وعجبوا أن جاءهم منذر منهم وقال الكافرون هذا ساحر كذاب
مدة
قراءة المادة :
12 دقائق
.
الدفاع عن النبي صلى الله عليه وسلم في سورة ص (1)﴿ وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذابٌ ﴾
قال الله تعالى: ﴿ وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذابٌ * أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِن هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ * وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِن هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ * مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلا اخْتِلَاقٌ ﴾ [ص: 4 - 7].
أولًا: سبب نزولها: ذكر المفسرون في سبب نزول هذه الآيات روايات؛ منها: أن جماعة من قريش اجتمعوا في نفر من مشيخة قريش، فقال بعضهم لبعض: انطلقوا بنا إلى أبي طالب لنكلمه في شأن ابن أخيه، فلما دخلوا على أبي طالب قالوا له: أنت كبيرنا وسيدنا، فأنصفنا من ابن أخيك، فمُرْه فليكف عن شتم آلهتنا، وندعه وإلهه، فقال أبو طالب للنبي صلى الله عليه وسلم يا بن أخي، هؤلاء مشيخة قريش، وقد سألوك أن تكف عن شتم آلهتهم ويدعوك وإلهك، فقال صلى الله عليه وسلم: (يا عم، أفلا أدعوهم إلى ما هو خير لهم؟)، قال: وإلامَ تدعوهم؟ قال: (أدعوهم أن يتكلموا بكلمة تدين لهم بها العرب، ويملكون بها العجم)، فقال أبو جهل من بين القوم: ما هي وأبيك؟ لنعطينَّها لك وعشرة أمثالها، فقال صلى الله عليه وسلم: (تقولون: لا إله إلا الله)، فنفر أبو جهل، وقال: سلنا غير هذا؟ فقال صلى الله عليه وسلم: (لو جئتموني بالشمس حتى تضعوها في يدي، ما سألتكم غيرها)، فقاموا غضابًا..
فنزلت هذه الآيات، وفي رواية جاء في آخرها: (فقال النبي صلى الله عليه وسلم: قولوا لا إله إلا الله، فنفَروا من ذلك وقاموا، فقالوا: أجعل الآلهة إلهًا واحدًا، فكيف يسع الخلق كلهم إله واحد، فأنزل الله فيهم هذه الآيات إلى قوله: ﴿ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ ﴾ [ص: 12]؛ ذكرها القرطبي.
ثانيًا: تضمَّنت الآية بحسب ما ورد في سبب النزول استنكار المشركين أن يكون للكون إله واحد، والوقوع في السخرية من النبي صلى الله عليه وسلم، واتهامه بأنه ساحر - وحاشاه - حين دعاهم إلى أن يقولوا: لا إله إلا الله.
ثالثًا: جاء دفاع الله تعالى عن نبيه صلى الله عليه وسلم، ووجَّه القرآن سهامه ضد أولئك الملأ من قريش الذين اجتمعوا على الباطل وعلى مهاجمة مَن يدعو إلى التوحيد والصد عن سبيله، وفنَّد هذه التهمة الموجهة إلى النبي صلى الله عليه وسلم واتهامه بأنه ساحر، وذلك بما يأتي:
1- رد على فِريتهم، فقال: ﴿ وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ ﴾ [ص: 4]، ومعنى (وَعَجِبُوا) مأخوذ من العجب، وهو تغير في النفس من أمر لا ترتاح إليه، وتخفى لديها أسبابه؛ أي: وعجب هؤلاء الكافرون من مجيء منذر منهم ينذرهم بسوء عاقبة الشرك، ويأمرهم بعبادة الله تعالى وحده، وَقالَ هؤلاء الْكافِرُونَ عند ما دعاهم الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الدين الحق، ﴿ هذا ساحِرٌ كَذابٌ ﴾؛ أي: قالوا: هذا الرسول "ساحر"؛ لأنه يأتينا بخوارق لم نألفها، و"كذاب" فيما يسنده إلى الله تعالى من أنه سبحانه أرسله إلينا.
2- الحقيقة التي لا تخفى على أحد من أولئك الكفار، وهي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس بساحر، ولكن هذه التهمة سببها كفرهم، وهو الباعث لهم على وصف الرسول صلى الله عليه وسلم بما هو منزه عنه من السحر والكذب، وقال الرازي رحمه الله: اعلم أنه تعالى لما حكى عن الكفار كونَهم في عزة وشقاق، أردفه بشرح كلماتهم الفاسدة فقال: (وعجبوا أن جاءهم منذر منهم)، في قوله: (منهم) وجهان:
الأول: أنهم قالوا: إن محمدًا صلى الله عليه وسلم مساوٍ لنا في الخلقة الظاهرة والأخلاق الباطنة، والنسب والشكل والصورة، فكيف يعقل أن يختص من بيننا بهذا المنصب العالي والدرجات والرفيعة.
والثاني: أن الغرض من هذه الكلمة التنبيه على كمال جهالتهم؛ وذلك لأنه جاءهم رجل يدعوهم إلى التوحيد وتعظيم الملائكة والترغيب في الآخرة، والتنفير عن الدنيا، ثم إن هذا الرجل من أقاربهم يعلمون أنه كان بعيدًا من الكذب والتهمة، وكل ذلك مما يوجب الاعتراف بتصديقه، ثم إن هؤلاء الأقوام يتعجبون من قوله: لا إله إلا الله، ونظيره قوله: ﴿ أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُون ﴾ [المؤمنون: 69].
