (5/ 331، 332)].
وجمع السعدي رحمه الله بين القولين فقال: "أي: إذا كان يوم القيامة، وانكشف فيه من القلاقل والزلازل والأهوال ما لا يدخل تحت الوهم، وأتى الباري لفصل القضاء بين عباده ومجازاتهم، فكشف عن ساقه الكريمة التي لا يشبهها شيء"؛ [(تفسير السعدي) (ص: 881)].
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: "يحتمل أن يراد بذلك ساق الله، ويحتمل أن يراد بالساق الشدة، وقد قال السلف بهذين القولين"؛ [(شرح العقيدة السفارينية) (1/ 262)].
أحاديث وآثار تتعلق بتفسير الآية:
1- عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((يكشف ربنا عن ساقه، فيسجد له كل مؤمن ومؤمنة، فيبقى كل من كان يسجد في الدنيا رياء وسمعة، فيذهب ليسجد، فيعود ظهره طبقًا واحدًا))؛ [رواه البخاري (4919) واللفظ له، ومسلم (183)].
فائدة: ورد هذا الحديث من طريق زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري، واختلف أصحاب زيد بن أسلم في رواية كلمة الساق، فرواه عنه سعيد بن أبي هلال بلفظ: ((ساقه))، ورواه عنه حفص بن ميسرة، وعبدالرحمن بن إسحاق، وهشام بن سعد، وخارجة بن مصعب الضبعي بلفظ: ((ساق))، ورواية سعيد بن أبي هلال في صحيح البخاري (4919)، ورواية حفص بن ميسرة في صحيح مسلم (183)، ورواية عبدالرحمن بن إسحاق في مسند أحمد (11127)، ورواية هشام بن سعد في المستدرك للحاكم (8736)، ورواية خارجة بن مصعب الضبعي في مسند الطيالسي (2293)، فأكثر الرواة رووا هذا الحديث بلفظ: ((ساق))، فهي الأصح كما قال الإسماعيلي والألباني؛ [يُنظر: (فتح الباري) لابن حجر (8/ 664)، (سلسلة الأحاديث الصحيحة) للألباني (2/ 127، 128)].
قال الألباني رحمه الله: "لا يلزم من إثبات ما أثبته الله لنفسه من الصفات شيء من التشبيه أصلًا، كما لا يلزم من إثبات ذاته تعالى التشبيه، فكما أن ذاته تعالى لا تشبه الذوات، وهي حق ثابت، فكذلك صفاته تعالى لا تشبه الصفات، وهي أيضًا حقائق ثابتة تتناسب مع جلال الله وعظمته وتنزيهه، فلا محذور من نسبة الساق إلى الله تعالى إذا ثبت ذلك في الشرع، وأنا وإن كنت أرى من حيث الرواية أن لفظ: ((ساق)) أصح من لفظ: ((ساقه))، فإنه لا فرق بينهما عندي من حيث الدراية؛ لأن سياق الحديث يدل على أن المعنى هو ساق الله تبارك وتعالى...
فالظاهر أن سعيد بن أبي هلال كان يرويه تارة بالمعنى حين كان يقول: ((عن ساقه))، ولا بأس عليه من ذلك ما دام أنه أصاب الحق"؛ [(سلسلة الأحاديث الصحيحة) (2/ 128)].
2- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((...
فيكشف لهم عن ساقه فيقعون سجودًا، فذلك قول الله تعالى: ﴿ يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ ﴾، يبقى كل منافق فلا يستطيع أن يسجد))؛ [رواه الدارمي (2845) بإسناد حسن بهذا اللفظ، ورواه ابن أبي عاصم في كتاب السنة (732) بلفظ: ((عن ساق))، فقد اختلف في هذه اللفظة: محمد بن يزيد البزاز شيخ الدارمي، ومحمد بن عبدالله بن نمير شيخ ابن أبي عاصم، فرواه البزاز بلفظ: ((ساقه))، ورواه ابن نمير بلفظ: ((ساق))، وكلاهما رويا الحديث عن يونس بن بكير قال: حدثنا محمد بن إسحاق، قال: حدثني سعيد بن يسار، قال: سمعت أبا هريرة به].
3- عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: "يكشف عن ساقه، فيسجد كل مؤمن، ويقسو ظهر الكافر فيصير عظمًا واحدًا"؛ [رواه البيهقي في (الأسماء والصفات) (750) بهذا اللفظ، ورواه ابن منده في (الرد على الجهمية) (3) بلفظ: "عن ساقيه"، ورواه محمد بن نصر المروزي في (تعظيم قدر الصلاة) (282) بلفظ: "عن ساق"].
4- عن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما في قوله: ﴿ يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ ﴾ قال: "هو الأمر الشديد المفظع من الهول يوم القيامة"؛ [رواه ابن جرير في تفسيره (23/ 188)].
5- عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سُئل عن قوله عز وجل: ﴿ يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ ﴾، قال: "إذا خفي عليكم شيء من القرآن فابتغوه في الشعر؛ فإنه ديوان العرب، أما سمعتم قول الشاعر:
اصبر عناق إنه شر باق
قد سنَّ قومك ضرب الأعناق
وقامت الحرب بنا عن ساق
قال ابن عباس: هذا يوم كرب وشدة"؛ [رواه الحاكم في المستدرك (3845) وصححه، ووافقه الذهبي].
6- عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قرأ: ﴿ يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ ﴾، قال: "يريد القيامة والساعة لشدتها"؛ [رواه الفراء في (معاني القرآن) (3/ 177)، ومن طريقه البيهقي في (الأسماء والصفات) (748)، ورجال إسناده ثقات مشهورون].
7- عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: ﴿ يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ ﴾ قال: "عن بلاء عظيم"؛ [رواه اللالكائي في (شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة) (724)].
8- عن سعيد بن جبير رحمه الله أنه سُئل عن قوله: ﴿ يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ ﴾ فغضب غضبًا شديدًا وقال: "إن أقوامًا يزعمون أن الله يكشف عن ساقه، وإنما يُكشف عن الأمر الشديد"؛ [رواه عبد بن حميد وابن المنذر، كما في (الدر المنثور) للسيوطي (8/ 255)].
9- عن مجاهد بن جبر رحمه الله في قوله: ﴿ يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ ﴾ قال: "شدة الأمر"، قال ابن عباس: "هي أشد ساعة تكون في يوم القيامة"؛ [رواه ابن جرير في تفسيره (23/ 188)].
10- عن قتادة السدوسي رحمه الله في قوله: ﴿ يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ ﴾ قال: "عن أمر فظيع جليل"؛ [رواه ابن جرير في تفسيره (23/ 188)].
تنبيه مهم: قال العلامة ابن عثيمين رحمه الله: "مسائل العقيدة ليست كلها مما لا بد فيه من اليقين؛ لأن اليقين أو الظن حسب تجاذب الأدلة، وتجاذب الأدلة حسب فهم الإنسان وعلمه...
ولهذا لا يمكن أن نقول: إن جميع مسائل العقيدة مما يتعين فيه الجزم، ومما لا خلاف فيه؛ لأن الواقع خلاف ذلك، ففي مسائل العقيدة ما فيه خلاف، وفي مسائل العقيدة ما لا يستطيع الإنسان أن يجزم به، لكن يترجح عنده، إذًا هذه الكلمة التي نسمعها بأن مسائل العقيدة لا خلاف فيها، ليس على إطلاقها؛ لأن الواقع يخالف ذلك...
فليس كل مسائل العقيدة مما يجزم فيه الإنسان جزمًا لا احتمال فيه، فهناك بعض المسائل - أحاديث أو آيات - قد يشك الإنسان فيها؛ كقوله تعالى: ﴿ يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ ﴾ هذه من مسائل العقيدة، وقد اختلف فيها السلف؛ هل المراد ساقه عز وجل أو المراد الشدة؟"؛ [(شرح العقيدة السفارينية) (1/ 309)].