أرشيف المقالات

التبرعات وأثرها في المجتمع

مدة قراءة المادة : 11 دقائق .
2التبرعات وأثرها في المجتمع
التبرُّعات طاعة لله، وتكافل الصدقة له أثرٌ كبير في القضاء على مشكلة الفقر، وقد رغَّب الإسلامُ في تقديم العون للمحتاجين بسبب الفقرِ أو غيره.   صدقة التطوُّع: ما يقدِّمه المسلم تقرُّبًا إلى الله عز وجل (من غير الفريضة)، ولا يشترط لها شروط، فتُعطَى في أيِّ وقت وعلى أيِّ مقدار، وهي مستحبَّة.   فضل الصدقة: ورد فيها الكثير من الآيات والأحاديث، منها: قول الله تعالى: ﴿ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ [البقرة: 274].   ومن السُّنة: عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: ((ما من يومٍ يصبح العبادُ فيه إلاَّ مَلَكانِ ينزلان، فيقول أحدهما: اللهمَّ أعطِ مُنفقًا خَلَفًا، ويقول الآخَرُ: اللهمَّ أعطِ مُمسكًا تَلفًا))؛ مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.   المسلم يُقبل على الصدقة مَرضاةً للخالق سبحانه وتعالى، وشكرًا على نعمِه، وقد تؤدَّى بشكلٍ فردي؛ كمن يُعطي مسكينًا يراه في الطريق، أو من يتكفَّل بتأمين نفقات أسرةٍ فقيرة أو علاجهم أو تعليم أحد أبنائهم في الجامعة، كما تكون (الصدقة) على شكل تبرُّعات جماعية ومنظَّمة لمساعدة فئاتٍ من المجتمع؛ كالأرامل والأيتامِ والمرْضى وطلاَّب العلم، أو لطباعة المصاحف، أو لبناء مساجد، أو حفرِ آبار، وغير ذلك من وجوه الخير.   يتمُّ جمع التبرعات بطرقٍ مختلفة، منها: إقامة بازار خيرِي ودعوة الناس للشراء منه والأرباح تعود لصالح فئة معيَّنة، أو شراء كوبون أو وَضْع صناديق زجاجيَّة في أماكن عامَّة كالمستشفيات يضع فيها المتبرِّع ما تجود به نفسُه لجهة خيرية، وقد تؤسَّس جمعيات لجمع التبرُّعات من أفراد القبيلة أو القريةِ الواحدة لصالح أقاربهم، أو تحسين الخدمات في القريةِ، وقد أسهمت هذه الجمعيَّات في تحسين أوضاع كثيرٍ من الأُسَر، ووفَّرَت مِنَحًا دراسية، وساعدَت المقبلين على الزواج.   التبرُّعات ليست وليدة عصرِنا الحالي؛ فقد حصلت في زمن الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم، فكان عليه الصَّلاة والسلام يحثُّ المسلمين ويُرغِّبهم في الصَّدقة والتبرُّع للفقراء وللجهادِ في سبيل الله.   أولاً: مثال التبرع للفقراء: روى المنذر بن جرير، عن أبيه، قال: كنَّا عند رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في صدر النهار قال: فجاءه قومٌ حُفاةٌ عراةٌ مُجتابي النِّمار أو العَباء، متقلِّدي السيوف، عامَّتهم من مُضَر؛ بل كلُّهم من مُضر، فتمعَّر وجهُ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم لِما رأى بهم من الفَاقَة، فدخل ثمَّ خرج فأمر بلالاً، فأذَّن وأقام فصلَّى، ثم خطب فقال: ((﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ﴾ إلى آخر الآية: ﴿ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ [النساء: 1]، والآية التي في الحشر: ﴿ اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ ﴾ [الحشر: 18]، تصدَّق رجلٌ من دينارِه، من درهمه، من ثوبه، من صاع بُرِّه، من صاع تمرِه))، حتى قال: ((ولو بشقِّ تمرة))، قال: فجاء رجلٌ من الأنصار بصُرَّة كادت كفُّه تَعجِز عنها؛ بل قد عجزَت، قال: ثمَّ تتابع الناس حتَّى رأيت كومين من طعامٍ وثياب، حتى رأيتُ وجهَ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يتهلَّل كأنَّه مُذْهَبَةٌ، فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: ((من سنَّ في الإسلام سُنَّةً حسَنةً، فله أجرُها، وأجر من عمِل بها بعده، من غير أن يَنقُص من أجورهم شيء، ومن سنَّ في الإسلام سُنَّةً سيِّئةً، كان عليه وِزْرها ووِزْر مَن عمِل بها من بعده، من غير أن ينقُص من أوزارهم شيء))؛ [أخرجه مسلم، كتاب الزكاة، باب الحث على الصدقة ولو بشق تمرة...