لذة معرفة الله
مدة
قراءة المادة :
11 دقائق
.
لذة معرفة الله في مِثلِ هذه الظروف الراهنة والفتن المدلهمة؛ حيث تداعت الأمم على هذه الأمة كما تداعَى الأكلةُ إلى قصعتها، وتكاثرت الجراح فلا يكاد جرح يلتئم إلا وآخر ينفتح، ناهيك عن انتشار الحرام بصورة لافتة للأنظار؛ مِن ربا وزنا، ورشوة، وأكل للحرام، وتفريطٍ في الصلوات، واتباع للشهوات، وإغراقٍ في الفتن، وهنا ترتفع أصوات الغيورين المحبين، داعين إلى ضرورة التربية الصادقة، وإنشاء اللبنة وبناء الجيل الذي يمكن أن يقاوم الفتنَ بنفس راضية وعقل مُفكر، وتختلف أساليب هؤلاء الغيورين إلا أنها تلتقي عند هدف واحدٍ تسعى إلى تحقيقه، مع أن كثيرًا منها هو اهتمام بجزئيات الحلول.
ألَا وإن من تلك الحلول الكلية التي عليها مدار كل الحلول: "معرفة الله تعالى عن طريق أسمائه الحسنى وصفاته العلا"، والتعبُّد له عن طريق ذلك.
فأول الفتوح معرفة الله، وإن ترسيخ هذه المعرفة في قلوب الناس لهو وضع حجر الأساس الذي لا تعصف به الحوادثُ، ولا تؤثر فيه المتغيرات، وتربية المجتمع بهذه الطريقة هو الحل لمعضلاتنا، والدواء لمشكلاتنا، وهو مصدر قوتنا وطريق عزنا، وهل عمارة القلوب إلا بمعرفة الله بأسمائه وصفاته؟ وهل عمارة المجتمعات إلا بعمارة القلوب؟ وهل ينصرنا الله إلا إذا عرَفناه وعبدناه وشكرناه؟
واقع مخجل:
• واقع مخجل أن تجد كثيرًا من الناس يعرفون عن كل شيء شيئًا، فإذا تعلق الأمر بالله ومعرفته، فوجئت أنهم لا يعرفون شيئًا!
• واقع مخجل أن تجد الرجل يتحدث عدة لغات أجنبية بطلاقة، فإذا جاء إلى تلاوة آية من كتاب الله فكأنه أجنبي!
• واقع مخجل أن ترى الرجل عند الحديث عن السياسة محللًا بارعًا، وعند الحديث عن الكرة أو سوق العمل أو الموضة أو غيرها، تراه عالِمًا بالآراء مُفنِّدًا لها!
لكن لو طلبت منه أن يتكلم عن الله تعالى عدة دقائق، فلربما لا يستطيع، ولقد جرَّبتُ ذلك كثيرًا، وسألت كثيرًا منهم: ماذا تعرف عن اسم الله الصمد؟ أو القُدُّوس؟ أو المُقِيت؟ أو المَجيد؟ أو الحَكَم؟ فالجواب: لا جواب! إذًا كيف تعبدُ الله وأنت لا تعرفه؟! فأول الفتوح معرفة الله.
إن الحديث عن سير العظماء والأكابر والمصلحين من أئمة التاريخ والإسلام والعلم والحضارة - شيءٌ جميل، وأجمل منه إذا كان الحديث عن سير النبيين والمرسلين وعن إمامهم وقائدهم محمد صلى الله عليه وسلم، وأجمل من ذلك كله إذا كان الحديث عن الله تعالى وأسمائه الحسنى وصفاته العلا.
لمن هذا الطرح؟
أمنية قديمة كم رجوتُ الله تعالى أن يمنحني شرفها، وأرجوه تعالى أن يمنحني إتمامها؛ أن يوفِّقني الله تعالى في شرح أسماء الله الحسنى وصفاته العلا، مبينًا معانيها وآثارها في الشرع والكون، وصفة التعبد لله بها، وقد جهرتُ بذلك مرارًا؛ لأن كل إنسان على وجه الأرض بحاجة ماسة إلى معرفة الله أعظمَ من حاجته إلى طعامه وشرابه.
