أرشيف المقالات

إنا كفيناك المستهزئين

مدة قراءة المادة : 25 دقائق .
إنا كفيناك المستهزئين
 
تمهيد
بسم الله الرحمن الرحيم، وبه نستعين.
 
أمَّا بعد:
فأحسَنُ الكلام كلامُ الله، وأحسَن الهدْي هَدْي محمد صلى الله عليه وسلم، وأشهد ألا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، بلَّغ الأمانة، وأدَّى الرسالة، ونصَح الأمَّة.
 
قال الله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ ﴾ [الأنعام: 34].
 
فهذا دأب أهل الكفر مع كلِّ الأنبياء والمرسلين قبل النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وذلك بتكذيبهم والاستهزاء منهم، وحتى مكايدِ القتل والغدر.
 
ولقد تتالتْ مكايدُ الشيطان وأعوانِه مِن أهل الكفر بصور شتَّى تختلف مِن عصر إلى عصر؛ لمحاربة هذا الدِّين القويم متمثِّلًا بشخص النبي صلى الله عليه وسلم منذ فجر الرسالة الأولى، وهذه الحرب الشعواء لم تنكفئ ولن تنكفئ حتى يرث اللهُ الأرض ومَن عليها، وذلك بنص القرآن الكريم؛ قال الله تعالى: ﴿ وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ ﴾ [البقرة: 120].
 
وما دام النبي صلى الله عليه وسلم حيًّا في حياة المسلمين: في معاملاتهم وأخلاقهم وطاعاتهم، فالحربُ مستمرَّة مِن شُذَّاذِ الآفاق، وهل يضير السماءَ نبحُ الكلاب؟!
 
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أُمَّتي كالمطَر لا يُدْرى الخيرُ في أوله أم في آخرِه))[1].
 
ولكنَّ نور الهداية الربَّانيَّة في هذه الرسالة الخاتمة، ولن يضيرها مَن يهاجمها أو يهاجم نبيَّها؛ قال الله تعالى: ﴿ يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ﴾ [الصف: 8].
 
فكم تعرَّض سيدُ الخلْق وقُدوة العالمين إلى مكايد الكفار والمشركين واليهود والنصارى، ولكنها ارتدَّت على أصحابها، وذلك بعصمة الله لنبيِّه صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: ﴿ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ﴾ [المائدة : 67].
 
ولذلك قام هذا الرسَّام الخبيث برسم هذه الصُّوَر المسيئة لرسول العالمين محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد استكبَرَت دولُ الغرب الملحدة، ونشرَت ما نشرَت مِن هذه الرسوم.
 
و أبلَغُ ردٍّ على ذلك الفعل الشنيع ما قاله الله سبحانه وتعالى في مُحْكَم التنزيل، قال الله تعالى : ﴿ إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ [التوبة:40].
 

حَارَ فِكْرِي لَسْتُ أَدْرِي مَا أَقُولْ
أَيُّ طُهْرٍ ضَمَّهُ قَلْبُ الرَّسُولْ

أَيُّ نُورٍ تَهْتَدِي فِيهِ الْعُقُولْ
أَنْتَ مِشْكَاةُ الْهُدَى أَنْتَ نِبْرَاسُ الْوُصُولْ

أَيُّ مَدْح ٍكَانَ كُفْوًا فِي الْمَحَافِلْ
يَا رَسُولًا بَشَّرَتْ فِيهِ الرَّسَائِلْ

أَيُّ كَوْنٍ نَبَوِيٍّ فِي الشَّمَائِلْ
أَنْتَ نُورٌ أَنْتَ طُهْرٌ أَنْتَ حَقٌ هَدَّ بَاطِلْ[2]

 
كيف تَنصُر الأمَّة نبيَّها؟
إنَّ هذه الأمَّة هي الأمَّة التي شهِد اللهُ لها بالخيريَّة في القرآن، وإنْ أصابَها شيء مِن الوهن، فهي لا تلبث إلا أن تعود لربِّها وتتبع هدْي النبي صلى الله عليه وسلم في شؤون الحياة كلها عملًا وجوارحًا؛ قال الله تعالى: ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ﴾ [البقرة: 143].
 
ولكن هل تنال هذه الأمَّة هذه الخيريَّة دون العمل والاتِّباع؟! فعليها إذًا الاتِّباع الكامل للهدْي النبوي، والنهج القرآني المحْكم.
 
