أرشيف المقالات

العفنقس الطحل

مدة قراءة المادة : 6 دقائق .
العَفَنْقَس الطَّحِل
 
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعدُ:
فإنَّ من الصِّفات القبيحة التي يتَّصف بها بعضُ الأصدقاء صفةَ التلَوُّن؛ ولذلك جاء هذا المقال التاسع من سلسلة: [الصديق القبيح وقبيح الصداقة].
 
فحديثي عن: العَفَنْقَس الطَّحِل، وهو: الصديق المتلوِّن الذي لا يثبُت على حالٍ، وجاء في معجم تاج العروس: (والمتلَوِّن: مَن لا يَثْبُت على خُلُقٍ واحدٍ).
 
وذكَرَ في المعجم المعاصر معنيين لتلوُّن الشخص، وهما:
1 - غيَّر من سلوكه وفقًا لمصالحه، لم يَثْبُتْ على خُلُقٍ "تلوَّن حسب الظُّروف".
٢- تغيَّرت أحواله، لم يثبت على حال.
 
وقال صاحب المعجم الوسيط:
(تلوَّن الرجل: غيَّر آراءه ولم يعد يستقرُّ على حال، ويتلوَّن الرجل في كلِّ يوم يأتيك برأي، يتلوَّن كما تتلوَّن الحرباء)؛ [المعجم الوسيط ص (847)].
 
وتلوَّن فلان: لم يثبُت على خُلُق - تلون الرجل: غيَّر آراءه ولم يعد يستقرُّ على حال.
 
إننا في هذا الزمان لنخالط ثلَّة من الناس يمتازون بصفةٍ قبيحةٍ؛ فصاحبها مكروهٌ لا تُعرَف له وجهة ولا طريق، هو الشخص: (المتلوِّن)، وأقصد بذلك الشخص الذي لا يثبُت على رأي، ولا على فِكر، متقلِّب حسب هواه ومزاجه...
فتارةً تراه يحبُّ شيئًا ما، وتارةً يكرهه...
 
يكون في يومٍ ما واضحًا كالشمس، وفي يوم آخر غامضًا كالضباب.
متقلِّب حتى في علاقاتِه مع الناس، فتجده يمدح فلانًا ويحبُّه، وبعد فترةٍ من الزمن تراه يذمُّ فلانًا ويكرهه، يتعصَّب لفكرةٍ معيَّنة وفجأة يتركها.
 
وعلى هذا فَقِسْ...
كما أنَّ الله عز وجل في كتابه قد ذمَّ هذه الصفة، فقال تعالى: ﴿ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا * مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا ﴾ [النساء: 142، 143].
 
قال الإمام السعدي في تفسير هذه الآية: "فهذه الأوصاف المذمومة تدلُّ - بتنبيهها - على أن المؤمنين متصفون بضدِّها من الصدق والإخلاص ظاهرًا وباطنًا".
 
وللأسف تجد بعضَ الناس ليس له شخصية مستقلَّة، ولا رأيٌ ثابت، بل هو أقرب ما يكون شبهًا بالسائل الشفَّاف؛ يأخذ لون الإناء الذي يوضع فيه، فهذا النوع مِن الناس إذا جَلَس مع المتديِّنين أظهَرَ التديُّن والصلاح، وانتقَدَ غيرَ المتديِّنين وعابهم، وإذا جَمَعَه المجلس مع غير المتديِّنين وافَقَهم في أخلاقهم وأقوالهم، وربما استهزأ بالمتديِّنين وانتقَصهم.
 
فهو متلوِّن متقلِّب لا يثبُت على حال؛ فهو كالحرباء التي تتغيَّر ولا تثبت ولا تستقرُّ على حال، فقد جاء في المعجم الوسيط: (يتلون الرجل: في كل يوم يأتيك برأي، يتلوَّن كما تتلوَّن الحرباء).
 
وهذه الصفة القبيحة قد حذَّر منها النبيُّ صلى الله عليه وسلم بقوله: ((تجدون شرَّ الناس ذا الوجهين، الذي يأتي هؤلاء بوجهٍ وهؤلاء بوجهٍ))؛ متفق عليه.
 
قال النووي: "هو الذي يأتي كلَّ طائفةٍ بما تحبُّ؛ فيظهر لها أنه منها ومخالف لضدِّها، وصنيعه خداع؛ ليطَّلع على أحوال الطائفتين".
 
بل إنَّ البشر جميعَهم لا يحبُّون الشخص ذا الوجهين ويكرهونه؛ كما أنَّهم لا يثقون به ألبتة؛ لتلوُّنه الممقوت؛ فهو:
متلوِّنٌ في أخلاقه،
ومتلوِّنٌ في كلامه،
ومتلوِّن في أسلوبه،
ومتلوِّن في تعامله،
ومتلوِّن في ذاته،
يذمُّ الممدوح، ويمدح المذموم،
يسكن المتحرِّك، ويحرِّك الساكن،
يضمُّ المنصوب، ويفتح المكسور،
يصغِّر الكبير، ويكبِّر الصغير،
يتكلَّم وقت السكوت، ويسكت وقتَ الكلام،
إذا أسرَعَ الناس أبطأ، وإذا أبطَأَ الناس أسرع،
يجعل الحلو مُرًّا، والحامض حُلوًا،
آراؤه وأفكاره متشتِّتة؛ لا يجمعها ضابط، ولا يميِّزها رابط،
فهو متلوِّن بكلِّ لون وشكل؛ فأثَّرَ هذا التلوُّن في حياته على دينه وعقيدته؛
فإن خالَطَ الصالحين صار صالحًا، وإن خالَطَ الفاسدين صار فاسدًا.
فلا لا تجد له صديقًا دائمًا، ولا عدوًّا ثابتًا.
بل إ ن ركب السفينةَ صار بحَّارًا،
وإن مرض الناس صار طبيبًا،
فهو متلوِّن حسب هواه ومزاجه ومصلحته الشخصيَّة..
 
وصَدَقَ الشاعر حينما وصفه بقوله:
كريشةٍ في مهبِّ الريحِ ساقطةٍ ♦♦♦ لا تستقرُّ على حالٍ من القلقِ
 
وقال آخر:
له ألفُ وجهٍ بعد ما ضاع وجهُه ♦♦♦ فلم تدرِ فيها أيَّ وجهٍ تُصَدِّقُ
 
فصاحب هذه الصفة القبيحة بعيدٌ كلَّ البعد عن الصِّدق والوضوح، بل هو معوج لا يستقيم أبدًا؛ يعيش حياةً متقلِّبةً مليئةً بالمراوغة الممقوتة؛ فلا يمكن تصديق ما يقول، ولا الجزم فيما يفعل.






أخبث الناس صديقٌ
عن نفاقٍ يتحرَّكْ


فمَعَ المظلوم يبكي
ومعَ الظالمِ يضحكْ






 
ولكن ليعلم هذا المتلوِّنُ أنَّ الناس قد عرَفوه؛ فالتجارِب التي عاشوها معه كثيرة أثبتت لهم تلوُّنه، بل واستقرَّ في نفوسهم بغضُه وعدم محبَّته.
 
قال الشاعر:






لا خير في وُدِّ امرئٍ متملِّقٍ
حُلو اللسان وقلبُه يتلهَّبُ


يلقاك يحلِف أنَّه بك واثقٌ
وإذا توارى عنك فهْو العقربُ


يُعطيك من طرَفِ اللسان حلاوةً
ويرُوغ منك كما يروغ الثعلبُ






 
وصلى الله وسلم على نبيِّنا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.

شارك الخبر

روائع الشيخ عبدالكريم خضير