فالعالِم بحاجة إلى معرفة ربه عن طريق أسمائه وصفاته؛ ليهذب نفسه، ويزكو بروحه، ويسترشد بذلك على الأحكام الشرعية والمقاصد الربانية.
وطالب العلم بحاجة إلى ذلك؛ ليهذب أخلاقه، ويربي نفسه على نهج العُبَّاد العارفين.
والعامي بحاجة إلى ذلك؛ ليوقنَ بخالقه، وليعرف حكمته في الشرع والكون، ويستعين بذلك على التعبُّد.
إن مِن فقه الدعوة أن يتوجه الداعية والعالم إلى تعريف الناس بربهم، ولا يستطيل الزمان في ذلك، ولو قضى عمرَه كله في تعريف الناس بالله لكفى؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ظل ثلاثة عشر عامًا كاملة يُعرِّف الناس بالله؛ فإن الناس إذا عرَفوا ربهم عبدوه، وبذلوا في سبيل مرضاته مُهَجَهم وأرواحهم، وقدَّموا محابَّه على محابِّهم، ورضاه على شهواتهم ورغباتهم، وهذا هو بيتُ القصيد وعنوان العبودية.
حاجتنا إلى معرفة الله:
لا نستطيع أن نعبد الله إلا إذا عرَفناه، فعلى سبيل المثال: عندما يتعرف الواحد منا على شخصٍ ما معرفةً عامة، فإن نظرته له ستكون نظرة عامة، وتعامله معه سيكون تعاملًا عابرًا، لكن إذا اقتربت منه وازدادت معلوماتك عنه، وعرَفت قدراته وشهاداته وخبراته، فإن هذا من شأنه أن يزيدك احترامًا وهيبة وتقديرًا لهذا الشخص؛ مما ينعكس على طريقة تعاملك معه.
ولله المثل الأعلى: نحن بحاجة إلى معرفة الله معرفةً حقيقية؛ لتزداد خشيتُنا له، وخوفنا منه، ورجاؤنا فيه، وتوكُّلُنا عليه، وقيامنا بحقوقه، وتعظيمُنا لشعائره، ووقوفنا عند حدوده.
سأل موسى ربه: أيْ ربِّ، أيُّ عبادك أخشى لك؟ قال: أعلَمُهم بي[1].
وصدق الله إذ يقول: ﴿ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ﴾ [فاطر: 28]؛ أي: العلماء به.
قال الأصفهاني: "قال بعض العلماء: أول فرض فرضه الله على خلقه معرفتُه، فإذا عرفه الناس عبدوه؛ قال تعالى: ﴿ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ﴾ [محمد: 19]"[2].
قال ابن القيم رحمه الله: "أي شيء عرَف مَن لم يعرف الله؟! وأي حقيقة أدرك مَن فاتته هذه الحقيقةُ؟! وأي علمٍ أو عمل حصَّل من فاته العلم بالله والعمل بمرضاته ومعرفة الطريق الموصِّلة إليه؟"[3].
معرفة الله حياة الروح ونعيمها، ولذَّتُها وسرورها، والعبد كماله في أن يعرف الله فيحبه، ثم في الآخرة يراه ويتلذذ بالنظر إليه.
قال مالك بن دينار: "مساكين أهل الدنيا؛ خرجوا منها وما ذاقوا أطيبَ ما فيها! قيل له: وما أطيب ما فيها؟ قال: معرفة الله ومحبته"[4].
فهل عرفنا الله حق معرفته؟
الله يجيب، قال الله: ﴿ وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ﴾ [الزمر: 67]؛ أي: ما عظَّموه حق تعظيمه، وما عرَفوه حق معرفته، وما وحَّدوه حق توحيده، وما عبدوه حق عبادته، فمن عرفه خافه وأحبه ورجا ثوابه، وعظَّمه وفَرَّ منه إليه، وأناب إليه وتوكل عليه.