قال الله تعالى: ﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ﴾ [آل عمران: 110].
 
فهذا منوطٌ بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والإيمان بالله ورسوله على مراد الله ورسوله، وكما علَّمنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم.
 
وعن أبى هريرة رضي الله عنه؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((كلُّ أُمَّتى يدخلون الجَنَّةَ إلا مَن أَبَى))، قالوا يا رسول الله: ومَن يأبى؟!، قال: ((مَن أطاعني دَخَلَ الجَنَّةَ، ومَن عصاني فقد أَبَى))[3].
 
قال الله تعالى: ﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا ﴾ [الأحزاب : 36].
 
وقد خطَّ لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الطريق على هدْي النجاة في الدنيا والآخرة؛ فعن العرباض بن سارية رضي الله عنه، قال: وعظَنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم موعظةً، وَجلَتْ منها القلوبُ، وذَرفَتْ منها العيون، فقلنا: يا رسول الله، كأنها موعظةُ مُوَدِّع فأوصِنا، قال: ((أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة وإنْ تأمَّر عليكم عبدٌ، وإنه مَن يَعِشْ منكم، فَسَيرَى اختلافًا كثيرًا؛ فعليكم بسُنَّتي وسُنَّة الخلفاء الراشدين المهديِّين، عَضُّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومُحْدَثات الأمور؛ فإن كلَّ بدعةٍ ضلالة))[4].
 
صور من ضغائن الكفار والمشركين لأشرف خلْق الله أجمعين، ونصْر الله عز وجل له:
ليس الغرض مِن سرْد هذه المواقف التي تعرَّض لها أشرف الخلْق؛ رسولُ الله محمدٌّ صلى الله عليه وسلم؛ إلا لإثبات أنها كانت سببًا في هداية مَن قام بها، أو عقابًا شديدًا مِن الله لِمَن استكبر، وفي هذه المواقف كلها كان يقيِّض اللهُ مِن صفوة الخلْق مَن ينصره.
 
وكلٌّ مِن هذه الصوَر لا تحتاج إلى شرْح؛ فليس هناك مِن كلام أبلَغ مِن كلام الوَحْيَين.
 
ففي الحديث الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله تعالى قال: مَن عادَى لي وليًّا، فقد آذنْتُه بالحرب))[5].
 
فكيف بمن ينصب العداء إلى رسول الله؟!
فعن عمرو بن ميمون، قال: حدَّثنا عبد الله في بيت المال، قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُصلِّي عند البيت، وملأٌ مِن قريش جلوس، وقد نَحَروا جزورًا، فقال بعضُهم: أيُّكم يأخذ هذا الفرْث بدمه، ثم يُمهله حتى يضع وجهه ساجدًا؛ فيضعه - يعني: على ظهره؟ قال عبد الله: فانبعث أشقاها فأخذ الفرث فذهب به ثم أمهله، فلمَّا خرَّ ساجدًا، وضعه على ظهره، فأُخبرَت فاطمةُ بنتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي جارية، فجاءت تَسعَى فأخذتْه مِن ظهره، فلمَّا فرغ مِن صلاته، قال: ((اللهم عليك بقريش - ثلاث مرات - اللهم عليك بأبي جهل بن هشام، وشيبة بن ربيعة، وعتبة بن ربيعة، وعقبة بن أبي معيط)) حتى عدَّ سبعةً مِن قريش، قال عبد الله: فوالذي أَنزَل عليه الكتاب؛ لقد رأيتُهم صرعَى يومَ بدر في قليب واحد[6].
 
وعن ابن عباس، قال: "صعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم على الصفا، فنادى: يا صباحاه! فاجتمعَت إليه قريش، فقال: ((إني نذير لكم بين يدي عذاب شديد، أرأيتم لو أني أخبرتكم أن العدوَّ ممسِّيكم أو مصبِّحكم أكنتم تصدقوني؟)) فقال أبو لهب: ألهذا جمعتنا؟! تبًّا لك، فأنزل الله: ﴿ تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ ﴾ [المسد : 1][7].
 
