أرشيف المقالات

أسباب اهتمام ابن كثير بالدعوة إلى العقيدة

مدة قراءة المادة : 16 دقائق .
أسباب اهتمام ابن كثير بالدعوة إلى العقيدة
 
يرجع اهتمام ابن كثير رحمه الله بالعقيدة إلى عدة أسباب، منها:
1- أن توحيد الله وعبادته، وعدمَ الإشراك به، هو الغاية مِن خلقِ العباد، فالله سبحانه وتعالى: "خلق العباد ليعبُدوه وحده لا شريك له، فمن أطاعه جازاه أتمَّ الجزاء، ومن عصاه عذَّبَه أشد العذاب"[1].
 
وهو سبحانه "ما خلَقَ الخَلْق عبثًا؛ وإنما خلَقَهم ليعبُدوه ويوحِّدوه، ثم يجمعهم ليوم الجمع، فيُثيب المطيع، ويعذِّب الكافر"[2]، فمهمة الرسل عليهم السلام وأساسُ دعوتهم هي توحيد الله، والتحذير من الإشراك به وعبادة ما سواه، فالله سبحانه وتعالى "أرسل رسلَه من أولهم إلى آخرهم تزجُرُهم عن ذلك، وتنهاهم عن عبادة مَن سوى الله"[3].
 
2- أن العقيدة هي أصل الدين وأساسه، وأن قَبول الأعمال مرتبطٌ بالعقيدة والتوحيد، فلا يَقبَلُ الله عملًا أشرَكَ صاحبه مع الله غيرَه في عبادته؛ قال تعالى: ﴿ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [الأنعام: 88]، وقال سبحانه: ﴿ وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [الزمر: 65]، ويقول تعالى: ﴿ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ﴾ [الكهف: 110].
 
قال ابن كثير: "وهو الذي يراد به وجه الله وحده لا شريك له"[4]، فالإنسان مهما عَمِل من عملٍ، فلا يكون مقبولًا عند الله حتى يكون خالصًا من الشرك، وصاحبُه على عقيدة صحيحة سالمة من الشرك بالله، كما قال سبحانه: ﴿ وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا ﴾ [الفرقان: 23]، قال ابن كثير: "وهذا يوم القيامة حين يُحاسِب الله العبادَ على ما عَمِلوه من خير وشر، فأخبَرَ أنه لا يتحصَّل لهؤلاء المشركين من الأعمال التي ظنُّوا أنها منجاة لهم شيءٌ؛ وذلك لأنها فقَدَت الشرط الشرعيَّ؛ إما الإخلاص، وإما المتابعة لشرع الله، فكل عمل لا يكون خالصًا وعلى الشريعة المَرْضيَّة، فهو باطل"[5].
 
3- أثر العقيدة على التصوُّر والفهم والإدراك والسلوك، فالاعتقاد الصحيح يؤثِّر على فهم النصوص الشرعية وإدراكها، ومعرفة حقائقها ودلالاتها؛ لأن الاعتقاد أساس الفهم، فكلما كان الاعتقاد سليمًا كان منهج فهم النصوص وتلقِّيها وإدراكها والاستدلال بها صحيحًا وموافقًا للحق الذي أراده الله وأنزله على رسوله صلى الله عليه وسلم، فانحراف العقيدة وفسادُها يؤثِّر على سلامة الفهم، وصحة القصد والعمل.
 
يقول ابن كثير رحمه الله عند تفسير الآية: ﴿ إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ ﴾ [الأنفال: 22]: "وقال محمد بن إسحاق: هم المنافقون، قلت: ولا منافاة بين المشركين والمنافقين؛ لأن كلًّا منهم مسلوب الفهم الصحيح، والقصدِ إلى العمل الصالح، ثم أخبر تعالى بأنهم لا فهم لهم صحيح، ولا قصد لهم صحيح، ولو فُرض أن لهم فهمًا، فقال: ﴿ وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ ﴾ [الأنفال: 23]؛ أي: لأفهمهم، وتقدير الكلام: ولكن لا خير فيهم؛ فلم يُفهمهم"[6].
 
ويقول رحمه الله عند تفسير الآية: ﴿ إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ ﴾ [القمر: 47]: "يخبرنا تعالى عن المجرمين أنهم في ضلال وسعر؛ مما هم فيه من الشكوك والاضطراب في الآراء، وهذا يشمل كلَّ من اتصف بذلك من كافر ومبتدع من سائر الفِرَق"[7].
 
