قضية في الميدان (2)
مدة
قراءة المادة :
10 دقائق
.
قضايا في الميدانفي أي عهد نحن: العهد المكي أم المدني؟كثير من الناس يسألون هذا السؤال، وفريق يقول بهذا الرأي، وفريق يقول برأي آخر، ثم يحتدم الجِدال، ويتطوَّر إلى خلاف وشِقاق.
إن هذه التسمية هي تسمية بشرية، وضَعَها العلماء والمسلمون؛ لتمييز ما نزَل من القرآن الكريم في مكة المكرمة، وما نزَل في المدينة المنورة، وسُمِّيت بعض السور "مدنية" وأخرى "مكيَّة"، ومثل هذه التسمية في هذا الصدد لها ما يُجيزها، ومهما دار رأيٌ حول السور القرآنية في هذا الصدد، فإن التقسيم يظلُّ محصورًا في هذه القضية، قضية مكان نزول السورة القرآنية وزمنها وموضوعاتها، ولا يعني هذا التقسيم أنَّ منهاج الله ودينه يَفقدان التماسُك والتناسُق والترابط، فمنهاج الله - قرآنًا وسُنة ولغة عربية - منهاجٌ ربَّاني واحد في تماسُكه وتناسقه، فإذا كان لعلماء المسلمين الأوَّلين فضلٌ في هذه التسمية وفي فائدتها - لتُعين على فَهْم كتاب الله - فلا يجوز أن نتوسَّع في هذه التسمية؛ حتى نربط كلَّ العصور بها، أو نربط واقعنا بها.
نحن اليوم في واقعنا هذا بكلِّ خصائصه التي نراها وندرسها ونحلِّلها - لسنا في العصر المكي، ولسنا في العصر المدني، نحن اليوم في أوائل القرن الخامس عشر الهجري، اعتبارًا من تاريخ هجرة محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم - خاتَم النبيين والمرسلين، ولا يمنع هذا أن يكون بين بعض العصور القديمة والعصور الحديثة بعض التشابُه، ولكن هذا التشابُه لا يَعني أننا لسنا في عصرٍ جديد، ومن أهم معالِم التشابُه بين العصور سُنن الله الماضية في الكون والحياة، سُنن الله الثابتة التي لا تتحوَّل، سُنن الله التي تقدِّم لنا آيات تزيد الإيمان واليقين، وعِظات تَقرع القلوب والنفوس، وقواعد تُساعد على التخطيط والنهج.
إننا اليوم في عصر جديد، له معالِمه الجديدة البارزة، ونحن في واقع جديد، له مشكلاته المتجدِّدة، وقضاياه وأساليبه ووسائله المتجددة، وأدواته المستحدثة، وكل هذا يمضي على سُننٍ لله ماضية، وقدرٍ من الله غالب، وحِكمة بالغة.
ومنهاج الله - قرآنًا وسُنَّة ولغة عربية - منهاج ربَّاني معجِز، يصلح حقًّا لجميع العصور والأجيال، ولجميع الشعوب والأقوام، ولكل واقعٍ جديد، ومشكلات جديدة.
إن جوهر الأمانة التي حمَلها الإنسان هو ممارسة منهاج الله في الواقع البشري المتجدِّد، وإن هذه الممارسة الإيمانية هي محور الابتلاء الذي كتبَه الله على بني آدم؛ ليَمِيز الخبيث من الطيب، وليمحِّص المؤمنين، ولتقوم الحُجة على كلِّ إنسان، وعلى كلِّ شعب، وعلى كلِّ أُمَّة، أو تقوم الحجة لهم، هكذا قضَى الله - سبحانه وتعالى - ولا رادَّ لقضائه، على حِكمة ربَّانية غالبة، فله الملك وله الأمر - سبحانه لا إله إلا هو.
نحن اليوم مكلَّفون شرعًا أن نفهمَ منهاج الله فَهْمًا يُغْنِيه الإيمان، ونحن مكلفون أن نفهمَ واقعنا اليوم - واقعنا المعاصر - فهْمًا نابعًا من إيماننا، ومن ردِّ الواقع إلى منهاج الله، ونحن مُكلفون كذلك بممارسة منهاج الله في واقعنا ممارسةً إيمانيَّةً، وعملاً صالحًا، على أساس من صِدق الإيمان وصِدق العلم بمنهاج الله، وصِدق العلم بالواقع الذي نعيشه، فنحن مكلفون إذًا أن نضعَ الحلول لمشكلات عصرنا على أساس مما عرضْناه؛ عبادةً لله، وطاعة له، وحتى يُسهِّل الله علينا برحمته هذه الأمانة العظيمة والمسؤولية الخطيرة بعَثَ لنا محمدًا - صلَّى الله عليه وسلَّم - ليبلِّغنا منهاج الله، وليبيِّنه لنا، وليقدِّم لنا النموذج الأعلى لممارسة منهاج الله في الواقع البشري، وليكون هذا النموذج أُسوة لنا مع مُضي العصور والأجيال.