وعن أبى هريرة رضي الله عنه قال: قال أبو جهل: هل يُعفِّر محمدٌ وجهَه بين أظهركم؟ قال: فقيل: نعم، فقال: واللات والعُزَّى لئن رأيتُه يفعل ذلك، لأطأنَّ على رقبته أو لأعفرنَّ وجهَه في التراب، قال: فأتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلِّي، زَعَمَ لَيَطَأ على رَقَبته، قال: فما فَجِئَهم منه إلا وهو يَنْكص على عقبيه ويتَّقي بيديه، قال: فقيل له: ما لك؟ فقال: إنْ بيني وبينه لخندقًا مِن نار وهولًا وأجنحة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لو دَنَا منِّي لاختطفتْه الملائكة عضوًا عضوًا))[8].
 
وعن ابن عباس رضي الله عنهما في قول الله عز وجل: ﴿ إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ ﴾ [الحجر : 95].
 
قال: المستهزئون: الوليد بن المغيرة، والأسود بن عبد يغوث الزهري، والأسود بن المطلب، وأبو زمعة من بني أسد بن عبد العزى، والحارث بن عيطل السهمي، والعاص بن وائل، فأتاه جبريل عليه السلام شكاهم إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأراه الوليد أبا عمرو بن المغيرة، فأومأ جبريل إلى أبجله، فقال: ما صنعتَ؟ قال: كُفيتَه، ثم أراه الأسود بن المطلب، فأومأ جبريل إلى عينيه، فقال: ما صنعتَ؟ قال: كُفيتَه، ثم أراه الأسود بن عبد يغوث الزهري، فأومأ إلى رأسه، فقال: ما صنعتَ؟ قال: كُفيتَه، ومرَّ به العاص بن وائل، فأومأ إلى أخمصه، فقال: ما صنعتَ؟ قال: كُفيتَه، فأمَّا الوليد بن المغيرة فمرَّ برجل من خزاعة وهو يريش نبلًا له، فأصاب أبجله فقطعها، وأمَّا الأسود بن المطلب فعَمِي، فمنهم مَن يقول: عمِيَ هكذا، ومنهم مَن يقول: نزل تحت سَمُرَة، فجَعَل يقول: يا بني ألا تدفعون عني؟! قد قُتلتُ، فجعلوا يقولون: ما نرى شيئًا، وجعل يقول: يا بني ألا تمنعون عني؟! قد هلكتُ، ها هو ذا أُطْعَن بالشوك في عيني، فجعلوا يقولون: ما نرى شيئًا، فلم يزل كذلك حتى عميَت عيناه، وأما الأسود بن عبد يغوث الزهري، فخرج في رأسه قروح فمات منها، وأمَّا الحارث بن عيطل، فأخذه الماء الأصفر في بطنه حتى خرج خرؤه مِن فِيه فمات منها، وأما العاص بن وائل فبينما هو كذلك يومًا إذ دخل في رأسه شبرقة حتى امتلأت منها فمات منها، وقال غيره: فركب إلى الطائف على حمار، فربض به على شبرقة فدخلتْ في أخمص قدمه شوكةٌ فقتلتْه[9].
 
وعن أبي سلمة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يَقْبل الهدية، ولا يأكل الصدقة، زاد: فأهدتْ له يهوديَّة "بخَيْبَر" شاةً مَصْلِيَّة سَمَّتَها، فأكل رسول الله صلى الله عليه وسلم منها، وأكل القوم، فقال: ((ارفعوا أيديكم؛ فإنها أخبرتْني أنها مسمومة))، فمات بِشْر بن البراء بن معرور الأنصاري، فأرسل إلى اليهودية: ((ما حملكِ على الذي صنعتِ؟)) قالت: إنْ كنتَ نبيًّا لم يضرك الذي صنعتُ، وإن كنتَ ملكًا، أرحتُ الناسَ منك، فأمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقُتِلَت، ثم قال في وجعه الذي مات فيه: ((ما زلتُ أجد مِن الأكْلة التي أكلتُ بخيبر، فهذا أوان قطعت أبهري))[10].
 
و عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما؛ أنه غزا مع النبي صلى الله عليه وسلم، فأدركتْهم القائلة في وادٍ كثير العضاه، فتفرَّق الناس في العضاه يَستظلُّون بالشجر، فنزل النبي صلى الله عليه وسلم تحت شجرة فعلَّق بها سيفه، ثم نام فاستيقظ وعنده رجُل وهو لا يشعر به، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ هذا اخترط سيفي، فقال: مَن يمنعُك؟ قلتُ: اللهُ، فشام السيف فها هو ذا جالس))، ثم لمْ يُعاقبه[11].
شام السيف: جعله في غمده، اخترط: سلَّ السيف مِن غمده.
 
