الصحابي الذي أعمل عقله فهداه إلى الإسلام
مدة
قراءة المادة :
6 دقائق
.
من صحابة الرسول - صلى الله عليه وسلم-الطفيل بن عمرو الدوسي الصحابي الذي أعمل عقله فهداه إلى الإسلام
هو الطفيل بن عمرو بن طريف بن العاص بن ثعلبة بن سليم بن فهْم بن غنْم بن دوس، نشأ في أرض دوس، من الأدباء الموهوبين، والشعراء النابغين، وكان يتردَّد على مكة كثيرًا؛ لحضور أسواقها الأدبية في عكاظ وفى غيرها.
وخشيتْ قريش -بعد الجهر بالدعوة الإسلامية- أن يلتقي الطفيل بالرسول -صلى الله عليه وسلم- فيعلم صدقه، فيَنشرح صدره للإسلام، ويجنِّد نبوغه الأدبي لخِدمة الإسلام.
فلَقِيه رجال من قريش، فأحسنوا وفادته، وأكرموا منزله، ثم راحوا يُحذِّرونه مِن لقياه قائلين: "إن له قولاً كالسحر، يفرِّق بين الرجل وأبيه، والرجل وأخيه، والرجل وزوجته، وإنا نخشى عليك وعلى قومك منه، فلا تكلِّمه ولا تسمع منه حديثًا".
وهذا وأكثر منه ما صرَّح به الطفيل قائلاً: "فوالله ما زالوا بي، حتى عزمتُ على ألا أسمع منه شيئًا ولا ألقاه، وحين غدوتُ إلى الكعبة حشوت أذني كرسفًا - أي القطن - كيلا أسمع شيئًا من قوله إذا هو تحدَّث، وهناك وجدته قائمًا يصلي عند الكعبة، فقمتُ قريبًا منه، فأبى الله إلا أن يُسمعني بعض ما يقرأ، فسمعت كلامًا حسنًا، وقلت لنفسي: وا ثُكْل أمي، والله إني لرجل لبيب شاعر لا يخفى عليَّ الحسن من القبيح، فما يمنعني أن أسمع من الرجل ما يقول، وإن كان الذي يأتي به حسنًا، قبِلته، وإن كان قبيحًا، تركته؟!".
وها هو قد شرع في تطبيق المنهج السديد بقوله: "ومكثتُ حتى انصرف إلى بيته، فاتَّبعته حتى دخل بيته، فدخلتُ وراءه، وقلت له: يا محمد، إن قومك قد حدَّثوني عنك كذا وكذا، فوالله ما برحوا يخوِّفونني أمرك، حتي سدَدْت أذني بكرسف؛ لئلا أسمع قولك، ولكنَّ الله شاء أن أسمع، فسمعتُ قولاً حسنًا، فاعْرض عليَّ أمرك".
فعرض الرسول عليَّ الإسلام، وتلا عليَّ من القرآن، فوالله ما سمعتُ قولاً قطُّ أحسن منه، ولا أمرًا أعدل منه، فأسلمت، وشهدتُ شهادة الحق، وقلت: يا رسول الله، إني امرؤ مُطاع في قومي، وإني راجع إليهم وداعيهم إلى الإسلام، فادع الله أن يجعل لي آيةً تكون لي عونًا فيما أدعوهم إليه"، فقال - عليه السلام -: ((اللهمَّ اجعل له آيةً)).
إن الإيمان إذا خالطتْ بشاشتُه القلوب، لم تَلبث الجوارح أن تلين طاعةً لخالقها، داعيةً إلى كل ما يُرضيه، والطفيل واحد ممن هداهم الباري إلى طريق الحق؛ إذ لم يكن إمَّعةً، بل نبذ التقليد الأعمى، وأصرَّ على سماع النبي - صلوات الله وسلامه عليه - وأعطى لفطرته الحرية؛ حتي تُميِّز بين الحق والباطل.
وما أن عاد إلى أرض دَوس، حتى شرع في الدعوة إلى الله - تعالى - فدعا أباه وأمه وزوجه، فأسلموا جميعًا، ثم انتقل بالدعوة إلى عشيرته، فلم يُسلِم منهم أحد إلا أبا هريرة - رضي الله عنه - ولما عجَز عن إقناعهم، لم يجد بدًّا من العودة إلى النبي - صلي الله عليه وسلم - ليستشيره في أمر دوس، ويتزوَّد من تعاليمه.
وحين نزل مكة، سارع إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - قائلاً: "يا رسول الله، إنه قد غلبني على دوس الزنا والرِّبا، فادع الله أن يُهلِك دوسًا".
ولكن المبعوث - رحمةً للعالمين - يرفع كفَّيه داعيًا، فيقول: "اللهم اهدِ دوسًا، وأْتِ بهم مسلمين)، ثم يلتفت إلى الطفيل ويقول له: (ارجع إلى قومك، فادعهم وارفُق بهم).
ويتغيَّر منهج الطفيل من حزم واستعجالٍ إلى رحمة وإمهالٍ، بل يزداد تعلقًا بهذا الرسول العظيم القائل: ((اللهم اغفر لقومي، فإنهم لا يعلمون)).
وتُثمر هذه الدعوة في دوس؛ حتى يُسلم منها ثمانون أسرة، وجاؤوا إلى الرسول - صلوات الله وسلامه عليه - مُهلِّلين مُبايعين.
وفى يوم الفتح الأعظم - والرسول يحطِّم الأصنام – تذكَّر الطفيل ما كان عليه هو وقومه في الجاهلية، فاستأذن النبي ليَحرق صنم عمرو بن حممة بنفسه، فأذِن له، فحرق الصنم قائلاً:
يا ذا الكَفَيْن لستُ من عبادكَ
ميلادنا أقدمُ من ميلادكَ
إني حشوتُ النار في فؤادكَ
(الكفين اسم الصنم).
واستمر الطفيل في متابعته للنبي -صلى الله عليه وسلم- عبادةً وتعلُّمًا وجهادًا، وما أن لحِق المصطفى بربه حتى أقبل الطفيل على الجهاد أكثر مما كان.
واشترك الطفيل -رضي الله عنه- في حروب الردة، وقد أنبأته فراسته الصادقة أنه سيُرزق الشهادة في تلك الحروب، فراح يوصي ابنه عمرو بن الطفيل بمزيد من التضحية والجهاد، وما هي إلا ساعات حتى يسقط البدن المجاهد تحت الرماح والسيوف، وإن كانت الروح قد صعدت إلى أعلى علِّيين.
وقصة الطفيل أمثال حية لنبذ التقليد والهجرة، والتضحية والفداء، والصبر الجميل وكأني به قد جسَّد قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يكن أحدكم إمَّعةً، إن قال الناس أحسنَّا، قال أحسنتُ، وإن قال الناس: أسأْنا، قال أسأت، ولكن وطِّنوا أنفسكم: إن أحسن الناس أن تُحسنوا، وإن أساؤوا أن تتجنَّبوا إساءتهم)).