، رقم 1017].   "تَمَعَّرَ وَجْهُ رَسُولِ اللهِ صلَّى الله عليه وسلم"؛ أي: تغيَّر وجهُ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم وظهر عليه آثارُ الحزن عندما رأى المُضَرِيِّين وما هم عليه من فقرٍ وضعف وهزال بسبب الفقر؛ فجمع المسلمين وخطب بهم بعد الصلاة، ورغَّبهم في تقديم العونِ والمساعدة ما أمكنهم.   استجابة الصَّحابة رضوان الله عليهم كانت فوريَّة وكثيرة، أدخلَت السرورَ إلى قلب رسول الله صلى الله عليه وسلَّم، وظهر ذلك على محيَّاه الشريف، فأشرَق وتلَأْلأ كالذَّهب فرحًا بمبادرة المسلمين إلى طاعة اللهِ ورسوله وتقديم العون لإخوانهم المحتاجين، خاصَّة من الأنصاري الذي جاء بصرَّةٍ فكان أوَّلَ المتبرعين، وتتابَع الناس بعد ذلك في تقديم العون للمُضَريِّين، الذين قُدِّمَت لهم المساعدة فورًا.   وهناك حالات شبيهة تستوجب المساعدةَ الفورية من مثل تعرُّضِ بعض المناطق في العالم لكوارِث طبيعية (الزلازل والبراكين)، ومعاناة أخرى من وَيْلات الحروب والحِصَار، فيُسارِع المجتمع الدولي بتقديمِ العون والمساعدة للمنكوبين؛ (معونات طبيَّة، غذائية، مأوًى للمتضرِّرين، بالإضافة إلى المساعدات المادية لمساعدتهم على تخطِّي الأزمة في أسرع وقتٍ ممكن)، ويُدعى أفراد المجتمع للمساهمةِ بتبرُّعاتهم الإنسانية كذلك.   ثانيًا: التبرع للجهاد في سبيل الله: الجهاد في سبيل الله يحتاج إلى مالٍ لتجهيز الجيوش لمقاتلَةِ الأعداء وردِّ كيدِهم ودفع أذاهم عن المسلمين؛ (حماية الدين والأعراض والأرواح والممتلكات والأوطان).   ففي غزوة تبوك أو غزوة العُسْرَة أراد رسولُ الله صلى الله عليه وسلَّم الخروج لمواجهة الروم الذين حشدوا جيشًا كبيرًا لقتال المسلمين في المدينة، فأراد ملاقاتهم قبل أن يَصلوا إلى المدينة، وكانوا (الروم) قوَّة لا يُستهان بها، والظروف التي يمرُّ بها المسلمون صعبة للغاية؛ فالوقت صيفٌ، والحرارة شديدة خاصة في الصحراء، والمسافة بعيدة، كما كانوا ينتظرون حصادَ الثمار.   خطب رسولُ الله صلى الله عليه وسلَّم في الناس، وحثَّهم على الإنفاق في سبيل الله وتجهيزِ جيش العُسرة، وقال: ((مَن جهَّز جيشَ العُسرة، غفَر الله له))، فتسارع المسلمون للصَّدقة، وكان هذا اليوم يوم عثمان، الَّذي تصدق بمائتَي بعيرٍ ومائة فرَسٍ وألف دينارٍ ذهبِي، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: ((ما ضرَّ عثمان ما عمل بعدَ اليوم))، وجاء أبو بكر بمالِه كلِّه، وجاء عمر بنصفِ ماله، وتصدَّق عبدالرحمن بن عوف بمائتَي أوقيَّة فضة، وغيرهم كثير جاؤوا بحسب طاقتهم وقدرتِهم على النفقة.   وصل المسلمون إلى تبوك، إلاَّ أنَّ المعركة انتهَت بلا صدامٍ أو قِتال؛ لأنَّ جيش الروم تشتَّت وتبدَّد في البلاد خوفًا من المواجهة؛ فكفى الله عزَّ وحلَّ المؤمنين شرَّ القتال.   استمرَّت التبرُّعات بعد وفاةِ رسول الله صلى الله عليه وسلَّم للجهاد في سبيل الله عزَّ وجلَّ لرفع رايةِ الإسلام في كل مكان، وخير مثالٍ لها في زماننا الحاليِّ التبرُّعاتُ لدَعْم الجهاد من أجل الأقصى.   التبرعات وشهر رمضان: يتسابق الناسُ للصَّدقة ومساعدةِ الفقراء في شهرِ رمضان، خاصَّة عندما يُعلَن عن ذلك في وسائل الإعلام؛ فالشعورُ بالفقير وأحواله أحد أهدافِ الصَّوم، والتبرُّعات تكون متنوِّعة وحسب إمكانيات المتبرِّعين (ليس لها حدٌّ أعلى أو أدنى)؛ لقول الرسول صلى الله عليه وسلَّم: ((ولو بشقِّ تمرة))، فقد يتبرَّع التاجر من متجره بـ"طعام، أثاث، أو أدوات كهربائية"، وقد تكون التبرُّعات نقدًا، وهناك من يتبرَّع بجهدِه؛ كالصَّانع يتبرَّع بعمل صيانةٍ لبيتِ أحد الفقراء، والطبيب يتبرَّع بعلاجِ ومتابعة حالات بعض الفقراء بالمجان.   