وعن عروة بن الزبير رضي الله عنهما قال: قلتُ لعبد الله بن عمرو بن العاص: أخبرْني بأشدِّ ما صَنع المشركون برسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يُصلِّي بفناء الكعبة، إذ أقبل عقبة بن أبي معيط، فأخذ بمنكب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولوى ثوبه في عنقه فخنقه خنقًا شديدًا، فأقبل أبو بكر فأخذ بمنكبه، ودفع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: ﴿ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ ﴾ [غافر : 28][12].
 
وعن البراء بن عازب رضي الله عنه، قال: لمَّا أَقْبلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكةَ إلى المدينة، فأتبعه سراقة بن مالك بن جعشم، قال: فدعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فساخت فرسُه، فقال: ادع الله لي ولا أضرك[13].
 
وفي رواية: فدعا الله فنجا، فرجع لا يَلقَى أحدًا إلا قال: قد كفيتُكم ما ها هنا فلا يلقى أحدًا إلا ردَّه، قال: ووفى لنا[14].
 
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يُحْرَس حتى نزلت هذه الآية: ﴿ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ﴾ [المائدة : 67]، فأَخرج رسولُ الله صلى الله عليه وسلم رأسَه مِن القُبَّة، فقال لهم: ((يا أيها الناسُ انصرِفوا؛ فقد عصمني الله)).
 
وله شاهد من حديث أبي هريرة، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل منزلًا، نظروا أعظمَ شجرة يرونها فجعلوها للنبي صلى الله عليه وسلم، فينزل تحتها وينزل أصحابه بعد ذلك في ظلِّ الشجر، فبينما هو نازل تحت شجرة وقد علَّق السيف عليها إذ جاء أعرابي فأخذ السيف مِن الشجرة، ثم دنا من النبي صلى الله عليه وسلم وهو نائم فأيقظه، فقال: يا محمد مَن يمنعك مني الليلة؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((الله))، فأنزل الله الآية، وإسناده حسَن[15].
 
ولمَّا أُسْرِيَ بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى المسجد الأقصى أَصبح يحدِّث الناس بذلك، فارتدَّ ناسٌ ممن كانوا آمنوا به وصدَّقوه وسعَوا بذلك إلى أبي بكر رضي الله عنه، فقالوا: هل لك إلى صاحبك؟ يزعم أنه أُسْري به الليلة إلى بيت المقدس، قال: أو قال ذلك؟ قالوا: نعم، قال: لئن كان قال ذلك، لقد صدق، قالوا: أوَتصدِّقه أنه ذهب الليلة إلى بيت المقدس وجاء قبل أن يُصبح؟ قال: نعم؛ إني لأصدِّقه فيما هو أَبعَد من ذلك، أصدِّقه بخبر السماء في غدوة أو روحة، فلذلك سُمِّي "أبو بكر الصديق"[16].
 
والصوَر كثيرة بالرغم مِن مرارتها، ولا مجال للتوسع في حصرها والعِبرة في الخواتيم، فهذا دين الله عز وجل، وقد تكفَّل بنصر نبيِّه وحفظ رسالته، وقد قيَّض لهذه الرسالة مَن يحمل لواء نشْرها، والدفاع عنها وعن سُنَّة النبي محمد صلى الله عليه وسلم.
 
فعن تميم الداري، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لَيبلغنَّ هذا الأمر ما بَلَغ الليلُ والنهارُ، ولا يترك الله بيتَ مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدِّين بعزِّ عزيز أو بذلِّ ذليل، عزًّا يعزُّ الله به الإسلام، وذلًا يذلُّ الله به الكفر))[17].
 
نظرة المفكرين الغربيين إلى محمد صلى الله عليه وسلم:
ترى كثيرًا من الناس قد سَلبَت الحضارةُ الغربيَّة الماديَّة والمتهالكة لبابَ عقولهم وأفئدتهم، فما تمسَّكوا إلا بقشورها الزائفة والبراقة التي سحرت أبصارهم، وأخذت عقولهم.
 
فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لتتبعنَّ سُنَّة مَن كان قبلكم باعًا بباع، وذراعًا بذراع، وشبرًا بشبر، حتى لو دخلوا في جُحر ضبٍّ لدخلتم فيه))، قالوا: يا رسول الله اليهود والنصارى، قال: ((فمَن إذًا؟!))[18].
 
ولذلك يقول المفكِّر المسلم د.
محمد إقبال:
أيها المسلم المخدوع بالغرب، استيقظ؛ إنك تجري سفينة في سراب، إنك تبحث عن الشمس بمصباح[19].
 
وهذه شهادات حيَّة من عقلاء تلك الحضارة الخاوية روحيًّا والباحثة عن طريق النجاة، والتي لن تجده إلا بدين أشرف الخلْق محمد صلى الله عليه وسلم.
♦ إن محمدًا رفع أعلام التمدُّن[20].
الفيلسوف الاقتصادي جون سيمون.
 
♦ لم يأت الإسلامُ للعرب فحسب، بل جاء للعالم أجمع، فهل سيظل المسلمون على هذا الجمود؟ أرجو أن يتبعوا طريق الرسول الكريم، فالعالم في فراغ لن تسدَّه سوى تعاليم الإسلام، والفرصة متاحة ليتلقى الأوربيون الإسلام؛ فهم في حاجة إلى منقذ، ولا منقذ لهم سوى الإسلام[21].
المستشرقة الألمانية زيغريد هونكة.
 
♦ يا محمد أنا متأثر جدًّا إذ لم أكن معاصرًا لك، إن البشرية لم تر قدوة ممتازة مثلك مرة أخرى، إني أعظمك بكمال الاحترام[22].
بسمارك.
 
♦ لا أسلِّم أصلًا بكل نظرية يُفهم منها الريب بصدق محمد[23].
المستشرق الأسوجي كازانوفا.
 
♦ لم يكن محمد نبيًّا عاديًّا، بل استحق عن جدارة أن يكون خاتم الأنبياء؛ لأنه قَابَلَ كلَّ الصعاب التي قابلَت كلَّ الأنبياء الذين سبقوه مضاعفةً من بني قومه، نبيٌّ ليس عاديًّا، مَن يُقسم أنه: (لو سَرقت فاطمةُ ابنتُه لقطع يدها)، ولو أن المسلمين اتخذوا رسولهم قدوة في نشر الدعوة، لأصبح العالم مسلمًا[24].
الباحث الفرنسي كليمات هوارت.
 
♦ أعتذر عن التصوُّرات والأحكام التي كانت شائعة في الغرب حول نبيِّ الإسلام[25].
الكاتب البريطاني جان دوانبورت.
 
♦ لقد درستُ محمدًا باعتباره رجلًا مُدْهشًا، فرأيتُه بعيدًا عن مخاصمة المسيح، بل يجب أن يُدْعَى مُنقذ الإنسانيَّة، وأوربا في العصر الراهن بدأتْ تعشق عقيدة التوحيد، وربما ذهبت إلى أبعد من ذلك، فتعترف بقُدرة هذه العقيدة على حلِّ مشكلاتها، فبهذه الروح يجب أن تفهموا نُبوءتي[26].
جورج برناردشو.
 
♦ بحثتُ في التاريخ عن مَثَلٍ أعلى لهذا الإنسان، فوجدتُه في النبي العربي محمد صلى الله عليه وسلم[27].
شاعر الألمان غوته.
 
♦ اليهود لا يعترفون بالمسيح، والمسيحيون لا يعترفون بالنبي محمد، ولكن المسلمين يعترفون بموسى والمسيح[28].
الملاكم العالمي مايك تايسون.
 
♦ عندما وقفتُ في المساجد الرائعة في إسطنبول ودمشق والقدس والقاهرة وغيرها، أحسستُ بشعور قوي بمدى الدفعة التي يحققها الإسلام للبشر دون الاستعانة بالزخارف أو الصُّوَر أو التماثيل أو الموسيقا، فالمسجد عبارة عن مكان التأمُّل الهادئ، وإنكار الذات أمام الله الواحد[29].
الدانماركي علي بول.
 