فقال: ﴿ وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ ﴾، ومعناه أن محمدًا كان من رهطهم وعشيرتهم، وكان مساويًا لهم في الأسباب الدنيوية، فاستنكفوا من الدخول تحت طاعته ومن الانقياد لتكاليفه، وعجبوا أن يختص هو من بينهم برسالة الله، وأن يتميز عنهم بهذه الخاصية الشريفة، وبالجملة فما كان لهذا التعجب سبب إلا الحسد.
3- قال العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى: وقد رد الله تعالى على الكفار عجبهم من إرسال الرسل من البشر في آيات من كتابه؛ كقوله تعالى: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ ﴾ [الفرقان: 20]، وقوله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً ﴾ [الرعد: 38]، وقوله تعالى: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى ﴾ [يوسف: 109]، وقوله تعالى: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ * وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ ﴾ [الأنبياء: 7، 8]، وقوله تعالى: ﴿ قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ﴾ [إبراهيم: 11]؛ أي: بالرسالة والوحي ولو كان بشرًا مثلكم إلى غير ذلك من الآيات.
4- ردَّ الله تعالى على افترائهم على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال تعالى: ﴿ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ ﴾ [ص: 4]، وإنما لم يقل: (وقالوا)، بل قال: (وقال الكافرون)، فوصفهم بالكفر، وهذا الوصف هو عين الرد على اتهامهم إياه صلى الله عليه وسلم بالسحر والكذب، كما أن فيه إظهارًا للتعجب، ودلالة على أن هذا القول لا يصدر إلا عن الكفر التام، فإن الساحر هو الذي يمنع من طاعة الله، ويدعو إلى طاعة الشيطان، وهو صلى الله عليه وسلم عندكم بالعكس من ذلك، والكذاب هو الذي يخبر عن الشيء لا على ما هو عليه، وهو صلى الله عليه وسلم يُخبر عن وجود الصانع القديم الحكيم العليم، وعن الحشر والنشر وسائر الأشياء التي تثبت بدلائل العقول صحتها، فكيف يكون كذابًا؟!
5- حكى الله تعالى حالة صناديد قريش وهم يخرجون من عند النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن رد عليهم بقوله: (لو جئتموني بالشمس حتى تضعوها في يدي، ما سألتكم غيرها)، فقال تعالى: ﴿ وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ ﴾، والمعنى أنه قال بعضهم لبعض امشوا واصبروا، فلا حيلة لكم في دفع أمر محمد صلى الله عليه وسلم: ﴿ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ ﴾ [ص: 6].
6- حكى الله تعالى فرية أخرى من افتراءاتهم بعد خروجهم من ذلك المجلس؛ حيث ادعوا أنهم لم يسمعوا أن أحدًا من السابقين أنكر عبادة الأصنام: ﴿ مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ ﴾ [ص: 7]، والملة الآخرة هي ملة النصارى، فقالوا: إن هذا التوحيد الذي أتى به محمد صلى الله عليه وسلم ما سمعناه في دين النصارى، أو يكون المراد بالملة الآخرة ملة قريش التي أدركوا آباءهم عليها، ثم قالوا: ﴿ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ ﴾، افتعال وكذب، وحاصل الكلام من هذا الوجه أنهم قالوا: نحن ما سمعنا عن أسلافنا القول بالتوحيد، فوجب أن يكون باطلًا.
فائدتان مهمتان:
الأولى: قال في الأضواء: قوله تعالى: وعجبوا أن جاءهم منذر منهم، ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن كفار قريش عجبوا من أجل أن جاءهم رسول منذر منهم، وما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة من عجبهم المذكور، ذكره في غير هذا الموضع وأنكره عليهم، وأوضح تعالى سببه وردَّه عليهم في آيات أُخَر، فقال في عجبهم المذكور:
﴿ ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ * بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ ﴾ [ق: 1، 2]، وقال تعالى في إنكاره عليهم في أول سورة يونس: ﴿ أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ ﴾ [يونس: 2].
وذكر مثل عجبهم المذكور في سورة الأعراف عن قوم نوح وقوم هود، فقال عن نوح مخاطبًا قومَه: ﴿ أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾ [الأعراف: 63]، وقال عن هود مخاطبًا عادًا: ﴿ أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ ﴾ [الأعراف: 69].
الثانية: قال في الأضواء: وبيَّن أن سبب عجبهم من كون المنذر منهم أنه بشر مثلهم، زاعمين أن الله لا يرسل إليهم أحدًا من جنسهم، وأنه لو أراد أن يرسل إليهم أحدًا، لأرسل إليهم ملكًا؛ لأنه ليس بشرًا مثلهم، وأنه لا يأكل ولا يشرب ولا يمشي في الأسواق.
والآيات في ذلك كثيرة؛ كقوله تعالى: ﴿ وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا * قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا ﴾ [الإسراء: 94، 95]، وقوله تعالى: ﴿ أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ ﴾ [المؤمنون: 47]، وقوله تعالى: ﴿ وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ * وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ ﴾ [المؤمنون: 33، 34]، وقوله تعالى: ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا ﴾ [التغابن: 6]، وقوله تعالى: ﴿ كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ * فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ ﴾ [القمر: 23، 24].