المراد الأسمى من القصص الأعلى (2)
مدة
قراءة المادة :
17 دقائق
.
المراد الأسمى من القصص الأعلى (2)من جماليات القص القرآني
في سابق مقال فرضنا فروضًا ثلاثة، وقلنا: إنها افتراضات لمسلَّمات أدبيةٍ لا يعقلها الأدباء وحدهم، بل إن فطرة الفِكْرِ السليم هي ما تقول بمثل بذلك، وَلَرُبما وجدت جدالًا في بعضٍ منها إن قِيسَ على غير القرآن الكريم وقصصه الأعلى، ولكن حين يُذكَر قصص القرآن، فلا ينبغي لأحد إلا أن يقول: ﴿ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا ﴾ [النساء: 122]، ﴿ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا ﴾ [النساء: 87]، ولْنُتَوِّجْ رأس المقال بعظيم الذكر وأصدق الكلم؛ بقوله تعالى: ﴿ لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾ [يوسف: 111]، وتلك الآيات نزلت في ختام قصة يوسف عليه السلام، وهي القصة الوحيدة لنبيٍّ التي تفرَّدت بها سورة قرآنية منذ بدايتها حتى ختام القصة، ولم يَرِدْ ذكرها مرةً أخرى فيما بعد، وهي تُعَدُّ في أنساق الأدب بالرواية المكتملة العناصر والمقومات؛ الزمنية، والمكانية، والأشخاص، علاوة على المشهدية فيها، والومضات النورانية الرائعة، التي تؤدي المراد الأعظم من سرد القصة، وما تحمله من قِيَمٍ وأخلاقيات تحلَّى بها يوسف وأبوه يعقوب عليهما السلام؛ من صبر ومثابرة للفراق بينهما، والمراحل العمرية التي مرَّت على يوسف عليه السلام وأبيه الصابر غير القانط من ثقته في أن الله سوف يرد عليه قُرَّةَ عينه يوسف وأخاه بنيامين، وتنقُّل يوسف من حال إلى حال، وما بين الخروج من غيابات الجُبِّ والبئر إلى قصر الرئاسة والحكم، ثم العودة لجُبِّ السجن، ثم الخروج مع العروج لسُدِّةِ الحكم بمصر...
ولو تأملتَ مليًّا واستبصرت بعين المُدَقِّقِ في اختيار العبارات والألفاظ والكلمات، بل وإيراد المشاهد ذات الدور العظيم في بنائية القصة - لتجد أن كُتَّابَ الأرض جميعًا لن يستطيعوا الإتيان بمثل تلك الروعة والبيان، والتكثيف السردي الدالِّ على حبكة قصصية طويلة، لم يترهل البناء القصصي الروائي فيها ولو للحظة واحدة، ولو ترى إذ القصة من سردها للأحداث تنقلك من فلسطين لمصرَ، ومن طيبة لفلسطين، دون خلل في البناء والمواقف بسردها سردًا لا يَمَلُّ القارئ ولا السامع منه، فسبحان مَن هذا بيانه!
في مرور كريم على تفسير للإمام الطبري رحمه الله لتلك الآيات، وكان لا بد من تدوينه هنا قطعًا وتأكيدًا على ما نصبو إليه من تذكير بعصمة النصوص القرآنية من أيِّ جَوْرٍ أو افتراء؛ حيث يحاول بعض الهواة وذوو الأهواء الضالة النيل منها في قوله: ﴿ لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾ [يوسف: 111].
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: لقد كان في قصص يوسف وإخوته عبرةً لأهل الحجا والعقول يعتبرون بها، وموعظة يتعظون بها، وذلك أن الله جل ثناؤه بعد أن أُلقِيَ يوسف في الجب ليهلك، ثم بِيْعَ بَيْعَ العبيد بالخسيس من الثمن، وبعد الإسار والحبس الطويل، ملَّكه مصر، ومكَّن له في الأرض، وأعلاه على مَن بغاه سوءًا من إخوته، وجمع بينه وبين والديه وإخوته بقدرته بعد المدة الطويلة، وجاء بهم إليه من الشُّقَّةِ النائية البعيدة، فقال جل ثناؤه للمشركين من قريش من قوم نبيه محمد صلى الله عليه وسلم: لقد كان لكم أيها القوم في قصصهم عبرة لو اعتبرتم به، أن الذي فعل ذلك بيوسف وإخوته لا يتعذَّر عليه فعل مثله بمحمد صلى الله عليه وسلم، فيخرجه من بين أظْهُرِكم، ثم يُظْهِره عليكم، ويمكِّن له في البلاد، ويؤيده بالجند والرجال من الأتباع والأصحاب، وإن مرَّت به شدائد، وأتت دونه الأيام والليالي والدهور والأزمان[1].