أَرأيت المدرِّس كيف يُبيِّن لِطُلاَّبه القانون والنظرية، ثم يقدِّم مشكلة من المشكلات يضع لها حلَّها على أساس القانون الذي درَّسه؟ وليكون هذا المثل وهذا الحلُّ عاملاً مساعدًا على تثبيت القانون في قلوب الطلاب، ثم تأتيهم المسائل والقضايا والمشكلات تباعًا؛ ليقوموا هم بردِّها إلى القانون الذي درسوه، وليجدوا بأنفسهم الحلولَ والإجابة.
إنَّ رحمة الله بعباده أعظم بكثير من رحمة المدرس بطُلاَّبه، فبعَث الله النبيين والمرسلين على مَرِّ العصور، رُسلاً مبشرين ومنذرين؛ لئلا يكون للناس على الله حُجة بعد الرُّسل، وختَم الله النبوَّة بمحمد - صلَّى الله عليه وسلَّم - وخَتَم الرسالة بالمنهاج الربَّاني؛ ليكون مُهيمنًا على ما سبَقه من الكتب المنزَّلة، وفصَّله تفصيلاً، ورَعَى النبوَّة وهي تبلِّغ وتبيِّن وتعلِّم، وهي تُمارس منهاج الله في الواقع البشري، فتَنَزَّل الوحي الكريم؛ ليسدِّد ويوجِّه ويقوِّم، ولتظلَّ سيرة الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - مثلاً للعصور كلها، وقُدوة للبشرية كلها.
ثم جاء الصحابة - رضي الله عنهم - فقدَّموا مثلاً في استمرار ممارسة منهاج الله في واقع بشري جديد، وأمام مشكلات جديدة، فما وقفوا أمامها عاجزين، ولكن طبَّقوا منهاج الله - قرآنًا وسُنَّة - في واقِعهم الجديد على النَّهج والسُّنة التي تعلَّموها وتدرَّبوا عليها في مدرسة النبوَّة، وتظلُّ ممارستهم ممارسة بشريَّة لمنهاج ربَّاني، تحمل عبقرية النهج الذي تعلَّموه، وعَظَمة الإيمان وقوَّة العلم، وجاء أئمة الإسلام على امتداد الزمن، الأئمة الصادقون الذين مارَسوا منهاج الله - كذلك في واقعهم الجديد - ممارسة بشرية تحملُ الإيمان الصادق - إن شاء الله - وقوَّة العلم والتجربة، وتظلُّ هذه الممارسات البشرية كلها تُرَدُّ إلى منهاج الله، فيُستفاد مما أصابتْ به هذه الممارسة البشرية، وهو خير كثير - إن شاء الله.
ونحن اليوم مكلفون أن نمارسَ منهاج الله في واقعنا الجديد على نفس النهج والسُّنة التي رسَمَها رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - واتَّبعها صحابته الأبرار وأئمة المسلمين، ونحن مكلفون أن نستفيدَ من عبقرية تلك الممارسة الإيمانية، ومن تجاربها وخِبراتها؛ حتى تظلَّ الممارسة الإيمانية ناميةً، وتظلَّ التجربة غنية قويَّة، يحملها جيلٌ عن جيل، فلا يظل كلُّ جيلٍ يبدأ من نقطة الصفر.
وإننا نُخْضِعُ كلَّ ممارسة إيمانية، وكلَّ تجربة وخبرة لميزان واحد، هو منهاج الله، كما أمرَنا الله ورسوله، نَعْبُد الله بذلك كله، ونسأله العزيمة والقوة والسداد، وإننا نُنْزِلُ كلَّ ممارسة إيمانية مَنزلتها العادلة الأمينة، التي ينزلها إليها منهاج الله.
نحن اليوم مكلَّفون أن نُدركَ حقيقة واقعنا، من خلال منهاج الله، فلا يكون موقعنا أن نقبلَ أو أن نرفض فحسب، ولكن مسؤوليتنا تمتدُّ إلى أن نضعَ الحلول لمشكلاتنا كلها، ولنقدِّم للبشرية كلها الصورة المشرقة لتطبيق منهاج الله في الواقع، ولنقدِّم نحن معنى الحريَّة، ومعنى العدالة، ومعنى الأمن والسلام، والقوة والعزَّة، ومعنى حقوق الإنسان، ورعاية الطفولة والأمومة والأُبوَّة، ورعاية العاجزين الضُّعفاء، والمساكين والفقراء، وقواعد السياسة الدولية، وعَظَمة الاقتِصاد الإسلامي، ونظريات علم النفس وقوانينها، ونظريات التربية وعلم الاجتماع وعِلم السكان، وغير ذلك من العلوم الإنسانية، والقواعد الفكرية والمنهجيَّة.
