أرشيف المقالات

في رحاب سورة الشورى

مدة قراءة المادة : 32 دقائق .
في رحاب سورة الشورى


يقول الحق تبارك وتعالى في سورة الشورى:
﴿ فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ * وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ * وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ * إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ * وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ ﴾ [الشورى: 36 - 44].
 
تسرد لنا الآيات الكريمة صفات نخبة من الأذكياء، أصحاب الفكر الأوثق، والنظر الأثقب، الذين وضعوا كل شيء في نصابه الصحيح - وهذا وصف الحكماء - فبان لهم، وميزوا ما بين ما هو زائل وما هو خير وأبقى، فصبروا على الاستكثار من متاع الدنيا الزائل؛ استبقاء للنعيم الدائم والخير الباقي في الآخرة، ولكي نطمع أن نكون منهم يحسن بنا أن نقترب أكثر وأكثر منهم؛ فهم:

1- الذين آمنوا.2- ﴿ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ﴾ [الشورى: 36].3- ﴿ وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ ﴾.4- ﴿ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ ﴾ [الشورى: 37].5- ﴿ وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ ﴾.6- ﴿ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ ﴾.7- ﴿ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ ﴾.8- ﴿ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ﴾ [الشورى: 38].

 
وسنتناول ها هنا منهم ذوي الصفات الأربعة الأخيرة منهم؛ وهم:

1- ﴿ وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ ﴾ [الشورى: 39].2- ﴿ وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ﴾ [الشورى: 40].3- ﴿ وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ * إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [الشورى: 41، 42].
4- ﴿ وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ﴾ [الشورى: 43].

 
في هذا الزمان العجيب الذي لا تعرف العدالة الاجتماعية فيه أيَّ منطق أو قواعد عقلية، تضيق الأرزاق بالغالبية من البشر، في حين تجد أن ثروة البعض تتخطى ثروة نصف سكان العالم، قالت مؤسسة أوكسفام الخيرية الدولية: إن أغنى 26 شخصًا في العالم يملكون ما يعادل ثروة نصف سكان العالم، هؤلاء الأشخاص ما كان لهم أن يجمعوا ما جمعوا إلا بعون من تلك المليارات من البشر، وما كان لهم ذلك إلا بسبب اختلال ميزان العدالة، وانعدام تكافؤ الفرص، وانحياز القوانين الوضعية التي صنعها البشر لصالحهم، والتي تبيح الربا، وتتيح الاستغلال، ولا تبالي بالأخلاق، والتي لا تعترف للفقراء بأي حق في أموال الأغنياء، رغم أن المال على الحقيقة نتاج هؤلاء الفقراء، نتاج الكدح في الحقول، والعرق في المصانع، والكد في المناجم، والغوص في البحار، فهو من صنع الخالق العظيم رب العالمين، وبجهد هؤلاء الفقراء المهمشين وكدِّهم، وما هؤلاء النفر القليل سوى الجامعين والحاصدين لكل ذلك، هذا الخلل ناتج عن ما تفشى من الظلم الاجتماعي بسبب القوانين الوضعية، وحاكمية البشر وتسلطهم، وهو ما تتعرض له تلك الآيات الحكيمة؛ يقول تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ * وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ * إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ * وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ ﴾ [الشورى: 39 - 44].
 
كأني بتلك الآيات تخاطب:
• المؤمن القادر الذي يقدر على الانتصار على من بغى عليه، والانتصار على شهوة الانتقام في نفسه، فإذا هو يعفو ويصلح حين يقدر، ولو وصل لهذه المكانة الرفيعة، لنال الأجر من لدن رب العزة عز جاهه، ويا له من أجر!
 
• وتخاطب أيضًا المؤمن غير القادر الذي لا وليَّ له إلا الله، فهو المنتصِف يوم الحساب، والمنتصر عند الجزاء، ﴿ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾ [الشعراء: 88، 89].
 