♦ في اللحظة التي آمنتُ بها بوحدانية الله وبنبيِّه الكريم صلوات الله عليه بدأتُ نقطة تحوُّلي نحو السلوك النموذجي المؤمن[30].
البروفيسور عبد الأحد داود (بنجامين كلداني).
 
الخاتمة
إن الله عز وجل بشَّر النبي صلى الله عليه وسلم بمستقبل هذا الدِّين؛ من النصر والتمكين والعزة لله ولرسوله وللمؤمنين بإذن الله.
 
فعن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله زوى لي الأرض، أو قال: إن ربي زوى لي الأرض، فرأيتُ مشارقها ومغاربها، وإنَّ مُلْكَ أُمَّتي سيبلغ ما زوي لي منها))[31].
 
ومع هذا يجب أن يكون لنا مواقف مع هؤلاء الذي يهاجمون ديننا، ولكن علينا ألا نتخلَّق بأخلاقهم وننحدر إلى مستواهم الوضيع، وإنما أن نتخلق بخُلق النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك امتثالًا لأمره، ونردَّ لا بالصراخ والعويل، وإنما كلٌّ حسب طاقته، ولو لم يملك سوى الدعاء والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
 
فجزى الله نبيَّنا خير ما جزى نبيًّا عن أمَّته، وعذرًا رسول الله على ما نحن فيه من تقصير ووهن، ونرجو الله أن يعيدَ أُمَّتنا إلى طريق الهداية.

[1] رواه الترمذي وحسَّنه، والعقيلي وغيرهما.

[2] د.
عبد المعطي الدالاتي.

[3] رواه مسلم، انظر الحديث رقم (7280)؛ صحيح مسلم.

[4] تحقيق الألباني، حديث صحيح، انظر: الحديث رقم (37)؛ "صحيح الترغيب والترهيب".

[5] تحقيق الألباني، حديث صحيح، انظر: حديث رقم (1782) في "صحيح الجامع".

[6] تحقيق الألباني، حديث صحيح، انظر: الحديث رقم (307)؛ "سنن النسائي".

[7] تحقيق الألباني، حديث صحيح، انظر: الحديث رقم (3363)؛ "جامع الترمذي".

[8] رواه مسلم؛ انظر: الحديث رقم (7243) في "صحيح مسلم".

[9] حديث رقم (17509)؛ سُنن البيهقي الكبرى"، وصحَّحه الألباني في "صحيح السيرة النبوية".

[10] تحقيق الألباني : حديث حسن صحيح، انظر الحديث رقم 4512 سُنن أبي داود .

[11] رواه البخاري، انظر: الحديث رقم (2756)؛ "صحيح البخاري".

[12] رواه البخاري، انظر: الحديث رقم (4537)؛ "صحيح البخاري".

[13] رواه مسلم، انظر: الحديث رقم (5357)؛ "صحيح مسلم".

[14] رواه مسلم، انظر: الحديث رقم (7706)؛ "صحيح مسلم".

[15] تحقيق الألباني، حديث صحيح، انظر: الحديث رقم (2489)؛ "السلسلة الصحيحة".

[16] تحقيق الألباني، حديث صحيح، انظر: الحديث رقم (306)؛ "السلسلة الصحيحة".

[17] تعليق شعيب الأرنؤوط، إسناده صحيح على شرط مسلم، انظر: الحديث رقم ( 16998)؛ "مسند أحمد بن حنبل".

[18] تحقيق الألباني، حديث حسن صحيح، انظر: الحديث رقم (3994)؛ "سُنن ابن ماجه".

[19] ربحت محمدًا ولم أخسر المسيح؛ للدكتور عبد المعطي الدالاتي، ص (141).

[20] نفس المصدر السابق، ص (131).

[21] نفس المصدر السابق، ص (104) .

[22] نفس المصدر السابق، ص (98).

[23] نفس المصدر السابق، ص (96).

[24] نفس المصدر السابق، ص (96).

[25] نفس المصدر السابق، ص (94).

[26] نفس المصدر السابق، ص (91).

[27] نفس المصدر السابق، ص (89).

[28] نفس المصدر السابق، ص (70).

[29] نفس المصدر السابق، ص (68).

[30] نفس المصدر السابق، ص (39).

[31] تحقيق الألباني، حديث صحيح، انظر: الحديث رقم (2176)؛ "جامع الترمذي".

شارك الخبر

مشكاة أسفل ٢