أرشيف المقالات

موازين الرجال

مدة قراءة المادة : 4 دقائق .
موازين الرجال
 
جاءت الشرائعُ كلُّها بما يُصْلِح الناس، ويُصْلِح المجتمعات، وكانت الأخلاق جزءًا أساسيًّا يقوم عليه عِماد العيش بينهم، ولقد وُفِّقَ شوقي توفيقًا كبيرًا في قوله:
وإنما الأممُ الأخلاقُ ما بقِيتْ ♦♦♦ فإن هُمُ ذهبتْ أخلاقُهم ذهبوا
ذهبوا؛ لأن وجودهم غدا عدَمًا، ويا ليته يكون عدَمًا؛ بل أصبح ضرَرًا وشرًّا، إذْ تُفْقَدُ في هؤلاء حتى معاني الإنسانية، فيتعاملون مع مُحيطهم مُعاملة السباع، ويفكِّرون فقط في الاستغلال وطُرُقِه، فأين منهم الأخلاق السامية؟! وأين سموُّ النفس فيهم؟!
 
كيف نُقيم عليهم المأْتم والعويل يا شوقي، وإقامته في حقِّهم مأثمٌ ومَغْرَم؟! بل ما يجب علينا هو أن نحمَد الله على ذهابِهم من حياتنا، فكم غرَّ الناسَ ظاهرُ الناس، وما تبيَّنتْ حقائقُ بعضهم لبعضٍ إلا بتقلُّب الأحداث والمواقف؛ هناك يُعرَفُ معدنُ الحديد من الألماس!
 
كمْ رأينا وسمِعنا عمَّن تغيَّر إزاءَ أصحابه وأهله وأحبابه؛ حين أصبحوا بلا مالٍ وافر، وهو الذي كان يُغدِق عليهم من المديح والثناء والإطراء ما يَعجِزُ عن نقله اللسان وعن نسْخه القلم! هذا الذي كان يَملأ ثغرَه بالابتسامة الصفراء، ويوسِّع لك في المجلس، ويُعلِّق إيجابًا على حديثك، ويصبُّ لك القهوة، ويقدِّم لك ولأهلك الخدمة، ويشيِّعك بأفضل عبارات الوداع، ويؤكِّد عليك تكرارَ الزيارة واللقاء؛ هذا اليوم يراك في طريقه فيغيِّر مساره، وإن ردَّ السلام فبأقصر العبارة، يشعرُ بثِقَلِكَ إن حضرْت كأنَّك على صدره جالس، ويَضيق نَفَسُهُ إذا تحدَّثت كأنَّك لنَفَسِه ذاك حابس، ينسى الصُّحْبة، ويتعمَّد التجاهل، ويتظاهر بالانشغال، وأمَّا إذا طلبتَ منه خدمة أو حاجة، معتمدًا على معرفتكما السابقة، وصُحبتكما السالفة، فلسوف ترى حينها الإهانة بأمِّ عينيك، وتشعر بها تؤنِّب ضميرك، وعندها فقط تقرِّر إزالته من حياتك نهائيًّا، كما تقرِّر نسيان رَقْم جوَّاله وعنوانه وصداقته للأبد، وخيرًا فعلتَ وإنْ متأخِّرًا.
 
لقد كتبَ الكثير عن الوفاء والمُروءة والشهامة وصدق الرجولة، كما حفلتْ دواوين الشعراء السابقين واللاحقين بذلك، ولن ينتهي فيها الكلام بأنواعه، كما لن تنتهي المواقف التي نُفاجأ بها من قِبَل هؤلاء بين الفَيْنة والأخرى، تلك الأخلاق هي موازين حقيقية يوزَن بها الناس في وقت الشدائد والحاجات، وتقلُّب الأحوال، مع أن تلك المواقف التي تمرُّ على الصاحب المكْلوم، سوف تمرُّ كغيرها من مواقف الحياة، كما ستمرُّ على ذاك المُتنكر، وليس هناك موقف يبقى على حاله، وهذه هي طبيعة الدنيا، وما سيبقى هو أثرُ التصرُّف، وتعامل المُتصرِّف، والدرس من هذا وذاك، وكلُّه يوزن بميزان (الرجال).
 
لا عليك يا صديقي، لا تتأثَّر بمن صدَّك أو ردَّك، أو رآك ثقيلًا يوم أن خفَّ ما في جيبك، فذاك لا يستحقُّ أن يُنظَرَ إليه، ولا أن يبكي أحدٌ على فِقدانه، لماذا قد يُصيبك الهمُّ أو الكدرُ، وما كنتَ لديه إلا مجرَّد رقْمٍ؟! وَزَنَكَ من يوم أن عرَفكَ بميزانه الخاص دون أن تشْعرَ، وعاملَك طوال تلك الفترة به دون أنْ يَفْتُرَ، وحين خفَّيْتَ في ميزانه رماك واستعاضَك بمن هو منكَ أثْقلُ! فشعرتَ أنتَ الآن بوقْعِ جسدِك على الأرض، وفي الحقيقة أنت من يوم معرفته واقعٌ، فاحْمَدِ الله أنْ هيَّأ لك موقفًا يعرِّفكَ من خلالهِ ميزانه، ويُظهِر لك أنَّ (ابتسامة) الأمس، و(تكشير) اليوم، ما هما إلا ساكنان في (وجْهٍ واحد).

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٣