ما كان حديثًا يُفتَرَى:
ولنضع تحت تلك المفردة القرآنية الكريمة ألفَ خطٍّ وخط، ونتدبر معًا الفارق الشاسع والبَوْنَ الواسع بين النصوص الأرضية التي يخطُّها بشرٌ يصيب ويخطئ، وتتمايز عنده الأحداث في قيمتها حسب مدركاته، وطبائع مجتمعاته، ومعطيات الثقافة المحدودة عنده - وبين هذا الكلام الفَصْلِ المترفِّع عن كل افتراء وهَزْلٍ، المُمَجَّدِ بلسان الحق، وبالتأكيد لن ترى أية مفاضلة؛ فشتان شتان بين الثرى والثريا!
إن من مقومات جودة القصة الحديثة إحداث الإدهاش والتأثير، حتى ولو بشيء من الافتراء، وإقحام وقائع داخل الأعمال القصصية ربما لم يكن لها وجود أصلًا، فضلًا عن الخيال الممزوج بالواقع لأحداث ما سبق الإشارة إليها، وإن النصوص الأرضية التي تُكتَبُ على تنوُّع واختلاف أجناسها يتفنَّن كلُّ سارد أو قاصٍّ أن يعطيَها ملاحةً من الخيال المتوقَّع، أو الخيال نفسه غير محتمل الحدوث؛ لكي يُكسِبَ عناصر القصِّ عنده ما يسمى "بالدراما القوية"، التي هي من مستلزمات القص والمسرحة هذه الأيام، فيزيد على الأحداث بالمبالغة أو الولوج في أعماق إنسانية؛ لجذب الانتباه، واستدراك أكبر عدد من المؤيدين لنصوصه.
وحتى في بعض وقائع التاريخ حين تُدَوَّنُ بأقلام المؤرخين والحُفَّاظ، فإن "التناول الدرامي" لها قد يختلف باختلاف وجهات نظر المعدِّين والمخرجين، فضلًا عن بعض الافتراءات والافتعالات لأحداث ربما لم تقع أصلًا، ولم تُدَوَّنْ بشكل أعمق في كُتُبِ التاريخ؛ فنجد اختلافًا في العرض باختلاف الرؤى المرجعية، وغلبة الأيديولوجيات، وحسب الثقافات، فضلًا عن الدواعي الأمنية والاحتياطات من مَغَبَّةِ الإسقاط المُتعمَّد، ناهيك عن تهميش الجوهر في القصة، والتعلق بثانويات البناء القصصي لأغراض أخرى.
إن المنصفين والمحققين لدور القصص القرآني يؤكدون على أن قصص القرآن الكريم قد فرَّق بين معتقد الشرك وعقيدة والتوحيد، وبين الحق والباطل، وأعاد للقصة المأثورة عن الأمم البائدة لدى رواة العرب مسارها القصصيَّ الصحيح والصادق، وقد كشف عن مفتريات في سردها، وخرافات في ذِكْرِها، ولم تَنَلْ تلك الافتراءات البشرَ العادي فقط، بل تخطَّتِ الأنبياء والأصفياء والذات العَلِيَّةِ من تُهَمٍ ومواقفَ أُلصقت بهم من خلال تحريف وتزييف للكتب السماوية والصحف.