والبغي هو الظلم، والانتصار منه هو رده بالمثل دون تجاوز ودون انتقام، فالانتقام محله هو عندما تنتهك حدود الله؛ فقد ثبت في الصحيح المتفق عليه عن أمنا عائشة رضي الله عنها قالت: ((ما خُيِّر رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين قط إلا أخذ أيسرهما، ما لم يكن إثمًا، فإن كان إثمًا كان أبعد الناس منه، وما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه في شيء قط، إلا أن تنتهك حرمة الله، فينتقم بها لله))؛ فالحديث يبيِّن أن رد الظلم ومدافعة الظلمة من حق الله، وحق الله عند المؤمن متداخل مع حقه، وكان التعبير في الخَلَّتين بـ((وما انتقم)).
 
فالمؤمن ليس بخوَّار ولا عاجز، ولا جبان ولا ذليل، هو ينتصر لنفسه، ويذود عنها ضد كل من يتجاوز في حقه، فالبغي يتخطى الظلم إلى الفساد، والمؤمن يكون أشد انتقامًا لمن يبغي على حق الله، وينتهك حرمات الله، أكثر مما ينتقم ممن يبغي عليه وعلى أهله وعلى ماله؛ وفي سنن الترمذي عن سعيد بن جبير: ((من قُتل دون ماله فهو شهيد، ومن قُتل دون دينه فهو شهيد، ومن قُتل دون دمه فهو شهيد، ومن قُتل دون أهله فهو شهيد))، وهو في صحيح النسائي: ((من قاتل))، وهذا الحديث يضم العام على الخاص، فكأنه صلى الله عليه وسلم يقول للمؤمن بأن الإسلام كما أمر بحفظ حدود الله، أمر كذلك بما يحفظ به مالك ونفسك وأهلك، فحق المؤمن في الذود عن حقه داخل في حق الله، وفي الحفاظ على دينه وشرعه.
 
والانتصار يكون عند المقدرة، وقد يكون عند غيرها؛ فقد يكون بالحيلة أو بأي شيء آخر، ولكن العفو لا يكون إلا عند المقدرة؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم حارب كفار قريش ما استطاع؛ جزاء ما آذوا، وفتنوا المسلمين، فلما قدر عليهم وكان الفتح المبين، عفا عنهم.
 
• قال السدي رحمه الله في قوله: ﴿ وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ ﴾ [الشورى: 39]، قال موضحًا: ينتصرون ممن بغى عليهم من غير أن يعتدوا؛ لأن الله لم يخصص من ذلك معنى دون معنى، بل حمد كل منتصر بحقٍّ ممن بغى عليه، فإن قال قائل: وما في الانتصار من المدح؟ قيل: إن في إقامة الظالم على سبيل الحق وعقوبته بما هو له أهل تقويمًا له، وفي ذلك أعظم المدح، والانتصار ليس فقط على الكافر، بل هو عام في بغي كل باغٍ من كافر وغيره؛ أي: إذا نالهم ظلم من ظالم لم يستسلموا لظلمه، وهذه إشارة إلى الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وإقامة الحدود.
 
• قال ابن العربي: "ذكر الله الانتصار في البغي في معرض المدح، وذكر العفو عن الجرم في موضع آخر في معرض المدح، فاحتمل أن يكون أحدهما رافعًا للآخر، واحتمل أن يكون ذلك راجعًا إلى حالتين؛ إحداهما أن يكون الباغي معلنًا بالفجور وقحًا في الجمهور، مؤذيًا للصغير والكبير، فيكون الانتقام منه أفضل، فهو راجع إلى حالين، وهذا القول أفضل من القول بالنسخ الذي أسهب فيه البعض".
 