نحن الذين يجب أن نقدِّم الصورة المُثْلى للأدب وكلمته، على طهارتها وطبيعتها وغناها، نحن الذين يجب أن نقدِّم معنى الجمال في الحياة، معنى الحب؛ حتى لا يتحوَّل هذا وذاك إلى جمال فتنة وفسادٍ، وشهوة وهوًى، أو إلى حبٍّ رخيص مُدنَّس بالفاحشة والفُجُور.
نحن الذين يجب عليهم أن يقدِّموا للعالم كلِّه أعظمَ صورة للشُّورى، وأكرم منزلة للإنسان، وأوعى دورٍ للشعب، وأطيب العلاقات وأكرم الوشائج.
نحن الذين يجب عليهم أن يقدِّموا للبشرية معاني الرحِم والقُربى، ووشائج الأسرة والبيت، ومنزلة الوالدين، ومنزلة المرأة في طُهرها وعَفَافها، وطيب حنانها، وعزَّة عطائها، وهي تُسهم في بناء الأمة المسلمة.
هذه بعض مسؤولياتنا اليوم، ولكن هذه المسؤوليات هي مسؤوليات أُمَّة مسلمة واحدة، قائمة في الأرض صفًّا واحدًا - كالبنيان المرصوص.
فأين هي الأمة المسلمة الواحدة التي تتحقَّق فيها الخصائص الربَّانية اليوم، والتي تخاطب العالم كلَّه من جميع منابره؛ لتُقَدِّم له دعوة الله ودينه، وتقدِّم له الحلول الصادقة لمشكلاته الإنسانيَّة في واقعنا المعاصر؟
لا يُعْقَل أبدًا أن يحملَ لواء العدالة الجبابرة الظالمون، ولا أن ينادي بالأمن والسلام القَتَلة المجرمون، ولا أَن تنطلق الحريَّة والإخاء والمساواة من ماسونيَّة تعيش في زوايا العتمة والظلام، ولا من الشيوعيَّة أو الاشتراكية أو الديمقراطية.
إنَّ جميع الشعارات البَرَّاقة؛ من العدل والحرية، والأمن وغيرها - الشعارات التي يحبُّها الناس، وحُقَّ لهم أن يُحبُّوها - يجب أَن نقدمِّها باسم الإسلام طاهرة وضيئة، صادقة غنيَّة، مع صِدق الممارسة، وطهارة العمل، فقد أغنانا الله عن كلِّ تلك المسمَّيات والألقاب، لماذا يقدِّم اليوم بعض المسلمين مبادئ الحرية للإنسان وللشعوب باسم الديمقراطية وغيرها، وهي حرية مشوَّهة متناقضة، تغيب بين الجرائم والشهوات والمخدرات؟! لماذا لا نقدِّم للعالَم مبادئ حرية الإنسان، وحرية الشعوب، وسائر المبادئ التي ينادي بها الناس ويبحثون عنها؟ لماذا لا نقدِّمها نحن للعالَم كله نظرية وتطبيقًا، ونموذجًا عمليًّا باسم الإسلام؟!
نحن إذًا أبناء عصرنا الحالي، نحن أبناء واقعنا المعاصر، وبين أيدينا منهاج الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، حَقٌّ مُطلق كله، يَصلح لكلِّ عصرٍ ولكل جيل ولكل قوم، وبين أيدينا خِبرة قرون وأجيال، ونماذج من عمل الرُّسل والأنبياء، والنموذج الأعلى المفصَّل بين أيدينا من سيرة النبوة الخاتمة، فنضع الحلول لمشكلاتنا نحن اليوم، ونقدِّمها للعالم كله من كلِّ منابره باسم الإسلام.
إنَّ العجزَ والتقصير فينا نحن البشَر في مقدار ما نحمله من صفاء الإيمان والتوحيد، وصدق العلم بمنهاج الله، ووعي للواقع من خلال منهاج الله، وليس في منهاج الله نفسه، إنه في مقدار ما نَبني مواهبنا الإيمانيَّة ونرعاها لتنطلق فتُعطي وتُثمر.
أحيانًا نحن نقتل مواهبنا في الأمة المسلمة، بما يمزِّقها من عصبيات جاهلية، وتفرُّقٍ وشَتات، وصراع مصالح دنيويَّة وأهواء.
إن الأمة المسلمة الواحدة، والصف المؤمن الواحد، هو الذي يُطلق مواهب المؤمنين؛ عبادةً لله، وطاعة له في جميع ميادين الحياة، وهي تحمل رسالة الله إلى البشريَّة كلها، إلى الناس كافَّة.