أرشيف المقالات

وقفات مع فصل الصيف

مدة قراءة المادة : 43 دقائق .
وقفات مع فصل الصيف



الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه، وبعد:
فإن الدهور والأعوام، والليالي والأيام سنن الله تتعاقب في هذه الدنيا، ولن تجد لسنة الله تبديلًا، وبتعاقبها وسيرها، تتعاقب فصول السنة على الناس، فهذا فصل للصيف، وذاك فصل للشتاء، وذاك للخريف، وذا للربيع، ومن حكمة الله تعالى ونعمته أن خصَّ كل موسم بما يناسبه من الزروع والثمار واللباس فيه، ونوَّع فيه الأعمال؛ لدفع السآمة عن الإنسان، والمؤمن الحق من وقف مع هذه النِّعَم والحِكَم وتدبَّرها حقَّ التدبُّر، وشكر الله لأجلها قولًا وعملًا.
 
ولأننا في فصل الصيف، فإنني سأقف بعض الوقفات الإيمانية؛ لنعرف بعض الأحكام وبعض الآداب وبعض الأخطاء التي يرتكبها الناس في هذا الموسم.
 
ففي الصيف يتخفَّف الناس من ثيابهم، وتنكشف عن بعضهم عوراتهم، ويُخِلُّون بوضوئهم وصلواتهم، وفي الصيف تعرض أفضل الصدقات، وتهدر الأوقات، وهناك وأمور عديدة سأعرضها إن شاء الله تعالى في ثنايا هذا المقال الذي هو بعنوان "وقفات مع فصل الصيف".
 
الوقفة الأولى: الصيف وستر العورات:
يتصف الصيف في دول الخليج بالحرارة الشديدة، وتحت وهج هذه الحرارة يتخفَّف بعض الناس من ملابسهم خاصة في بيوتهم، ويبقون بالملابس التي فوق الركبة أمام أولادهم وبناتهم الكبار؛ بل وأمام خَدَمهم وخادِماتهم، ولا شكَّ أن هذا أمرٌ منهيٌّ عنه؛ حيث روى عبدالرحمن بن جرهد، قال: كان جرهد رضي الله عنه من أصحاب الصفة، قال: جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم عندنا وفخذي منكشفةٌ، فقال: ((أما علمت أن الفخذ عورة؟))؛ رواه الإمام أحمد وأبو داود.
فينبغي ستر الفخذ حتى عن الأبناء البالغين، كما يجب أن نعلم بأن الخادمة امرأة أجنبية عنَّا؛ وليست من أفراد العائلة، لا يحلُّ لنا رؤيتها، ولا أن ترانا متخفِّفين من ملابسنا بصورة قد تؤثر في نفسيَّتها، وتُثير شهوتها.
 
والملاحظة الثانية في أمر تكشُّف العورات ما يحدث في حمامات السباحة؛ حيث يحلو في هذا الموسم السباحة في البحر وفي البرك العامة والعيون، وإننا نسمع عن بعض مرتادي هذه الأماكن مَنْ يلبس ملابس سباحة غير ساترة، تكشف معها الفخذ، ومنهم من يسبح بالسراويل البيضاء الطويلة وهي تكشف ليس الفخذ فحسب؛ وإنما العورة المغلَّظة، فالحذرَ الحذرَ من انكشاف العورات.
 
الوقفة الثانية: الصيف والإخلال بالوضوء:
ففي الصيف تشتدُّ الحرارة، ويكاد يخرج الماء من المواسير مغليًّا مُبَسْترًا، ويتهاون بعض الناس في إسباغ الوضوء بسبب حرارة الماء الزائدة خاصة عند غسل الوجه، فترى بعضهم يضع الماء في كفَّيه، ثم يرميه، ثم يمسح وجهه مسحًا حتى لا يحرق وجهه، وهذا إخلال بالواجب؛ لأن الواجب في الوضوء غسل الوجه، وليس مسحه، فيجب التنبُّه إلى ذلك، والحذر من عظيم إثمه؛ حيث روى عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رجلًا توضَّأ، فترك موضع أظفر على قدمه، فأبصره النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((ارجع فأحسن وضوءك))، فرجع ثم صلى؛ رواه الإمام مسلم، وروى عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى قومًا وأعقابهم تلوحُ فقال: ((ويل للأعقاب من النار، أسبغوا الوضوء))؛ رواه الإمام مسلم، وأبو داود.
 
فينبغي على كل مسلم أن يحرص كل الحرص على إسباغ وضوئه، وأن يتحمَّل حرارة هذا الماء، فهذا من إسباغ الوضوء على المكاره التي وُعِد أصحابُها بتكفير خطاياهم؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: ((أَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى مَا يَمْحُو اللهُ بِهِ الْخَطَايَا، وَيَرْفَعُ بِهِ الدَّرَجَاتِ؟))، قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: ((إِسْبَاغُ الْوُضُوءِ عَلَى الْمَكَارِهِ، وَكَثْرَةُ الْخُطَا إِلَى الْمَسَاجِدِ، وَانْتِظَارُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ، فَذَلِكُمُ الرِّبَاطُ))؛ رواه الإمام مسلم.
 
ومن لم يستطع تحمُّل هذا الماء، فليخلطه بماء بارد؛ لكي يسبغ وضوءه ولا يخل به.
 
وعند اشتداد الحر يعمد بعض الناس إلى كفت أكمامهم، وتشميرها أثناء الصلاة أو قبل الدخول في الصلاة، وهذا أمر مكروه كراهة تنزيه؛ حيث روى ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((أُمِرْتُ أَنْ أَسْجُدَ عَلَى سَبْعَةِ أَعْظُمٍ، وَلَا أَكُفَّ ثَوْبًا وَلَا شَعْرًا))؛ رواه مسلم.
 
قال النووي رحمه الله: "اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى النَّهْيِ عَنِ الصَّلَاةِ وَثَوْبُهُ مُشَمَّرٌ أَوْ كُمُّهُ أَوْ نَحْوُهُ"؛ شرح النووي على مسلم (4/ 209).
 