• وفي مثله قال إبراهيم النخعي: كانوا يكرهون أن يذلوا أنفسهم فتجترئ عليهم الفساق، فهم هنا ينتصرون، أما الثانية: أن تكون الفلتة، أو يقع ذلك ممن يعترف بالزَّلَّة، ويسأل المغفرة، فالعفو ها هنا أفضل، وفي مثله نزلت ﴿ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ﴾ [البقرة: 237]، وقوله تعالى: ﴿ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ ﴾ [المائدة: 45].
 
• قال العلماء: جعل الله المؤمنين صِنفين: صنفًا يعفون عن الظالم، وصنفًا ينتصرون من ظالمهم، ثم بيَّن حد الانتصار بقول: ﴿ وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا ﴾ [الشورى: 40]، فينتصر ممن ظلمه من غير أن يعتدي.
 
• وتأوَّل الشافعي في هذه الآية أنَّ للإنسان أنْ يأخذ مِن مال مَن خانه مثلما خانه من غير علمه، واستشهد في ذلك بقول النبي صلى الله عليه وسلم لهند زوج أبي سفيان: ((خذي من ماله ما يكفيك وولدك))، فأجاز لها أخذ ذلك بغير إذنه.
 
• قال ابن عباس: "من ترك القصاص وأصلح بينه وبين الظالم بالعفو، فأجره على الله"؛ أي: إن الله يأجره على ذلك، قال مقاتل: "فكان العفو من الأعمال الصالحة"، وذكر أبو نعيم الحافظ عن علي بن الحسين رضي الله عنهم قال: "إذا كان يوم القيامة نادى منادٍ: أيكم أهل الفضل؟ فيقوم ناس من الناس، فيُقال: انطلقوا إلى الجنة فتتلقاهم الملائكة، فيقولون: إلى أين؟ فيقولون: إلى الجنة، قالوا: قبل الحساب؟ قالوا: من أنتم؟ قالوا: أهل الفضل، قالوا: وما كان فضلكم؟ قالوا: كنا إذا جُهل علينا حلمنا، وإذا ظُلمنا صبرنا، وإذا سِيء إلينا عفونا، قالوا: ادخلوا الجنة، فنعم أجر العاملين.
 
• وقوله تعالى: ﴿ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ﴾ [الشورى: 40]؛ أي: من بدأ بالظلم؛ قاله سعيد بن جبير.
 
• قال القرطبي: "المسلم إذا انتصر من الكافر فلا سبيل إلى لومه، بل يُحمد على ذلك مع الكافر، ولا لوم إن انتصر الظالم من المسلم، فالانتصار من الكافر حَتْمٌ، ومن المسلم مباح، والعفو مندوب".
 
• وفي قوله تعالى: ﴿ وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ ﴾ [الشورى: 41] دليل على أن له أن يستوفيَ ذلك بنفسه، وهذا ينقسم ثلاثة أقسام: أحدها: أن يكون قصاصًا في بدن يستحقه آدمي، فلا حرج عليه إن استوفاه من غير عدوان، وثبت حقه عند الحكام، لكن يزجره الإمام في تفوته بالقصاص؛ لِما فيه من الجرأة على سفك الدم، وإن كان حقه غير ثابت عند الحاكم، فليس عليه فيما بينه وبين الله حرج، وهو الظاهر مطالب، وبفعله مؤاخذ ومعاقب، القسم الثاني: أن يكون حدُّ الله تعالى ليس حقًّا لآدمي فيه كحد الزنا وقطع السرقة، فإن لم يثبت ذلك عند حاكم، أُخذ به وعُوقب عليه، وإن ثبت عند حاكم نظر، فإن كان قطعًا في سرقة، سقط به الحد؛ لزوال العضو المستحق قطعه، ولم يجب عليه في ذلك حق؛ لأن التعزير أدب، وإن كان جلدًا لم يسقط به الحد لتعديه مع بقاء محله، فكان مأخوذًا بحكمه، القسم الثالث: أن يكون حقًّا في مال، فيجوز لصاحبه أن يغالب على حقه، حتى يصل إليه إن كان ممن هو عالم به، فإن كان غير عالم نظر، فإن أمكنه الوصول إليه عند المطالبة لم يكن له الاستسرار بأخذه، وإن كان لا يصل إليه بالمطالبة لجحود من هو عليه من عدم بينة تشهد له، ففي جواز استسراره بأخذه مذهبان؛ أحدهما: جوازه، وهو قول مالك والشافعي، الثاني: المنع، وهو قول أبي حنيفة.
 