4- أثر العقيدة على وَحْدة الأمَّة وتماسُكِها وقوتها، وأن من أكبر أسباب ضعف المسلمين وتفرُّقهم بُعدَهم عن عقيدتهم الصحيحة؛ لذا نجد أن ابن كثير رحمه الله يرى أن من أهم أسباب ضعف المسلمين وتفكُّكِ وحدتهم وتكالُبِ الأعداء عليهم في بعض العصور: بُعدَهم عن التمسك بعقيدتهم الإسلامية الصحيحة، وانتشار البدع والأهواء بينهم، وظهور الفِرَق الضالة عن المنهج الصحيح للإسلام، والذي كان له أكبر الأثر على ضعف المسلمين، وتسلُّط التتار والنصارى عليهم، وكذلك ما حصل بسبب هذه الطوائف والفِرَق من النزاع بين المسلمين أنفسهم، كالذي يحصل بين السُّنة والشيعة، وأثر ذلك على ضعف المسلمين وتفرُّقهم، وطمع الأعداء فيهم، من ذلك مثلًا ما ذكره ابن كثير في كتابه "البداية والنهاية" عند حوادث سنة 351هـ، فقال بعدما أورد الممارسات الخاطئة من بعض الرافضة مِن لعن أبي بكر وعمر وعثمان ومعاوية، وكتابة ذلك على المساجد: "ولا جرم أن الله لا ينصُرُ أمثال هؤلاء، ويديل عليهم أعداءهم؛ لمتابعتهم أهواءهم، وتقليدِهم سادتَهم وكُبَراءهم وآباءهم، وترك متابعة أنبيائهم وعلمائهم؛ ولهذا لما ملَكَتِ الفاطمية بلادَ الشام استحوذ على سواحلها كلِّها - حتى بيت المقدس - الفرنجُ، ولم يبقَ مع المسلمين سوى حلب وحمص وحماة ودمشق وبعض أعمالها، وجميع السواحل مع الفرنج،.....
والناس منهم في حصر عظيم، وضيق من الدِّين، وأهل هذه المدن التي في يد المسلمين في خوف شديد في ليلهم ونهارهم من الفرنج، فإنَّا لله وإنَّا له راجعون، كلُّ ذلك من بعض عقوبات المعاصي والذنوب، وإظهارِ سبِّ خير الخلق بعد الأنبياء"[8].
 
وقال عن الفاطميين[9]: "ظهرت في دولتهم البدع والمنكرات، وكثُر الفساد، وقلَّ عندهم الصالحون من العلماء والعبَّاد، وكثر بأرض الشام النُّصيرية[10] والدروز[11]...
وتغلَّب الفرنج على سواحل الشام بكامله...
وحين زالت أيامهم، وانقضى إبرامهم، أعاد الله هذه البلاد كلَّها على أهلها من السادة المسلمين، ورد الله الكفرة خائبين، وأركسهم[12] بما كسبوا في هذه الدنيا ويوم الدين"[13].
 
وقال رحمه الله في حوادث سنة 624هـ عن الإسماعيليه[14]: "وفيها قتلت الإسماعيلية أميرًا كبيرًا من نواب جلال الدين[15] خوارزم شاه، فسار إلى بلادهم، فقتَل منهم خلقًا كثيرًا، وخرَّب مدينتهم، وسبى ذراريَّهم، ونهب أموالهم، وقد كانوا - قبَّحهم الله - من أكبر العون على المسلمين لما قدم التتار إلى الناس، وكانوا أضَرَّ على الناس منهم"[16].
 