الوقفة الثالثة: الحر والإخلال بالصلاة:
ففي إجازة الصيف يشدُّ معظم الناس الرحال إلى مكة المكرمة ولله الحمد؛ لأداء العمرة والمكث في الرحاب الطاهرة، ومن الأخطاء التي يقع فيها بعض المحرمين بسبب الحر أنهم يرمون الرداء أثناء الصلاة للتبرُّد، ويصلون ليس على عواتقهم شيء، وهذا فيه مخالفة شرعية؛ حيث أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بتغطية الكتف أثناء الصلاة؛ فقد روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لَا يُصَلِّي الرَّجُلُ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ لَيْسَ عَلَى عَاتِقِهِ مِنْهُ شَيْءٌ))؛ متفق عليه.
 
كما يحدث مثل هذا الأمر في البيوت، فعند اشتداد الحرِّ وامتلاء الجسم بالعرق ينزع البعض بعض ملابسه، ويُصلِّي وليس على عاتقه شيء، فينبغي التنبُّه لذلك، وأن يتزيَّن العبد أمام ربِّه عند أداء الصلاة، ولو كان في بيته.
 
الوقفة الرابعة: التقاعس عن صلاة الفجر:
إذا دخل الصيف طال النهار، وقصر الليل، واستصعب القيام على الكثير لصلاة الفجر؛ بسبب تعوُّدِهم على النوم متأخِّرين، فالذي لا ينام إلا عند الساعة الثانية عشرة ليلًا فلا يبقى على أذان الفجر إلا ساعات قليلة لا تكفي لأخذ قسط وافٍ من النوم، فترى هؤلاء لا يستيقظون إلا بعد طلوع الشمس، وهذا منزلق خطير، وكبيرة من كبائر الذنوب يقع فيها كثير من الناس خاصة في فصل الصيف، فيجب الحذر من التهاون في صلاة الفجر.
 
الوقفة الخامسة: الصيف وإفرازات العرق
تكثُر إفرازات العرق من الجسم في فصل الصيف، وتنبعث أحيانًا منه روائح كريهة، ومن الناس من لا يكترث بنظافته الشخصية، فيُؤذي جليسه أو مَنْ جاوره في الصلاة برائحة العرق، فعليك أخي المسلم بالنظافة، والإكثار من الاغتسال عند الحر، والعناية بنتف الإبط وتطييبه، واستخدام مزيل العرق إن أمكن؛ لكيلا يتأذَّى مَنْ يُجالسك أو مَنْ يصلي بجوارك.
 
وقد وقَّت لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم نتف الإبط كل أربعين يومًا لا نزيد على ذلك؛ حيث روى أنس بن مالك رضي الله عنه قال: «وقَّتَ لنا رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: حلْقَ العَانَةِ، وتقليمَ الأَظْفارِ، وقَصَّ الشَّارِبِ، ونَتْفَ الإِبطِ، أربعينَ يومًا مرَّةً».
 
أما المدخنون فتزداد رائحتهم في الصيف، وكم من مصلٍّ هرب من مكانه؛ طلبًا للخشوع حين جاوره مدخن قد تصبَّب العرق من جسمه!
 
فليتَّقِ هؤلاء المدخنون ربَّهم، ولا يؤذوا ملائكة الله، ولا عباد الله؛ فإن الملائكة تتأذَّى ممَّا يتأذَّى منه بنو آدم.
 
الوقفة السادسة: سنة غائبة:
روى أبو ذر الغفاري رضي الله عنه قال: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَأَرَادَ الْمُؤَذِّنُ أَنْ يُؤَذِّنَ الظُّهْرَ، فَقَالَ: ((أَبْرِدْ))، ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يُؤَذِّنَ فَقَالَ: ((أَبْرِدْ)) - مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا - حَتَّى رَأَيْنَا فَيْءَ التُّلُولِ، ثُمَّ قَالَ: ((إِنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ، فَإِذَا اشْتَدَّ الْحَرُّ فَأَبْرِدُوا بِالصَّلَاةِ))؛ رواه أبو داود.
 
وروى أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِذَا كَانَ الْحَرُّ، أَبْرَدَ بِالصَّلَاةِ، وَإِذَا كَانَ الْبَرْدُ عَجَّلَ»؛ رواه النسائي.
 
فالسنة تأخير صلاة الظهر في الصيف حتى يظهر ظِلٌّ يمشي فيه الناس، وتعجيلها في الشتاء.
 
الوقفة السابعة: نعمة الماء البارد:
لقد جعل الله تعالى من الماء كل شيء حي، وتعظم منفعة الماء والحاجة إليه عند اشتداد الحرارة، وإنَّ من أفضل ما تُقدِّمه لإنسان عند اشتداد هذا الحر ماءً باردًا يُطفئ لهب ظمئه، فالماء البارد من أعظم النعم التي سيُسأل عنها ابن آدم يوم القيامة وهو غافل عن ذلك، فهل استشعرنا هذه النعمة، وأدَّينا شكرها، وحمدنا الله عليها كلما شربنا؟! روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إِنَّ أَوَّلَ مَا يُسْأَلُ عَنْهُ يَوْمَ القِيَامَةِ – يَعْنِي: العَبْدَ مِنَ النَّعِيمِ - أَنْ يُقَالَ لَهُ: أَلَمْ نُصِحَّ لَكَ جِسْمَكَ، وَنُرْوِيَكَ مِنَ المَاءِ البَارِدِ؟))؛ رواه الترمذي والحاكم.
 
وثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج يومًا من منزله بسبب الجوع، فلقي أبا بكر الصديق رضي الله عنه في الطريق، فسأله ما أخرجه؟ فقال: الجوع، ثم لقيا عمر رضي الله عنه فسألاه عما أخرجه؟ فقال: الجوع، فمضوا حتى أتوا نخلًا لأحد الأنصار ففرح بهم، فضيَّفهم وذبح لهم شاة، وقدَّم لهم عذقًا من النخل فيه بسر ورطب وماء بارد، فلما أكلوا وشربوا من الماء البارد، قال صلى الله عليه وسلم: ((هذا من النعيم الذي ستسألون عنه يوم القيامة)).
 