• قال ابن كثير في قوله تبارك وتعالى: ﴿ وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا ﴾ [الشورى: 40] كقوله تعالى: ﴿ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ ﴾ [البقرة: 194]، وكقوله: ﴿ وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ ﴾ [النحل: 126]؛ الآية، فشرع العدل وهو القصاص، وندب إلى الفضل وهو العفو؛ كقوله جل وعلا: ﴿ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ ﴾ [المائدة: 45]؛ ولهذا قال ها هنا: ﴿ فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ﴾ [الشورى: 40]؛ أي: لا يضيع ذلك عند الله؛ كما صح ذلك في الحديث: ((وما زاد الله تعالى عبدًا بعفو إلا عزًّا))، وقوله تعالى: ﴿ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ﴾ [الشورى: 40]؛ أي: المعتدين، وهو المبتدئ بالسيئة، ثم قال جل وعلا: ﴿ وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ ﴾ [الشورى: 41]؛ أي: ليس عليهم جناح في الانتصار ممن ظلمهم؛ روى النسائي عن عروة قال: قالت عائشة رضي الله عنها: ((ما علمت حتى دخلت على زينب بغير إذن وهي غضبى، ثم قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: حسبك إذا قلبت لك ابنة أبي بكر درعها، ثم أقبلت عليَّ، فأعرضتُ عنها، حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم: دونكِ فانتصري، فأقبلتُ عليها حتى رأيت ريقها قد يبِس في فمها، ما ترد عليَّ شيئًا، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم يتهلل وجهه))؛ [أخرجه النسائي، وابن ماجه، واللفظ للنسائي]، وروى البزار عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من دعا على من ظلمه فقد انتصر))؛ [أخرجه البزار والترمذي].
 
• وقوله عز وجل: ﴿ إِنَّمَا السَّبِيلُ ﴾ [الشورى: 42]؛ أي: إنما الحرج والعنت، ﴿ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ ﴾ [الشورى: 42]؛ أي: يبدؤون الناس بالظلم؛ كما جاء في الحديث الصحيح: ((المستبَّان ما قالا، فعلى البادئ ما لم يعتدِ المظلوم)).
 
• وقال الفضيل بن عياض: "إذا أتاك رجل يشكو إليك رجلًا، فقل: يا أخي اعفُ عنه، فإن العفو أقرب للتقوى، فإن قال: لا يحتمل قلبي العفو، ولكن أنتصر كما أمرني الله عز وجل، فقل له: إن كنت تحسن أن تنتصر، وإلا فارجع إلى باب العفو، فإنه باب واسع، فإنه من عفا وأصلح فأجره على الله، وصاحب العفو ينام على فراشه بالليل، وصاحب الانتصار يقلِّب الأمور"؛ [رواه ابن أبي حاتم من كلام الفضيل].
 
• روى الإمام أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ((إن رجلًا شتم أبا بكر رضي الله عنه والنبي صلى الله عليه وسلم جالس، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يعجب ويبتسم، فلما أكثر ردَّ عليه بعض قوله، فغضِب النبي صلى الله عليه وسلم، وقام فلحقه أبو بكر رضي الله عنه فقال: يا رسول الله، إنه كان يشتمني وأنت جالس، فلما رددت عليه بعض قوله غضِبتَ، وقمت، قال: إنه كان معك مَلَكٌ يرد عنك، فلما رددت عليه بعض قوله، حضر الشيطان، فلم أكن لأقعد مع الشيطان، ثم قال: يا أبا بكر، ثلاث كلهن حق: ما من عبدٍ ظُلم بمظلمة فيغضي عنها لله إلا أعزه الله تعالى بها ونصره، وما فتح رجل باب عطية يريد بها صلة إلا زاده الله بها كثرة، وما فتح رجل باب مسألة يريد بها كثرة إلا زاده الله عز وجل بها قلة))؛ [أخرجه أحمد وأبو داود]، وهذا الحديث في غاية الحسن في المعنى، وهو الأنسب لمن هم في مثل مقام الصديق رضي الله عنه.
 