ومن شبكة الألوكة الطيبة منبر العلم في مقال طيب للكاتب/ محمد حسن نور الدين إسماعيل من كُتَّاب الألوكة، بعنوان: (نداء الله للمؤمنين: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى ﴾ [الأحزاب: 69]) ذكر في سطور قليلة ما أخرجه الإمام البخاري رضي الله عنه فيما افترت به اليهود على سيدنا موسى الكليم، مُدَوِّنًا صفات مطلقة أنعم الله بها على أنبيائه الكرام؛ من صدق وأمانة تبليغ، وفطنة - أي: الفِراسة - والعصمة والطهارة، موضحًا قبلها مؤهلات النبي المصطفى في كل زمان شاء الله أن يبعث فيه نبيًّا ورسولًا، ولعدم الإطالة فإن المقالة بالشبكة الموقرة للكاتب المذكور شكر الله سعيه، وأثابه بتلك الإفاضة خيرًا - قد جمع من التفاسير الثقات والمعاجم والأسانيد على تكذيب القرآن لتلك الفِرْيَةِ العظيمة في حق نبي الله موسى عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام[2].
يعتقد بعض المشككين في جماليات القصص القرآني ومَن على شاكلتهم كَذِبًا - أن في قصص القرآن ما يُعَدُّ حكاياتٍ مُخْتَلَقَةً من قِبَلِ القدامى، تناقلتها ألسنة العرب فيما بينهم، وجاء القرآن ففرَّق فيها بين الحديث الحق والمفترى، ولو أن أمثال هؤلاء الجُهَّال قد دقَّقوا النظر في أسباب نزول الآيات، لعلِموا أنه الحق وأنهم في ضلالة؛ ذلك حين يلمزون القصص القرآني الذي هو أعظم القصص بمثل تلك الافتراءات، وسنذكر مثالًا مما تشدَّقوا به؛ وهو قصة ذي القرنين بسورة الكهف:
نقول والله أعلى وأعلم:
♦ إن العرب لما طاشت عقولهم ببيانٍ لم يسبق لهم أن يكتبوه، وفصاحة لم تصل إليها قرائحهم، وأصيل لغة قد غمر الزمان مصادرها بتعاقب الليل والنهار عليها سترًا، حتى ضاعت من رؤوس بلغائهم كثيرات من جواهر العربية، وما أغنى عنهم تصدرهم المشهد الثقافي والأدبي عن غيرهم أمام بيانٍ لا هو بالسحر، ولا بالشعر، ولا بالكَهانة - سلكوا سُبُلًا فِجًاجًا للتشكيك في مصداقية الرسالة وصاحبها صلى الله عليه وسلم، وساروا على درب التحدي لرسول الله فيما يتنزل عليه صلى الله عليه وسلم، وقالوا: اسألوه عن قصص الأمم الغابرة، والتي لا يحيط بها إلا من كان بحق نبي؛ كقصة "ذي القرنين" ذلك المأثور القديم، ويأجوج ومأجوج الذين يفزع الرجال من هَوْلِ سيرتهم قبل الوِلدان، فقطع الله عليهم ذلك القول بذكر القصة بما اشتملت على عناصر ومقومات، ليست خيالًا ولا دربًا من دروب التفكُّهِ والتَّسَامُرِ بالحديث للتسلية وإضاعة الوقت، فأنزل أحسن الحديث والقصص، وثبَّت فؤاد نبيه الكريم أمام هؤلاء القوم، الذين يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها وأكثرهم الكافرون، وابتدر القصة بقوله تعالى: ﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا ﴾ [الكهف: 83] إلى آخر الآيات.
♦ يا للجمال البياني والبراعة الاستهلالية في قوله: ﴿ وَيَسْأَلُونَكَ ﴾، وكأنه يُعْلِمُهم أن الله مطَّلعٌ وشاهد وقادر على أن يخبركم بما تُكِنُّهُ صدوركم وما تكتمون، والأريب يتدبر كل مفردة في تلك القصة الرائعة؛ فيجد من البلاغة والإيضاح ما لم تُحِطْ به معاجم الأولين والآخرين؛ من تصاعد للأحداث، وبداية بجذب الانتباه: ﴿ إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا ﴾ [الكهف: 84]، تجد بداية وفي كلمات معدودة قصة كاملة، أو ما نسميه في الأدب المعاصر "بالومضة القصصية"، تستطيع من خلال مفرداتها المعدودة أن تبنيَ شخصيةً مستوحاة من قلب القصة، لها مقومات السيادة والحكم، فضلًا عن الحكمة والقوة والأمانة، ولقد أجمل القران الكريم في حديث يأجوج ومأجوج بذكر استنجاد الخلق بذي القرنين على لسانهم: ﴿ قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا ﴾ [الكهف: 94].