هل قدَر اللهَ حق قدره مَن زعم أن غير الله يملك النفع والضر، والإماتة والإحياء، والرزق والحكم والتدبير؟!
سبحانه له كل العظمة، وله كل الجلال، وله كل الكمال، وله كل الحمد والثناء، لا ند له ولا شريك له، ولا شبيه له ولا مثيل له، ولا كفء له، ولا ولد له ولا والد له: ﴿ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ ﴾ [الإخلاص: 1 - 4].
من الذي يستحق أن يُعبَدَ إلا الله؟
من الذي يستحق أن نتوكل عليه إلا الله؟
من الذي يستحق أن نخافه كلَّ الخوف إلا العزيز الجبار؟
من الذي يستحق أن نحبه كل الحب إلا الرحيم الودود؟
من الذي يستحق أن يُعظَّم كل التعظيم إلا الملك العظيم؟
هل قدَر اللهَ حق قدره وعرفه حق معرفته مَن عصى أمره وارتكب نهيه، وضيع حقه وأهمل ذكره، وكان هواه آثَرَ عنده من طلب رضاه؟
هل عرف الله حق معرفته وقدره حق قدره مَن استخف بنظر الله إليه واطلاعه عليه، وهو في قبضته وناصيته بيده؟
هل عرف الله حق معرفته وقدره حق قدره من يستحيي من الناس ولا يستحيي من الله، من يخشى الناس ولا يخشى الله، من يعامل الخلقَ بأفضل ما يقدر عليه، وإن عامَلَ الله جعله أهونَ الناظرين إليه؟ ﴿ وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ﴾ [الزمر: 67][5].
روى أحمد عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية ذات مرة على المنبر: ﴿ وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ [الزمر: 67]، ورسول الله يقول هكذا بيده، ويحرِّكها؛ يُقبل بهما ويدبر: ((يمجد الرب تعالى نفسه: أنا الجبار، أنا المتكبر، أنا الملك، أنا العزيز، أنا الكريم))، فرجف المنبر برسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قلنا: ليَخِرَّنَّ به".
وفي رواية لمسلم: "حتى نظرت إلى المنبر يتحرك من أسفل شيء منه، حتى إني لأقول: أساقطٌ هو برسول الله صلى الله عليه وسلم؟".
وفي الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: جاء حبر من الأحبار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا محمد، إنَّا نجد أن الله يجعل السماوات على إصبع، والشجر على إصبع، والثرى على إصبع، وسائر الخلق على إصبع، ثم يهزهن ويقول: أنا الملك، أنا الملك، فضحِك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه؛ تصديقًا لقول الحبر، ثم قرأ رسول الله قولَ الله: ﴿ وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ ﴾ [الزمر: 67].
وإن العقل ليندهش ويسجد إجلالًا لله تعالى؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((أذن لي أن أُحدِّث عن مَلَك من حملة العرش رِجلاه في الأرض السفلى، وعلى قرنه العرش، وبين شحمة أذنه وعاتقه خفقان الطير سبعمائة عام، يقول ذلك الملَك: سبحانك حيث كنت))[6].
وقال صلى الله عليه وسلم: ((ما في السماء الدنيا موضعٌ إلا عليه ملَكٌ ساجد أو قائم، وذلك قول الملائكة - كما في سورة الصافات -: ﴿ وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ * وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ * وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ ﴾ [الصافات: 164 - 166]))[7].
[1] الزهد؛ لابن المبارك.
[2] الحجة في بيان المحجة.
[3] هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى.
[4] مدارج السالكين.
[5] معرفة الله؛ سيد عطوة، بتصرف شديد.
[6] رواه الطبراني في الأوسط، وصححه الألباني في صحيح الجامع.
[7] السلسلة الصحيحة رقم (1059).