• وقال الشيخ الشعراوي: "الحق سبحانه وتعالى رحيم بعباده، لطيف بهم، وحينما أجاز لهم الرد بالمثل في القصاص وفي المظالم، أراد سبحانه أن يُرضِيَ مواجيد المظلوم وعواطفه، وأن يريحه بالانتقام من ظالمه، لكن ضيَّق هذا الباب، في حين أوسع باب العفو ورغب فيه، ضيَّق عليك باب الانتقام؛ حينما قال: ﴿ وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ ﴾ [النحل: 126].
 
فالحق سبحانه حينما قال: ﴿ وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا ﴾ [الشورى: 40]؛ إنما ليريح قلبك، ويُنهي العداوة والبغضاء بين الطرفين، لكن أتضمن حين تنتقم أن ترد بالمثل؟ إن المثلية هنا أمر شاق جدًّا لا يقدر أحد عليه، ففي أبسط الأمور لو شخص ضرب الآخر ضربة، أو لطمه لطمة على وجهه، أيستطيع أن يرد بمثلها دون زيادة؟ ولو زاد عليها، لكان هو الآخر ظالمًا؛ إذًا في العفو سعة ومخرج من هذا الحرج، ومن هذا التضييق؛ لذلك يقول تعالى: ﴿ فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ﴾ [الشورى: 40]، وكأن الانتقام لا بد أن يجر صاحبه إلى منطقة الظلم".
 
وعن الإمام علي رضي الله عنه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا كان يوم القيامة نادى منادٍ يقول: من كان أجره على الله فليقُم للجنة، فلم يردَّ أحد، فقال: من كان أجره على الله فليقم للجنة - يعني بغير حساب – فقالوا: ومن الذي أجره على الله؟ قال: العافي عمن أساء إليه)).
 
ورُوي ((أن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ذات يوم بين أصحابه، فضحك، فسأله عمر رضي الله عنه: ما أضحكك يا رسول الله؟ قال: رأيت ربي يفصل في خصومة بين اثنين، فقال أحدهما: ربِّ، إن هذا أساء إليَّ فخذ من حسناته، وأعطني بقدر إساءته، فقال له: ليس له حسنات، لكن انظر، فنظر فإذا بقصور وأشياء عجيبة، فقال: لمن هذه يا رب؟ قال: لمن عفا عن أخيه، فقال: عفوت عنه، فقال: فخذ بيد أخيك وادخلا الجنة))، ولك أن تتأمل كيف يصلح الخالق الخَلْقَ بهذه القيم؟ وما علينا إلا أن نخرجها من المجال النظري إلى التطبيق والعمل.
 
والسيئة في قوله تعالى: ﴿ وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا ﴾ [الشورى: 40]؛ يعني: عمل فيه إساءة لك بقول أو فعل، وليست سيئة الذنوب والمعاصي في حق الله تعالى.
 
• والقصاص ومسألة الظَّفَر يتداخلان، وهما من العدل الذي قامت به السماوات والأرض، وقام به شرع رب العباد؛ كي لا ينتشر الظلم والبغي، وتضيع الحقوق بينهم؛ روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قولَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة، حتى يُقاد للشاة الجلحاء، من الشاة القرناء)).
 