إن بعض الناس من حاله مثل الأنعام يأكل ويشرب ويرفل في نعم الله تعالى، لا يعرف حمدًا ولا شكرًا.
 
فهل استشعرت عظيم نعمة الله عليك حين يسَّر لك من وسائل التبريد والتكييف ما تطمئنُّ به نفسُكَ، وتتَّقي به حرَّ الشمس وسمومها، وتعيش في جوٍّ هادئ في بيتك وفي مسجدك أو في مكان عملك؟! بينما غيرك قد صهرته الشمس بلهيبها؛ لقلة ذات اليد، ونقص ما لديه من وسائل تبريد.
 
فاشكروا نعمة الله عليكم، يرضَ عنكم؛ فقد روى أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّ اللهَ لَيَرْضَى عَنِ الْعَبْدِ أَنْ يَأْكُلَ الْأَكْلَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا، أَوْ يَشْرَبَ الشَّرْبَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا))؛ رواه الإمام مسلم.
فاعرفوا نعم الله عليكم، يُجدِّدْها لكم.
 
الوقفة الثامنة: مع أفضل الصدقات:
روى سعد بن عبادة رضي الله عنه قال: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أُمَّ سَعْدٍ مَاتَتْ، فَأَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: ((الْمَاءُ))، قَالَ: فَحَفَرَ بِئْرًا، وَقَالَ: هَذِهِ لِأُمِّ سَعْدٍ؛ رواه أبو داود، وفي رواية «أَنَّ سَعْدًا أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أُمِّي تُوُفِّيَتْ وَلَمْ تُوصِ، أَفَيَنْفَعُهَا أَنْ أَتَصَدَّقَ عَلَيْهَا؟ قَالَ: ((نَعَمْ، وَعَلَيْكَ بِالْمَاءِ))؛ رواه الطبراني، وروى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ليس صدقةٌ أعظمَ أجرًا من ماءٍ))؛ رواه البيهقي.
 
فهذه دعوة في هذا الموسم بسقي الماء البارد وإصلاح برَّادات المساجد والمدارس والأماكن العامة وكذلك برَّادات وثلاجات الأُسَر الفقيرة، فإن ذلك من أعظم الأجور في موسم الصيف.
 
ومن المعلوم أنه كلما كانت الصَّدَقة أعظم نفعًا للفقير، عظم أجرُها وثوابها عند الله عز وجل، ولا أنفع للفقير في هذا الموسم الحار من إصلاح ثلاجته أو مُكيِّفه.
 
فتحسَّسُوا حاجة فقرائكم في هذا الجو الحارِّ، وقدِّمُوا لأنفسكم أعظم الأجور في فصل الصيف، وخذوا مثالًا من أنفسكم، ففي المسجد لولا وجود هذه المكيِّفات، لما استطاع أحدٌ الجلوس فيه دقيقة واحدة، فكم هو أجر مَنْ وضَعَ هذه المكيِّفات أو أسهم في إصلاحها.
 
الوقفة التاسعة: حر الصيف وحر جهنم:
إن كثيرًا من الناس نسمعهم يتذمَّرون من الجو الحار؛ بل ويسبُّون هذا الجو، ويستهزئون به بمقارنته بجوِّ بعض الدول الأوربية، وكان بالإمكان أن نجعل هذا الجوَّ شديدَ الحرارة وسيلةً ليُذكِّرنا بحَرِّ يوم القيامة الذي ستقفه جميعُ الخلائق في يوم مقداره خمسون ألف سنة تحت أشعة شمس حارقة، وكذلك ليُذكِّرنا هذا الحر بحَرِّ جهنم وسمومها؛ روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((اشْتَكَتِ النَّارُ إِلَى رَبِّهَا، فَقَالَتْ: رَبِّ أَكَلَ بَعْضِي بَعْضًا، فَأَذِنَ لَهَا بِنَفَسَيْنِ: نَفَسٍ فِي الشِّتَاءِ، وَنَفَسٍ فِي الصَّيْفِ، فَأَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنَ الحَرِّ، وَأَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنَ الزَّمْهَرِيرِ))؛ رواه البخاري ومسلم.
 
إن هذا الحديث يُعلِّم المسلم ويُذكِّره بأن حرَّ الصيف الشديد وسمومه ما هو إلا جزءٌ لا يُذكَر من سموم جهنم، وقد جاء في الحديث الصحيح الآخر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إِذَا اشْتَدَّ الحَرُّ فَأَبْرِدُوا بِالصَّلاةِ، فَإِنَّ شِدَّةَ الحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ))؛ رواه البخاري.
 
كما أن الحديث السابق يدعونا إلى الربط بين أمور الدنيا ومثيلها في الآخرة، فعلى المؤمن المتقي أن يجعل كل مناسبة، وكل وقت يمرُّ عليه يُذكِّره باليوم الآخر بكربه ونعيمه وجحيمه وأهواله، فإذا عانى العبد من شدَّة الحر، فلا يجوز له سبُّ الجو الحار والتذمُّر منه، كما يفعل كثيرٌ من الناس؛ وإنما عليه التحلِّي بالصبر، وأن يجعل هذا الجو اللاهب وسيلةً ليتذكَّر به سموم جهنم، ومن ثم الاستجارة من عذاب جهنم، ومن فعل ذلك شفعت له جهنم عند الله عز وجل، قائلةً: اللهمَّ أجره مني، فقد روى أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((مَنْ سَأَلَ اللَّهَ الجَنَّةَ ثَلاثَ مَرَّاتٍ قَالَتِ الجَنَّةُ: اللَّهُمَّ أَدْخِلْهُ الجَنَّةَ، وَمَنْ اسْتَجَارَ مِنَ النَّارِ ثَلاثَ مَرَّاتٍ قَالَتِ النَّارُ: اللَّهُمَّ أَجِرْهُ مِنَ النَّارِ))؛ رواه الإمام أحمد والترمذي.
 
إن كثيرًا من الناس إذا اشتدَّ عليه الحرُّ سرعان ما يتذكَّر الجو البارد والمنعش في الدول السياحية؛ ولكنه يتباطأ عن تذكُّر نعيم أهل الجنة أو الاستجارة من النار وحرها، فلماذا؟ لأنه يعيش همَّ الدنيا وليس هم الآخرة.
 