♦ وتولَّت السنة النبوية والسِّيَرُ التفسيرَ والتفصيلَ، وذكرت كتب السير؛ فجاء في (مختصر عجائب الدنيا): "قيل: إن يأجوج ومأجوج أمة لا يُحصَى عددها، وقد زعم قوم أن مقدار ربع العام من الأرض مائة وعشرون سنة، وأن ليأجوج ومأجوج منها تسعين سنة، واثنتي عشرة للسودان، وثمانيًا للروم، وثلاثًا للعرب، وسبعًا لبقية الأمم...
وقال أصحاب التاريخ: إن يأجوج ومأجوج أربعون أمة مختلفو الخَلْقِ والشكل والعدد، ولكل أمة منهم ملِكٌ ولغة، ومنهم من طوله شبر، ومنهم من طوله ذراع، وأطول، ومنهم المشوَّهون، ومنهم من يفترش الأرض بإحدى أذنيه، ويتغطى بالأخرى، ومنهم من له أنياب وقرون، ومنهم من يأكل الحيَّات، ومنهم من كلامه تهتهة، وفيهم شدة بأس، ويُغِيرُ بعضهم على بعض، ويأكل بعضهم بعضًا، ولقد سُئل الصادق الكريم صلى الله عليه وسلم فقال: ((دعوتهم ليلة أُسري بي، فلم يجيبوا))، إلى غير ذلك من الوصف المخيف، فقد كثَّف القرآن العظيم كل تلك الأوصاف والخصائص المخيفة المرعبة في قوله تعالى: ﴿ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ ﴾ [الكهف: 94]، وقيل: إنهم كقوم عاد في البأس وعِظَمِ الجسم والبنيان"[3].
نزول القرآن مُنَجَّمًا وتواتر القصص على مدى عمر الدعوة:
نعلم جميعًا أن القرآن الكريم قد نزل على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم منجمًا، ولم يتواتر إلا بوقوع الحدث الواقع بخصوصه، فلم ينزل جملة واحدة، ولقد أثبت الحق تبارك وتعالى مطلب المشركين في قوله تعالى: ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا ﴾ [الفرقان: 32]، وفي قوله: ﴿ وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا ﴾ [الإسراء: 106]؛ الشاهد من مجمل الآيتين الكريمتين أن القرآن الكريم نزل بمناسبة وقوع الحدث ليُثَبِّتَ النبي الكريم، ويقويه باليقين الصادق والرد الكاشف في كل أمور الأمة الإسلامية في بداية الدعوة، وحتى يرث الله الأرض ومن عليها؛ ففي البخاري من حديث عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، قالت: ((إنما أُنزل أول ما أُنزل من القرآن سور من المفصَّل فيها ذِكْرُ الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام، نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول ما نزل: "لا تشربوا الخمر"، لقالوا: لا نَدَعُ الخمر أبدًا، ولو نزل: لا تزنوا، لقالوا: لا نَدَعُ الزنا أبدًا)).
ونزول القران الكريم متفرقًا على مدى ثلاث وعشرين سنة، كان فيه من التثبيت والتقوية وشدِّ الأزر بذكر قصص السابقين من النبيين والصديقين والصالحين لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وللأمة من بعد ذلك - خيرُ برهانٍ على عزة وعصمة القصص القرآني من أية شهبة يختلقها المُفلِسون، الذين تجرَّدوا من نعمة الذائقة الإيمانية بقدسية القصص القرآني العظيم، بل إن القارئ للقرآن الكريم المتتبع لأنوار وإشراقات قصصه الأعلى يستطيع أن يميز بين القصص الذي نزل لأهل مكة في بدايات الدعوة من ذكر للأمم البائدة، وكيف عَصَوا رسلَ ربهم، فأخذتهم الصيحة، ومنهم من أغرقه الله، ومنهم من اقتعلت الرياح ديارهم، وأصبحوا كأعجاز نخل متقعر، والعديد من قصص التخويف والإنذار، وعُقبى الذين اتَّقَوا، وعن عقبى أهل النار، وأما عن قصص أهل المدينة، ودخول النبي صلى الله عليه وسلم على غالب من أهل الكتاب كاليهود والنصارى، فهم عندهم من أخبار الرسل ما يكتمونه في كتبهم وصحفهم، ولو بشيء من الصدق مع كثير من الافتراءات والتجويد لأغراض شتى؛ فكان قصص أنبياء بني إسرائيل، وقصص المسيح عليه السلام والسيدة مريم العذراء، وتثبيت الله لأنبياء ورسل بني إسرائيل ضد مخالفيهم وأهل الأذى والبوائق، ممن كذبوا الرسل فحقَّ عليهم الوعيد والمجازاة.