مسألة الظفر في الفقه؛ وهي:
هل لك أن تأخذ مِن مال مَن ظلمك بمقدار حقك دون اعتداء؟
 
وهذا الأمر مطروح في كتب الفقه بإسهاب؛ وخلاصته:
من المعلوم من الدين بالضرورة أن الإسلام قد حرم الظلم بكافة أشكاله وألوانه، بل وعد الشرع الحنيف أن المطْلَ في استيفاء الحقوق ظلم؛ روى البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((مطل الغني ظلم، وإذا أُتْبِعَ أحدكم على مَلِيءٍ فليَتْبَعْ))، والمطل هو التسويف وتأخير أداء الحقوق لمن يمكنه الأداء بغير عذر، فتطول المدة ها هنا على صاحب الحق؛ فيكون ذلك ظلمًا له.
 
وقال النووي في شرح: ((وإذا أتبع أحدكم على مليء فليتبع)): "معناه: وإذا أُحيل بالدَّين الذي له على مُوسِر، فلْيَحْتل".
 
وقال الشيخ ابن عثيمين في شرحه لرياض الصالحين: "مطل الغني ظلم يعني: ممانعة الإنسان الذي عليه دين عن الوفاء، وهو غني قادر على الوفاء فيه ظلم؛ وهذا لأنه منع ما يجب؛ لأن الواجب على الإنسان أن يبادر بالوفاء إذا كان له قدرة، ولا يحل له أن يؤخر، فإن أخَّر الوفاء وهو قادر عليه كان ظالمًا، وقوله: ((من أحيل على مليء فليتبع))؛ يعني: إذا كان إنسان له حقٌّ على زيد، وقال له زيد: أنا أطلب عمرًا مقدار حقي؛ يعني - مثلًا - زيد مطلوب 100 ريال، وهو يطلب عمرًا 100 ريال، فقال: أنا أحيلك على عمرو في 100 ريال، فليس للطالب أن يقول: لا أقبل؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ((من أحيل على مليء، فليتبع))، إلا إذا كان المحول عليه فقيرًا، أو مماطلًا، أو قريبًا للشخص لا يستطيع أن يرافعه عند الحاكم، المهم إذا وجد مانع، فلا بأس أن يرفض الحوالة، وأما إذا لم يكن مانع، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أن يقبل الحوالة، قال: ((فليتبع))، ومعناه البسيط بأنه مقرٌّ بما عليه، لكنه يقول للدائن: سأحيلك إلى فلان كي يدفعه لك، ومثله سأعطيك شيكًا بقدر مالك لتصرفه من المصرف الفلاني، فهو مقر باستحقاق ما عليه في الحالين".
 
وقال الشيخ: "اختلف العلماء هل هذا على سبيل الوجوب، أو أن هذا على سبيل الاستحباب؟ فذهب الحنابلة رحمهم الله إلى أن هذا على سبيل الوجوب، وأنه يجب على الطالب أن يتحول إن حُوِّل على إنسان مليء، وقال أكثر العلماء: إنه على سبيل الاستحباب؛ لأن الإنسان لا يلزمه أن يتحول، قد يقول: صاحب الأول أهون وأيسر، وأما الثاني فأهابه، وأخاف منه، وما أشبه ذلك، لكن لا شك أن الأفضل أن يتحول إلا لمانع شرعي.
 
قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: "قيل في مسألة الظفر: إن الفقهاء اختلفوا فيها على خمسة أقوال:
• ظاهر مذهب أحمد ومالك أنه ليس له أن يخون من خانه، ولا يجحد من جحده، ولا يغصب من غصبه.
• وقال أصحاب الشافعي: يجوز له أن يستوفي قدر حقه إذا ظفر بجنسه أو غير جنسه، وفي غير الجنس يدفعه إلى الحاكم يبيعه، ويستوفي ثمنه منه، وهذا قول أصحاب الشافعي.
• وقال أصحاب أبي حنيفة: يجوز له أن يستوفي قدر حقه إذا ظفر بجنس ماله، وليس له أن يأخذ من غير الجنس.
• وفي إحدى الروايات عن مالك أنه إن كان عليه دَين لغيره لم يكن له الأخذ، وإن لم يكن عليه دين فله الأخذ.
• إن كان سبب الحق ظاهرًا كالنكاح والقرابة وحق الضيف، جاز للمستحق الأخذ بقدر حقه، كما أذن فيه النبي لهند أن تأخذ من مال أبي سفيان ما يكفيها ويكفي بنيها".
• والإمام ابن القيم هنا يشير إلى قوله تعالى: ﴿ لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا ﴾ [النور: 61].
 
• وقوله صلى الله عليه وسلم الذي رواه البخاري عن عقبة بن عامر: ((قلنا للنبي صلى الله عليه وسلم: إنك تبعثنا، فننزل بقوم لا يقروننا، فما ترى فيه؟ فقال لنا: إن نزلتم بقوم، فأُمر لكم بما ينبغي للضيف فاقبلوا، فإن لم يفعلوا، فخذوا منهم حق الضيف))، فإقراء الضيف مما يحض عليه الإسلام، فهو حق، وهو من مكارم الأخلاق، ومما أمر به صاحب الخلق العظيم صلى الله عليه وسلم، والملاحظ في الحديث أنهم مبعوثون لأداء مهمة من قِبل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومما لا يخفى مشقة السفر في تلك الأيام وبُعْد المسافات، فكانت القِرَى واجبة ومأمورًا بها، ثم قال العلماء: لكن الحال تغير، فكان الأرجح هو الأخذ بقوله صلى الله عليه وسلم: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليكرم ضيفه))، جائزته يوم وليلة، والضيافة ثلاثة أيام، فما بعد ذلك فهو صدقة، ولا يحل له أن يثوي عنده حتى يحرجه، حدثنا إسماعيل، قال: حدثني مالك: مثله، وزاد: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليقل خيرًا أو ليصمت))، والجائزة تفضل وليست بالواجب، ويبقى قِرَى الضيف من الحق الظاهر الواجب، لكن ذلك موقوف على الإحسان ما لم يحدث أخذه مفسدة أكبر.
 
وقال العلامة ابن عثيمين رحمه الله ما يوجز ويجمل كل ذلك: "لا يجوز إلا إذا كان سبب الحق ظاهرًا، مثل لو كان الحق نفقةً مثل الزوجة تأخذ من مال زوجها إذا لم يقم بواجب النفقة، وكالقريب يأخذ من مال قريبه، إذا لم يقم بواجب النفقة، فهذا لا بأس به، وكذلك الضيف يأخذ من مال من استضافه، إذا لم يقم بواجب الضيافة، فهذا لا بأس به، لكن بشرط: ألَّا يكون في ذلك فتنة، وألَّا يكون في ذلك سببٌ للعداوة والبغضاء والشِّجار، وأما مسألة أن يأخذ حقًّا ليس سببه ظاهرًا، فإنه لا يجوز له، بل إنما الواجب أن يكف يده عما وجد، ثم يخاصم صاحبه، وأبواب المحاكم مفتوحة، ولله الحمد.
 
وخلاصة ما جاء في المذاهب الأربعة أنهم لم ينكروا حصول صاحب الحق على حقه، وإنما:


• الأحناف قالوا: يستوفي دَينه الظاهر بالبينة ممن يجحده وينكره، ولو بغير رضاه، واشترطوا أن يكون من جنسه البحر الرائق، والمالكية بين المنع والكراهة والإباحة والاستحباب، والحنابلة قالوا: إن من له على إنسان حق، لم يمكن أخذه بحاكم، وقدر له أخذ قَدْر حقه.
 