ألا تعلم بأن وجود النار في الدنيا يذكِّرنا أولًا بنار الآخرة، والخوف من الوقوع فيها، ثم هي لمتاع الدنيا من طهي وتدفئة ونحو ذلك، اسمع ماذا قال الله عز وجل لنا في سورة الواقعة من حكمة خلق نار الدنيا: ﴿ أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ * أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ * نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ * فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ ﴾ [الواقعة: 71 -74].
 
فالهدف الأول والأساس هو أنه جعلها تذكرةً لنا بنار الآخرة، فهل جعلناها كذلك؟ مع العلم بأن نار الدنيا هي جزء من سبعين جزءًا من نار الآخرة؛ فقد روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ناركم هذه التي تُوقِدون جزءٌ من سبعينَ جزءًا من نارِ جهنَّم))، قالُوا: والله إن كانت لكافيةٌ يا رسول الله، قالَ: ((فإنَّها فُضلت عليها بتسعةٍ وستينَ جزءًا كلُّها مثل حرِّها))؛ متفق عليه. ‌
 

الوقفة العاشرة: الصيف ومواطن الظل
روى معاذ بن جبل رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((اتَّقُوا الْمَلَاعِنَ الثَّلَاثَ: البراز فِي الْمَوارِدِ وَقَارِعةِ الطَّرِيقِ وَالظِّلِّ))؛ رواه أبو داود وابن ماجه.
 
والظل: هو الذي يجتمع فيه الناس لمباح، ومثله كل موضع اتخذه الناس لمصالحهم ومعايشهم المباحة، فلا يجوز إيذاء الناس فيه بتنجيسهم وتقذيرهم، فهذا الحديث يأمر باحترام الأماكن العامة التي يَرِدُها الناس، ويجلسون فيها، خاصة مواطن الظل التي يبحث عنها الناس في هذا الموسم، فلا نلوِّثها.
 

الوقفة الحادية عشرة: الصيف وانقلاب نوم الأسرة
فمنذ انتهاء الاختبارات وابتداء الإجازة الصيفية بدأ كثيرٌ من الطلاب، وتبعهم آباؤهم بالسهر ليلًا والنومِ نهارًا؛ هروبًا من حرِّ الشمس، وإن الكيِّس الفطِن والحريص على المسابقة إلى الخيرات يمكنه استغلال هذا الوضع في زيادة حسناته ودرجاته، وقربه من الله عز وجل بكثرة الصيام والقيام.
 
إن الحرَّ لا ينبغي أن يكون عائقًا لنا ومفترًا عن الاستزادة من طاعة الله عز وجل، فقد كان السلف الصالح يرونه غنيمةً لا تفُوت، فيكثرون فيه من صيام الأيام الحارَّة؛ لعلَّها تُنجيهم من حرِّ يوم القيامة، فهذا معاذ بن جبل رضي الله عنه حين حضرته الوفاة لم يتأسَّف على مال ولا ولد، ولم يَبْكِ على فراق نعيم الدنيا؛ ولكنه تأسَّف على قيام الليل ومزاحمة العلماء بالركب، وعلى ظمأ الهواجر بالصيام؛ أي: على فراق صوم أيام الحر الشديد، وقال أبو الدرداء رضي الله عنه: «صوموا يومًا شديدًا حره؛ لحر يوم النشور، وصلوا ركعتين في ظلمة الليل؛ لظلمة القبور، وتصدَّقُوا بصدقة السِّرِّ؛ لحرِّ يوم عسير».
 
وعندما خرج عبدالله بن عمر رضي الله عنهما في سفر ومعه أصحابه، فوضعوا سفرة لهم، مرَّ بهم راعٍ فدعوه إلى أن يأكل معهم، فقال: إني صائم، فقال ابن عمر: في مثل هذا اليوم الشديد حره وأنت بين هذه الشعاب في آثار هذه الغنم وأنت صائم، فقال: أبادر أيامي هذه الخالية.
 
فتأملوا كيف كانوا يصومون هذه الأيام الحارة رغم عدم تُوفُّر المكيِّفات والمراوح والبرَّادات لديهم، فمن باب أولى أن نُكثِر نحن من صيام أيام الصيف الحارة؛ كالاثنين والخميس أو أيام البيض بسبب وفرة النعم ووسائل الراحة والتبريد التي تُقلِّل معاناة الحرارة والعطش، وخاصة أن كثيرًا منَّا بات يسهرُ طوال الليل وينامُ أول؛ بل معظمَ النهار؛ فلا يُحِسُّ بجوعٍ ولا عطش.
 
وأما الفرصة الثانية فهي قيام جزء من الليل، فقد كان قيامُ الليل دأبَ الصالحين السابقين، وبات لا يعرفه كثيرٌ منا إلا في رمضان، وإنها فرصة عظيمة ما دمت سهرانًا مستيقظًا أن تصلي لله عز وجل في آخر الليل قبيل الفجر ولو ركعتين؛ حيث ينزل الله تعالى إلى السماء الدنيا كل ليلة حين يمضي ثلثُ الليل الأول فيقول: ((أنا الملك، أنا الملك، من ذا الذي يدعوني فأستجيبُ له؟ من ذا الذي يسألني فأعطيه؟ من ذا الذي يستغفرني فأغفر له؟)) فلا يزال كذلك حتى يضيءَ الفجر.
 
فهل يليق بنا أن يقول الله لنا ذلك ونحن في لهو وسمر، وكأننا مستغنون عن رحمة الله عز وجل ومغفرته.
 
إن كثيرًا من الناس يعيشون حياةً ماديةً بحتةً أنْسَتْهم آخرتهم، وجعلتهم لا يذكرون إلا دُنْياهم؛ لذلك نحتاج جميعًا إلى مَنْ يُذكِّرنا بالله، ويُوقِظنا من غفلتنا، وأننا جميعًا مرتحلون إلى الدار الآخرة شئنا ذلك أم أبَيْنا، وما شرعت الموعظة إلا لذلك، وأنه بالإمكان أن نجعل كل موقف من مواقف حياتنا يُذكِّرنا بالآخرة.
 