كلمات القرآن الكريم:
وهل لمفردات اللغة في الحديث عن البناء القصصي في القرآني الكريم دورٌ؟ نقول: إن كلمات القرآن بما لها من قدسية وروعةِ حضورٍ في آيات القرآن، لا يستطيع أيًّا كان أن يستبدل مفردة بمفردة أخرى، حتى ولو كان المعنى واحدًا؛ لأن مراد الله من إيراد تلك الكلمة عن غيرها حكمة عالية وبلاغة، يتفكر فيها أهل العلم ليلَ نهارَ، حتى يوقنوا أنها وُضعت في مكانها البلاغي المناسب، وكذلك توارد الكلمة الواحدة بمعانٍ متعددة؛ ليَكْسِبَ المُطَّلع ثروة لغوية ما لها من نظير ذكرًا وليس حصرًا؛ فمثلًا مفردة "أمة" في القرآن، وردت في عديد من الآيات بمعانٍ مختلفة؛ هي: الزمن، والإمام مكتمل الفضائل، والجماعة من الناس، ومجازية مفردات القرآن الكريم باستخدام مفردة (القرى، القرون، الغيب) للتعبير عن الأمم الغابرة، إلى غير ذلك من مفرداته العالية البلاغة، والمُوَظَّفَةِ في مكانها المُقَدَّسِ بكلام ربنا تباركت صفاته، فالمبادرة بمعرفة المفردات، وتعدد معانيها حسب سياقات الكلام، وفهم مراد الله عز وجل من كل مفردة - يُعَدُّ مدخلَ صدقٍ لفَهْمٍ ناضج غير جائر لقصص القرآن العظيم، بل إن القرآن الكريم قد تفرَّد بكلمات في قصصه لم يسبق لها أحد في ذكر أخبار الأمم كاستخدامه كلمات: (الغمام، المن والسلوى، مكاء) إلى غير ذلك من كثير مما حيَّر العرب والبلغاء فيه.
وفي خاطرة جميلة لفضيلة الإمام الشيخ الشعراوي رحمه الله وأفاد بما قدم من علم للأمة بها - نختم بها الجزء الثاني من المقال؛ حيث تحدث عن واقعة أمر الله لأمِّ موسى عليه السلام أن تلقيَهُ في اليم، كان قد تعرض لمفردة (الساحل) في قوله: ﴿ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ ﴾ [طه: 39]، فبيَّن قائلًا بأن تعيين الله عز وجل لمفردة الساحل بدلًا عن الشاطئ هنا؛ لإثبات قدرته تعالى على إنقاذه رغم كل المخاوف، وتتابع المهالك والمخاطر على ذلك الرضيع الذي لا حول له ولا قوة إلا بالله؛ ذلك أن الشاطئ هو عبور البحر ومخاطر الغرق، لكن الساحل هو البقعة التي تراجع عنها الماء انحسارًا، وربما تعود حال ارتفاع منسوب الماء في البحر، فسبحان المنجي بلا سبب! وسبحان مَن للأسباب منشيها!
وللمقال تكملة أخيرة مع باقة أخرى من جماليات القصص القرآني العظيم.
[1] تفسير الطبري، موقع تقني، آخر سورة يوسف
[2] نداء الله للمؤمنين: (يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى)
[3] مختصر عجائب الدنيا، تأليف المؤرخ: الشيخ إبراهيم بن وصيف شاه، المتوفى 599ه، تحقيق سيد كسرى حسن، دار الكتب العلمية، ط: 1، 1421ه - 2001م، باب العجائب، ص: 69.