• وعند الشافعية له أن يأخذ من جنس حقه، ومن غير جنس حقه، فإن كان من عليه الحق منكرًا، ولا بينة لصاحب الحق أخذ جنس حقه، فإن فَقَدَ أخذ غيره وباعه واشترى به جنس حقه غير متجاوز في الوصف أو القدر، وقيَّد الشافعية ذلك بأمور:


أولًا: إن يرفع الأمر إلى القاضي، واطلع عليه، لم يبعه إلا بإذن القاضي جزمًا.
ثانيًا: ألَّا يقدر على البينة وإلا فلا يستقل مع وجودها بالبيع والتصرف.
ثالثا: ألَّا يبيع لنفسه، فإن تلف المأخوذ وكان من غير الجنس قبل بيعه وشراء جنس حقه، فهو ضامن؛ لأنه أخذه لحظ نفسه.
 
وقال الإمام القرطبي في تفسيره لقوله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا ﴾ [النساء: 58]: "والصحيح جواز ذلك كيفما توصل إلى أخذ حقه ما لم يعد سارقًا، وهو مذهب الشافعي، وحكاه الداودي عن مالك، وقال به ابن المنذر، واختاره ابن العربي، وأن ذلك ليس خيانة، وإنما هو وصول إلى حق، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا))، وأخذ الحق من الظالم نصرٌ له".
 
وقال: "واختلفوا إذا ظفر له بمال من غير جنس ماله، فقيل: لا يأخذ إلا بحكم الحاكم، وللشافعي قولان، أصحهما الأخذ، قياسًا على ما لو ظفر بجنس ماله، والقول الثاني: لا يأخذ لأنه خلاف الجنس، ومنهم من قال: يتحرى قيمة ما له عليه، ويأخذ مقدار ذلك، وهذا هو الصحيح لما بيناه من الدليل؛ وهو:

1- قوله تعالى: ﴿ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا ﴾ [الشعراء: 227].
 

2- وما ثبت في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها: ((أن هند بنت عتبة قالت: يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل شحيح وليس يعطيني ما يكفيني وولدي، إلا ما أخذت منه، وهو لا يعلم، فقال: خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف)).
 

3- وحديث عقبة بن عامر المتفق عليه، قال: ((قلنا للنبي صلى الله عليه وسلم: إنك تبعثنا فننزل بقوم لا يقروننا، فما ترى فيه؟ فقال لنا: إن نزلتم بقوم فأمروا لكم بما ينبغي للضيف، فاقبلوا، فإن لم يفعلوا، فخذوا منهم حق الضيف الذي ينبغي لهم)).

 
وقد ضعَّف الشافعي، وأحمد، والبيهقي، وابن حزم، وابن الجوزي، حديثَ: ((ولا تخن من خانك))، وذكر ابن حجر تضعيف من سبق، ولم يتعقب ذلك بشيء؛ قال الشافعي رحمه الله في الأم: "وبفرض صحة هذا الحديث فليس من أخذ حقه بخائن، وتبقى الخيانة محرمة قطعًا".
 
ثم قال: "فالخيانة أخذ ما لا يحل أخذه، فلو خانني درهمًا قلت: قد استحل خيانتي لم يكن لي أن آخذ منه عشرة دراهم مكافأة بخيانته لي، وكان لي أن آخذ درهمًا، ولا أكون بهذا خائنًا، ولا ظالمًا، فمن أخذ حقه من ظالم ممتنع من أداء ما عليه ولا بينة له، فيجب عليه أن يتحرى الدقة، ولا يتجاوز الحق الذي له، فمن تجاوز وأخذ حق غيره، فإنما يأخذ قطعة من النار، كما ثبت في الحديث عن أم سلمة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون إليَّ، ولعل بعضكم أن يكون ألحنَ بحجته من بعض، فأقضي على نحو ما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه شيئًا، فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعةً من النار))؛ [متفق عليه].
 
وختامًا يقول رب العزة: ﴿ وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ ﴾ [الرعد: 22].

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٢