وهناك العديد من الأمور التي تُعين على ذلك، وتجعل فكرنا يعيش همَّ الآخرة؛ كالإكثار من سماع المواعظ وقراءة القرآن والمداومة على الأذكار الصباحية والمسائية وزيارة المقابر والرفقة الصالحة وغير ذلك كثير.
 
فهذا حر الصيف يُذكِّرنا بحر الآخرة، فينبغي لمن كان في حرِّ الشمس أن يتذكَّر حرَّها يوم القيامة حين تدنوا من رؤوس العباد ويُزاد في حرها، وينبغي لمن لا يصبر على حر الشمس في الدنيا - وكلنا ذلك - أن يتجنَّب من الأعمال ما يستوجب به صاحبه دخول النار، فإنه لا صبر لأحد عليها.
 
وينبغي علينا أن يُصبِّر بعضُنا بعضًا على فعل الطاعات في شدة الحرِّ، وأن لا يُفتِّرنا هذا الحر عن شهود مواطن الخير؛ كالصلوات في المساجد، وشهود الجنائز، وصيام النوافل، ونحو ذلك، فعندما خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى غزوة تبوك، وكانت في حرٍّ شديد تواصَى المنافقون فيما بينهم بعدم النفير في هذا الحرِّ، فجاء الوعيد من الله عز وجل مُذكِّرًا إيَّاهم بحر جهنم ﴿ لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ ﴾ [التوبة: 81]، فحين تخرج إلى صلاة الظهر أو العصر، فترى الشمس اللاهبة، وتحس بالحر اللافح، احتسب ذلك عند الله عز وجل في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون، ولا تتقاعس عن التوجه إلى بيت الله مستجيبًا لنداء الله.
 
واعلم أن هذه الشمس بضخامتها ولهبها المحرق تسجد بين يدي ربها مطيعة مذعنة، كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح الذي أخرجه البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لِأَبِي ذَرٍّ حِينَ غَرَبَتِ الشَّمْسُ: ((أَتَدْرِي أَيْنَ تَذْهَبُ؟))، قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: ((فَإِنَّهَا تَذْهَبُ حَتَّى تَسْجُدَ تَحْتَ العَرْشِ، فَتَسْتَأْذِنَ فَيُؤْذَنُ لَهَا وَيُوشِكُ أَنْ تَسْجُدَ، فَلا يُقْبَلَ مِنْهَا، وَتَسْتَأْذِنَ فَلا يُؤْذَن لَهَا، يُقَالُ لَهَا: ارْجِعِي مِنْ حَيْثُ جِئْتِ، فَتَطْلُعُ مِنْ مَغْرِبِهَا، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ﴾ [يس: 38])).
 
فعلام يتكبَّر بعض المسلمين عن السجود لربهم طاعة له وامتثالًا لأمره قبل أن يحال بينهم وبين السجود يوم القيامة؟ ﴿ يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ * خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ ﴾ [القلم: 42، 43].
 
الوقفة الثانية عشرة: الصيف والسياحة
تعوَّد كثيرٌ من الناس على قضاء إجازاتهم خارج بيوتهم؛ بل وخارج وطنهم، ولا ضير في ذلك؛ ولكن المذموم هو ما تفعله بعض الأسر من الذهاب إلى دول الانحلال والسكن بين ظهراني المشركين دون أي ضرورة، وقد روى جرير بن عبدالله رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أَنَا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ يُقِيمُ بَيْنَ أَظْهُرِ المُشْرِكِينَ))، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَلِمَ؟ قَالَ: ((لَا تَرَاءَى نَارَاهُمَا))؛ رواه أبو داود والترمذي.
 
كما يجب أن نعلم بأن المسلم لا يحل له ارتياد أماكن المعصية؛ كالمراقص والحفلات المختلطة والأماكن التي تدار فيها الخمور ونحو ذلك، فالمسلم يجب عليه ألا تطأ قدمه مكانًا يُغضِب الله عز وجل؛ لأنه لا يدري متى تأتيه منيَّتُه، ولا يدري في أي أرض يموت.
 
إننا نسمع عن أُسَر ترى لها سلوكًا منضبطًا في بلدها، فإذا سافرت خارج الوطن، خلعت ثياب الغيرة والحياء وأمر الأزواج زوجاتهم بالتبرُّج وخلع الحجاب، وفرَّطوا في صلواتهم، وامتدت أعينهم على ما حرَّمَه الله عليهم.
 
لقد شبَّه المصطفى صلى الله عليه وسلم المؤمن بالنخلة التي لا يسقط ورقها، وقال: ((هي مثل المؤمن))، فالمسلم يجب أن يكون ثابتًا على طاعة الله طوال العام؛ لا أن يكون متلوِّنًا كالحرباء، مستقيمًا في بلده في الشتاء، فإذا جاء الصيف سقطت حَسَناتُه كما تسقط أوراق الشجر.
 
ألا إن أفضل سياحة للمسلم تزيد من حسناته وترفع من درجاته هي التوجُّه إلى بيت الله الحرام وإلى مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، إننا نسمع عن ملايين المسلمين في شتى بقاع الأرض تشرئبُّ نفوسُهم، وتتمنَّى الوصول إلى الديار المقَّدسة؛ ولكنهم لا يستطيعون، ونحن أهل الديار أنهرب منها ونستبدلها بالذي هو أدنى؟! فاغتنموا أيام عمركم، واعمروا أوقاتكم فيما يرضي ربَّكم.
 
الوقفة الثالثة عشرة: الصيف وحفلات الزواج
تكثر في فصل الصيف حفلات الزواج ولله الحمد، سائلًا المولى عز وجل أن يجعلها حفلات مباركة على أهلها، وأن يجمع بين هؤلاء الأزواج على خير، ولقد رغب المصطفى صلى الله عليه وسلم في حضور حفلات الزواج؛ بل أوجَبَها على رأي لبعض أهل العلم؛ حيث روى عبدالله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إِذَا دُعِيَ أَحَدُكُمْ إِلَى وَلِيمَةِ عُرْسٍ، فَلْيُجِبْ))؛ رواه الإمام مسلم. ‌
 
والزواج هو نصف الدين كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإن إقامة حفلات العرس من الدين؛ بل هي عبادة؛ لأنها استجابة لأمر الرسول صلى الله عليه وسلم الذي قال فيه لأحد الصحابة وهو عبدالرحمن بن عوف حين تزوج: ((أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ))؛ متفق عليه.
 