وقال رحمه الله عند تفسير الآية: ﴿ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ﴾ [التوبة: 123]: "وهكذا الأمر لما كانت القرون الثلاثة الذين هم خير الأمة في غاية الاستقامة والقيام بطاعة الله، لم يزالوا ظاهرين على عدوِّهم، ولم تزل الفتوحات كثيرة، ولم تزل الأعداء في سفال[17] وخسار، ثم لما وقعت الفتن والأهواء والاختلافات بين الملوك، طمع الأعداء في أطراف البلاد، وتقدَّموا إليها فلم يُمانعوا[18]؛ لشغل الملوك بعضهم ببعض، ثم تقدَّموا إلى حوزة الإسلام، فأخذوا من الأطراف بلدانًا كثيرة، ثم لم يزالوا حتى استحوَذوا على كثير من بلاد الإسلام، ولله سبحانه الأمرُ من قبلُ ومن بعد، فكلما قام ملك من ملوك الإسلام، وأطاع أوامر الله، وتوكَّل على الله، فتح الله عليه من البلاد، واسترجع من الأعداء بحسَبِه، وبقدر ما فيه من ولاية الله، والله المسؤول المأمول أن يمكِّن المسلمين من نواصي أعدائه الكافرين، وأن يعليَ كلمتهم في سائر الأقاليم، إنه جواد كريم"[19][20].
 
إلى غير ذلك من الأسباب التي جعلت ابنَ كثير يعتني بأمر العقيدة ويهتم به، وما ذاك إلا لأنها هي الأساس في الدعوة إلى الله، فأول ما دعت إليه الرسلُ - كما ذكرنا - هو عبادة الله وحده لا شريك له؛ ومن ثم كان للعقيدة مساحةٌ واسعة في الدعوة، ناهيك عن حيازتها المقام الأول في دعوة الناس إلى الله، فمنها ينطلق المسلم في تسيير شؤون حياته كلها، وبها يضبط مسيرته، ويوجِّه سلوكه، ويحقِّق الغاية من وجوده، والعقيدة هي أساس بناء تصوُّر المسلم عن الوجود كلِّه عن الله، وعن الكون والحياة والإنسان، ومن ثم إذا استقامت عقيدة الإنسان في ذلك كلِّه واستقام تصوُّرُه، فسوف يستقيم سلوكه، وتنضبط ممارساته وفق مقتضيات الإيمان بالله وتوحيده، وتطبيق منهجه في هذه الحياة الدنيا؛ ليفوز بخيرَيِ الدنيا والآخرة، وهذا من أسمى وأعلى أهداف الدعاة إلى الله.

[1] انظر تفسير القرآن العظيم 4/ 280 عند تفسير الآية: ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾ [الذاريات: 56].

[2] المرجع نفسه 4/ 40 عند تفسير الآية: ﴿ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ﴾ [ص: 27].

[3] المرجع نفسه 2/ 626 عند تفسير الآية: ﴿ قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ ﴾ [الرعد: 16].

[4] انظر تفسير القرآن العظيم 3/ 138.

[5] المرجع نفسه 3/ 391.

[6] انظر تفسير القرآن العظيم 2/ 372.

[7] المرجع نفسه 4/ 316.

[8] البداية والنهاية 15/ 255 -256.

[9] الفاطميون أو العُبيديون، وهم شيعة رافضة ادعَوا كذبًا وزورًا أنهم من نسل فاطمة الزهراء، اختلف المؤرخون في نَسَبِهم، فقيل: ينسبون إلى إسماعيل بن جعفر الصادق؛ لذا سُمُّوا بالإسماعيلية أيضًا، وقيل: إنهم يرجعون إلى رجل فارسي، هو عبدالله بن ميمون القداح الأهوازي الثنوي المذهب، الذي يقول بوجود الآلهة "إله النور، وإله الظلمة" (انظر موجز التاريخ الإسلامي، أحمد معمور العسيري، ص 210 مطابع الابتكار، ط3، 1420هـ).

[10] النُّصيريَّة: نسبة إلى محمد بن نصير النميري، وكان من أصحاب الحسن العسكري، وادعى النبوة ثم الربوبية، ويزعمون أن الله حلَّ في عليٍّ رضي الله عنه، ويعتقدون إباحة المحرَّمات، ويسبُّون فاطمة بنت الرسول صلى الله عليه وسلم، ويكرمون عبدالرحمن بن ملجم؛ لاعتقادهم أنه خلَّص روح اللاهوت من الجسد والتراب، وذلك بقتله عليًّا رضي الله عنه (انظر الملل والنحل 1/ 188-189، ومذاهب الإسلاميين للدكتور عبدالرحمن بدوي 2/ 427 وما بعدها، طبعة دار العلم للملايين بيروت، ط1 1973م).