التبرعات ليس لها وقتٌ محدَّد، فتكون على مدار العام، وقد تُحفظ في أماكن لحفظها، ومن ثمَّ توزيعها بانتظامٍ أو وقت الحاجة إليها كالبرَّادات التي تَحفظ الأطعمةَ أو بنك الملابس للفقراء.   تبرعات التلاميذ: المجتمع المدرسيُّ تكثر فيه التبرُّعات، وهي ذات أهداف سامية، منها: مساعدة الفقراءِ، وغرس قِيَم عُليا في نفوس التلاميذ؛ كالمساعدةِ وتقديم العون للمحتاجين ولو كان بسيطًا.   من صور التبرعات المدرسية: • جمع مبلغٍ بسيط أسبوعيٍّ من الطلاب تحت مسمَّى: "قرش الفقير"، مِن أجل التخفيف من أقساطِ الطلاب الفقراء الذين اضطرُّوا للدراسة في المدارس الخاصة بسبب المرضِ مثلاً أو بُعد المدارس الحكومية عن مكان سكنِهم أو لجهاتِ خيرٍ أُخرى.   • مجموعة من المدارس المتجاوِرة حثَّت التلاميذ على التبرُّع، وكانت الطريقة جمِيلة؛ فالأسبوع الأول خُصِّصَ للمعلَّبات والمواد الجافَّة (سكر ودقيق وبقوليات)، والثاني: للخضار والفاكهة، حتى إنَّهم قالوا للتلاميذ: ولو حبَّة بطاطا، والثالث: كان للملابس التي يَستغنون عنها، والرابع: كان للنقود حتى ولو كان جزءًا من المصروف الشخصي، كان هذا قبل ثماني سنوات، عندما كانت ابنتي في الصفِّ السَّابع وابني في الصفِّ الأول، فكنَّا نُجهِّز الصدقات، ونرتِّب الملابس معًا.   قد يُستفاد من هذه الفكرة في تقديمِ معونات للفقراء (الجيران والأقارب) أسبوعية ومتنوِّعة، تُختم بالمال للتوسعة على الفقير في العيد.   • كسوة العيد أو كسوة الشِّتاء أحد أهداف التبرُّعات المدرسية التي تنشط في رمضان أو قبل عيد الأضحى أو عند اقترابِ فصل الشتاء.   • التبرع في المدارس متنوِّع، منه ما يكون من أجلِ شراء أجهزة علمية حديثة تُساهم في التعليم، وهذا يحتاج إلى تعاون التلاميذ والأهلِ مع المعلِّمين، وتحتاج من المعلِّم الصَّبر، أو لكفالة يتيمٍ بحيث يقوم كلُّ فصلٍ بكفالة يتيمٍ طوال العامِ، أو لمساعدة حارِس المدرسة في نفقاتِ علاجه، أو لتقديم هدايا لعمَّال النَّظافة في نهاية العام الدراسيِّ تقديرًا لجهودهم.   إنَّ الفقير الذي لا يجد قوتَ يومه لن يتمكَّن من إكمال تعليمِه، وبالتالي يضطرُّ للعمل براتبٍ بسيط، وربما يُصبح من السَّهل السيطرة عليه والتلاعُب بأفكاره؛ لذا نجد من يتبرَّع لطلبة العلمِ وتقديم مِنَح دراسيَّة لهم؛ فالشباب عمادُ الأمة، وتعليمهم أفضلُ استثمار.   التبرُّع يكون من المسلمين وغير المسلمين؛ ففي إحدى المدارس الخاصَّة جُمعَت تبرُّعات في رمضان لمساعدة الفقراء، فكان من ضمن المتبرِّعين معلِّمة فلبينية، وعندما سُئلَت عن السبب، قالت: مِن أجل أن يحفظ الله لي ولدي الصغير ويُصبح صالحًا.   نسمع عن تبرعاتِ المشاهير وأثرياء العالم بملايين الدولارات سنويًّا؛ منها ما يكون لِدُور العبادة، ومنها ما يكون لمكافحةِ الأمراض ودَعْم التعليم للفقراء وتبنِّي الموهوبين، والشخصيات اليهوديَّة من أكثر المتبرِّعين في العالم لدَعْم تعليم الأطفال تعليمًا جيدًا.   وتبرُّعاتهم (المشاهير والأثرياء) متنوِّعة الأهداف؛ فقد تكون ذات هدفٍ ديني بَحْت، وقد تكون من أجل زيادةِ الأرباح، أو التخفيفِ من الضرائب، أو من أجل الشُّهرة.   أمَّا المسلم، فيسعى بتبرُّعه لمرضاةِ خالقِه، ولتحقيق التكافُل الاجتماعي المطلوب، وليكون له دورٌ فعَّال في دَعْم المدافعين عن الدِّين والأوطان.



شارك الخبر

فهرس موضوعات القرآن