لذلك يجب على أصحاب هذه الحفلات أن يتقوا الله فيما يفعلون، فليتجنَّبُوا الإسراف والتبذير فيما يُقَدَّمُ من طعام، وليعلموا أن ما يُرمى منها وهو صالح للأكل هو كفر بالنعمة وسُوءٌ لاستخدامها، ومن كفر بهذه النعم قل أن تعود إليه، لا سيما ونحن نرى دولًا تُعاني شعوبُها من الجوع والجفاف.
 
والذي نلاحظه أيضًا في مثل هذه الحفلات انتشار بعض المنكرات فيها؛ كالعزف على الموسيقى، وتصوير النساء، وتقليد عادات الغرب في حركات ولباس العرائس، والبذخ الزائد في ملابس النساء، ودخول الزوج وإخوانه على النساء، وقد حذَّر المصطفى صلى الله عليه وسلم من الدخول على النساء بقوله: ((إياكم والدخول على النساء)).
 
فينبغي على أصحاب هذه الحفلات أن يجعلوها حفلات خالية مما يغضب الله عز وجل؛ لأنها ليلة في العمر قد لا تتكرَّر، فاجعلوها ترضي الرب جل وعلا.
 
وليتذكَّرْ هؤلاء أن العبرة ليست في مثل هذا البذخ والمباهاة والإسراف؛ لأن كل ذلك سينساه الناس ويبقى حِملُه على الزوج؛ وإنما العبرة في التوفيق والتأليف بين الزوجين ودوام العشرة بينهما.
 
إننا نرى بعض الناس إذا كان عنده حفلة زواج لابنه أو ابنته رغب في التميُّز والتعالي على مَنْ قبله، فعمل المستحيل، وتكلَّف ما لا يستطيع، فابتدع أشياء، وابتكر أشياء كلها في النهاية تزيد من تكاليف الزواج، وقد يضطر محاكاتها أقرانه الذين من بعده، ((ومن سَنَّ سُنَّةً سيئة، فعليه وِزْرها ووِزْر مَنْ عمِل بها إلى يوم القيامة)).
 
والذي ينصاع للآراء في مثل هذه الحفلات يتعب كثيرًا؛ لأنه لا تزال تستحدث في كل عرس تقليعات جديدة تزيد من أعباء وتكاليف الزواج، وتخرج من عرف وعادات المسلمين، وتدخل في عرف وعادات الكافرين.
 
فينبغي على العقلاء من الرجال مسك زمام الأمور، وتقليل المهور، وتيسير تكاليف حفلات الزواج، وعدم تعقيد الأمور قدر المستطاع، فإن ذلك من أعظم الأجور، ((ومن سَنَّ سُنَّةً حسنةً فله أجْرُها وأجْرُ من عمل بها إلى يوم القيامة)).
 
الوقفة الرابعة عشرة: الصيف والعوازل الحرارية
إن الناس في فصل الصيف لا يطيقون حرارة الشمس، ويتذمَّرون منها، فتراهم يهربون من وهجها وحرارتها إلى أماكن الظل؛ سواء كانت تلك الأماكن تحت مِظلة أو شجر أو سيارة أو البقاء في البيت أو سياحة في بلاد باردة، وإنك تسمع الناس يوصي بعضهم بعضًا بعدم المشي في الشمس؛ لئلا يتعرضَ الواحد منهم لضربة شمس تخل بدماغه؛ بل ويُوصى دوليًّا وعلى مستوى العالم عبر منظمات حقوق الإنسان بمنع تشغيل العمال ميدانيًّا إذا تجاوزت الحرارة خمسين درجة مئوية؛ حفاظًا على صحة الإنسان وعقله من حرارة الشمس الشديدة والملهبة صيفًا، ونسي أولئك الناس أن هذه الشمس التي يهربون منها، أنها ستلاقيهم يوم القيامة بأشدِّ ما يكون وأقرب ما يكون.
 
ألا ينبغي أن نسأل عما يقينا من حرِّ تلك الشمس التي سنقف تحت وهجها ليس ليوم أو يومين ولا سنة أو سنتين؛ وإنما لخمسين ألف سنة! (نعم لخمسين ألف سنة) حتى روي أن الناس في ذلك اليوم يتمنون لو بدأ بالحساب ليستريحوا من همِّ ما هم فيه ولو ذُهب بهم إلى النار عياذًا بالله من ذلك المقام.
فماذا أعدَدْنا لذلك الكرب الشديد من عمل؟
 
إن يوم القيامة يوم شديد، مليء بالكُرَبِ والأهوال، كُربٌ ستشيب منها الولدان، ويفرُّ المرء فيها من الأهل والخلَّان.
 
فمن الكرب التي سيواجهها الناس يوم القيامة كرب الإغراق بالعرق، فقد جاء في الحديث الصحيح أن الناس سيحشرون يوم القيامة حفاة عراة غرلًا (أي غير مختونين) في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة.
 
والذي سيزيد هذا الكرب شدة: هو الوقوف والانتظار تحت لهيب شمس ستقترب من الرؤوس بمقدار ميل، حتى يغرق الناس بعرقهم والعياذ بالله من ذلك الحال والمقام، فقد روى المقداد بن عمرو رضي الله عنه قال: "سمِعْتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((تُدْنَى الشَّمْسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْخَلْقِ، حَتَّى تَكُونَ مِنْهُمْ كَمِقْدَارِ مِيلٍ)) - قَالَ سُلَيْمُ بْنُ عَامِرٍ: فَوَاللهِ مَا أَدْرِي مَا يَعْنِي بِالْمِيلِ؟ أَمَسَافَةَ الْأَرْضِ، أَمِ الْمِيلَ الَّذِي تُكْتَحَلُ بِهِ الْعَيْنُ - قَالَ: ((فَيَكُونُ النَّاسُ عَلَى قَدْرِ أَعْمَالِهِمْ فِي الْعَرَقِ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى كَعْبَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى رُكْبَتَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى حقْوَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُلْجِمُهُ الْعَرَقُ إِلْجَامًا))، قَالَ: وَأَشَارَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ إِلَى فِيهِ"؛ رواه الإمام مسلم.
 