[11] الدروز: نسبة إلى درزي بن محمد، كما يسمونه، وهو أبو عبدالله محمد بن إسماعيل الدرزي، وإنما انتسبوا إليه تقيةً حين طوردوا، والمذهب الدرزي هو مذهب باطنيٌّ، وقد كان حمزة بن علي بن أحمد الفارسي الحاكمي الدرزي من كبار الباطنية ومن مؤسسي المذهب الدرزي، حيث اتصل برجال الدعوة السرية في القاهرة من شيعة الحاكم بأمر الله الفاطمي، فأصبح من أركانها، واستمر يعمل لها في الخفاء، ويواصل رفع كتبه إلى الحاكم، حتى كانت سنة 408هـ فأظهَرَ الدعوة، وجاهَرَ بتأليه الحاكم، وقال: إنه رسوله، وأقَرَّه الحاكم على ما نعت به نفسه، فلقَّبه برسول الله، وجعله داعي الدعاة، ولما هلك الحاكم وحل ابنه (الظاهر لإعزاز دين الله) محله سنة 411هـ، فترت الدعوة، ثم طوردت بعد براءة الظاهر منها سنة 414هـ، فاضطر حمزة إلى الرحيل بعد ذلك بجبل الدروز في سورية، وحمزة عندهم أول الحدود الخمسة المعصومين، ويكنون عنه بالعقل، ويقولون: إنه أمر بإقامة أركان الدين، وهي عندهم (صدق اللسان، وحفظ الإخوان، وترك جميع الأديان، والابتعاد عن مهاوي الشرك والبهتان، والإقرار بوحدانية كل الأزمان، والرضا بفعله كيفما كان، والتسليم لأمره في كل آن) (انظر الأعلام 2/ 278).

[12] أركسهم: أي ردَّهم، المعجم الوسيط ص 369.

[13] البداية والنهاية 16/ 456 - 457.

[14] الإسماعيلية: نسبة إلى محمد بن إسماعيل، وهم ليسوا على دينه، ويدَّعون أنه الذي كتم السر الباطن الذي أُنزِل على محمد صلى الله عليه وسلم، وأمر بكتمه عن الناس، إلا عن وصيه علي بن أبي طالب، واستكتمه أن لا يخرج منه ذلك إلا لمن يخلفه من الأئمة المعصومين من ذريته، حتى انتهى ذلك إلى محمد بن إسماعيل، وأنكروا حقائق اليوم الآخر، وحملوها على تأويلات اصطلحوا عليها؛ فمثلًا القيامة: حدوث الشر، والميزان: ميزان الحكمة.
(انظر التنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع؛ لأبي الحسين محمد بن أحمد الملطي ص 32، طبعة مكتبة المغني بغداد ومكتبة المعارف 1388هـ).

[15] جلال الدين خوارزم بن السلطان علاء الدين، كان يُضرب به المثل في الشجاعة والإقدام، كثير الجولان في البلدان، ما بين الهند إلى ما وراء النهر، إلى العراق إلى فارس إلى كرمان إلى أرمينية وإذربيجان وغير ذلك، وافتتح المدن، وسفك الدماء، وظلم وعسف وغدر، قال: ومع ذلك كان صحيح الإسلام، وكان ربما قرأ في المصحف وبكى، وآل أمرُه إلى أنْ تَفرَّق عنه جيشه، حتى يقال: إنه سار في نفر يسير فبيَّته كرديٌّ في منزله وطعنه بحربة وقتله بها سنة 629هـ (مرآة الحنان وعبرة اليقظان في حوادث الزمان، لليافعي 2/ 163).

[16] البداية والنهاية 17/ 158.

[17] سفال: نزول وانحطاط، المعجم الوسيط ص 434.

[18] أي يحموا أطراف البلاد.
انظر المعجم الوسيط ص 888.

[19] انظر تفسير القرآن العظيم 2/ 496.

[20] انظر مثلًا 15/ 636، 16/ 113، 17/ 261، 17/ 273، 17/ 348، 17/ 358، 17/ 359.
وغير ذلك من الأمثلة والحوادث الكثيرة التي ذكرها ابن كثير، والتي تدل على أثر الانحراف العقدي على ضعف المسلمين وتفرُّقهم، وكذلك أثر الفِرَق الضالة والمنحرفة على معاونة الكفار والنصارى على المسلمين وتواطئهم معهم.
 

شارك الخبر

ساهم - قرآن ١