ويزداد كرب الناس وضنْكُهم بالعرق ما لا يطيقون، إذا يغوص عرقهم في الأرض سبعين ذراعًا، ثم يرتفع فيصل عند بعضهم حتى رؤوسهم؛ فقد روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((يَعْرَقُ النَّاسُ يَوْمَ القِيَامَةِ حَتَّى يَذْهَبَ عَرَقُهُمْ فِي الأَرْضِ سَبْعِينَ ذِرَاعًا، وَيُلْجِمُهُمْ حَتَّى يَبْلُغَ آذَانَهُمْ))؛ رواه البخاري، فماذا أعدَدْنا لذلك الكرب الشديد من عمل؟
 
إن الناس اليوم يحرصون على وضع عوازل حرارية في بيوتهم لتقيهم حر شمس الظهيرة، لينعموا بجوٍّ بارد منعش طوال يومهم، وإن الواحد منَّا إذا قرر بناء منزل تراه يسأل عن أفضل وأجود العوازل الحرارية التي تُوضَع في الجدران، والتي تُوضَع على الأسطح، ولو كلَّفه ذلك عشرات الآلاف من الريالات، وفوق ذلك كله تراه يضع المكيِّفات المركزية في كل البيت ليعيش في جوٍّ بارد وهادئ لا يعرف فيه الحرارة، كل ذلك من أجل أن يتقي حر شمس تبعد عنَّا مسافة تقدر بحوالي ثلاثة وتسعين مليون ميل، ولا تستغرق ذروة أشعتها أكثر من ثماني ساعات يوميًّا على سطح الأرض خلال فصل الصيف، ولو حُسب إجمالي هذه المدة طوال فترة عمر الإنسان نجد أنها لا تزيد على ثماني سنوات متواصلة، ومع ذلك يدفع الإنسان مبالغ طائلة تصل إلى عشرات الآلاف ليتقي حر هذه الشمس خلال فصل الصيف.
 
وها هو رسولنا صلى الله عليه وسلم يُخبرنا وهو الصادق المصدوق أننا سنحشر يوم القيامة ليوم طوله خمسين ألف سنة تحت أشعة شمس حارقة لا تغرب أبدًا، فماذا أعدَدْنا لذلك اليوم من عوازل؟
 
ألا يجدر بنا أن نسأل عن عوازل تقينا شمس الآخرة؟ وما هي العوازل التي يمكنها مقاومة حرارة تلك الشمس التي ستقترب منا بمقدار ميل؟ والميل الشرعي يقدر بحوالي أربعة آلاف ذراع.
 
وهل يمكن أن ننقل معنا العوازل الحرارية التي صنعناها في دنيانا؟ هل سألت عن الأعمال والعوازل التي تنجي صاحبها من حرِّ شمس يوم القيامة، وتحفظه في ظلِّ الله يوم لا ظلَّ إلا ظِلَّه؟
 
إنها عوازل ليست من البرولايت ولا من الفلِّين؛ وإنما هي أعمال صالحة أمرنا بالتحلِّي بها لنستظل بسببها تحت ظل عرش الرحمن في ذلك اليوم العصيب، ومن استظلَّ تحت ظل العرش سيمرُّ عليه يوم القيامة كقدر الانتظار ما بين الظهر والعصر.
 
فقد أخرج الحاكم عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا، قال: يوم القيامة على المؤمنين كقدر ما بين الظهر والعصر.
 
وأذكر لكم أحد عشر عازلًا، عَلَّنا أن نسارع إليها بعد أن أدركنا وتصورنا وآمَنَّا بأهميتها يوم القيامة.
 
العازل الأول: إنظار المعسر حتى يُسدِّد دَيْنه أو تخفيف الدين عنه؛ فقد روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا، أَوْ وَضَعَ لَهُ، أَظَلَّهُ اللَّهُ يَوْمَ القِيَامَةِ تَحْتَ ظِلِّ عَرْشِهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ))؛ رواه الإمام أحمد والترمذي، وفي رواية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن أول من يستظلُّ في ظِلِّ الله يوم القيامة لَرَجُلٌ أنْظَرَ مُعْسِرًا أو تصدَّق عنه))؛ رواه الطبراني.
 
ومن يسَّر على غريمه المعسر فسيُيسِّر الله عليه ليس في الآخرة فحسب؛ وإنما في الدنيا والآخرة، والجزاء من جنس العمل، فقد روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا، نَفَّسَ اللهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ، يَسَّرَ اللهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ))؛ رواه الإمام مسلم.
 
لقد كان السلف الصالح حريصين على بذل المعروف وتفريج كرب الناس، آملين أن يعاملهم الله تعالى يوم القيامة بمثل ذلك، فقد أقرض أبو قتادة رضي الله عنه رجلًا، فلما حلَّ الدَّيْنُ كان يأتيه يتقاضاه فيختبئ منه، فَجَاءَ ذَاتَ يَوْمٍ فَخَرَجَ صَبِيٌّ فَسَأَلَهُ عَنْهُ فَقَالَ: نَعَمْ، هُوَ فِي الْبَيْتِ يَأْكُلُ خَزِيرَةً، فَنَادَاهُ يَا فُلَانُ، اخْرُجْ فَقَدْ أُخْبِرْتُ أَنَّكَ هَا هُنَا، فَخَرَجَ إِلَيْهِ، فَقَالَ: مَا يُغَيِّبُكَ عَنِّي؟ قَالَ: إِنِّي مُعْسِرٌ وَلَيْسَ عِنْدِي، قَالَ: آللَّهِ إِنَّكَ مُعْسِرٌ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَبَكَى أَبُو قَتَادَةَ، ثُمَّ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: ((مَنْ نَفَّسَ عَنْ غَرِيمِهِ أَوْ مَحَا عَنْهُ كَانَ فِي ظِلِّ الْعَرْشِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ))؛ رواه الإمام مسلم وأحمد.
 
ولا تقتصر فائدة إنظار المعسر أو التجاوز عنه إظلال صاحبها في أرض المحشر؛ وإنما من أنظر معسرًا حلَّ دينه، فله عن كل يوم يمضي قدر ضعفي الدين كصَدَقة؛ فقد روى بريدة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا فَلَهُ بِكُلِّ يَوْمٍ مِثْلُهُ صَدَقَةً قَبْلَ أَنْ يَحِلَّ الدَّيْنُ، فَإِذَا حَلَّ الدَّيْنُ فَأَنْظَرَهُ، فَلَهُ بِكُلِّ يَوْمٍ مِثْلاهُ صَدَقَةً))؛ رواه الإمام أحمد، وابن ماجه، والحاكم، وصحَّحه الألباني.
 
فلو أقرضتَ شخصًا عشرة آلاف ريال ثم أعسر، كتب الله لك ثواب مَنْ يتصدَّق يوميًّا بعشرة آلاف ريال إلى أن يحِلَّ الدَّيْن، فإذا حلَّ دينه، فأمهلته كتب الله لك ثواب مَنْ يتصدَّق يوميًّا بعشرين ألف ريال!
 
ومن أعظم ثمرات إنظار المعسر أو التجاوز عنه أنها تنجي صاحبها من دخول النار؛ فقد روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((كَانَ رَجُلٌ يُدَايِنُ النَّاسَ، فَكَانَ يَقُولُ لِفَتَاهُ: إِذَا أَتَيْتَ مُعْسِرًا فَتَجَاوَزْ عَنْهُ، لَعَلَّ اللهَ يَتَجَاوَزُ عَنَّا، فَلَقِيَ اللهَ فَتَجَاوَزَ عَنْهُ))؛ متفق عليه، وفي رواية لابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((حُوسِبَ رَجُلٌ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَلَمْ يُوجَدْ لَهُ مِنَ الْخَيْرِ شَيْءٌ، إِلَّا أَنَّهُ كَانَ يُخَالِطُ النَّاسَ، وَكَانَ مُوسِرًا، فَكَانَ يَأْمُرُ غِلْمَانَهُ أَنْ يَتَجَاوَزُوا عَنِ الْمُعْسِرِ))، قَالَ: ((قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: نَحْنُ أَحَقُّ بِذَلِكَ مِنْهُ، تَجَاوَزُوا عَنْهُ))؛ رواه مسلم، فحريٌّ بنا أن نتخلَّق بهذا الخلق الكريم.
 
أما العازل الثاني: فهو تعلُّم سورتي البقرة وآل عمران وحفظهما؛ فقد روى بريدة الأسلمي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((تعلَّمُوا البقرة وآل عمران؛ فإنهما الزهراوان، يُظِلان صاحبهما يوم القيامة، كأنهما غمامتان أو غيايتان أو فرقان من طير صواف))؛ رواه الإمام أحمد.
 
وروى النواس بن سمعان رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((يأتي القرآن وأهله الذين كانوا يعملون به في الدنيا تقدمه سورة البقرة وآل عمران، يأتيان كأنهما غيابتان وبينهما شرق، أو كأنهما غمامتان سوداوان، أو كأنهما ظلتان من طير صواف يجادلان عن صاحبهما))؛ ‌رواه الإمام مسلم، وأحمد، والترمذي.
 
فهاتان السورتان هما المحاميان والمدافعان عنك في عرصات يوم القيامة، فاحرص كل الحرص على تعلُّمهما ومصاحبتهما وحفظهما بدلًا من حفظ الأغاني التي لا تزيد القلب إلَّا نِفاقًا وفسوقًا وبُعْدًا عن الله عز وجل.
 
وروى أبو أمامة رضي الله عنه قال: سمِعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((اقْرَأُوا الْقُرْآنَ؛ فَإِنَّهُ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ شَفِيعًا لِأَصْحَابِهِ، اقْرَأُوا الزَّهْرَاوَيْنِ: الْبَقَرَةَ، وَسُورَةَ آلِ عِمْرَانَ؛ فَإِنَّهُمَا تَأْتِيَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَأَنَّهُمَا غَمَامَتَانِ، أَوْ كَأَنَّهُمَا غَيَايَتَانِ، أَوْ كَأَنَّهُمَا فِرْقَانِ مِنْ طَيْرٍ صَوَافَّ، تُحَاجَّانِ عَنْ أَصْحَابِهِمَا، اقْرَأُوا سُورَةَ الْبَقَرَةِ؛ فَإِنَّ أَخْذَهَا بَرَكَةٌ، وَتَرْكَهَا حَسْرَةٌ، وَلَا تَسْتَطِيعُهَا الْبَطَلَةُ))، ومعنى البطلة؛ أي: السحرة، وقيل: البطَّالون وهم العاجزون؛ أي: لا يستطيع حفظها العاجزون لطولها عن باقي السور.
 

وكأنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم يستحثُّنا على حفظ هاتين السورتين بالذَّات؛ لنجني منهما فوائد عديدة، ولسورة البقرة بالذات فضائل جمَّة لا تجدها في سور أخرى، أجملها فيما يلي:
(1) أنها تُحاجُّ عن صاحبها يوم القيامة، وتشفع له كما جاء في الحديث السابق.
 
(2) أنها تطرد الشيطان من المنزل الذي تُتْلى فيه؛ حيث روى أبو هريرة رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لَا تَجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ مَقَابِرَ، إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْفِرُ مِنَ الْبَيْتِ الَّذِي تُقْرَأُ فِيهِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ))؛ رواه مسلم.
 
(3) أنها تحتوي على أعظم آية في كتاب الله؛ هي آية الكرسي التي تحفظ قارئها من الشيطان.
 
(4) أن خواتيمها تحوي آيتين مَنْ قرأهما في ليلته كفتاه، وذلك لما رواه أبو مسعود عقبة بن عمرو رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((مَنْ قرأ بالآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه))، قال ابن حجر رحمه الله تعالى: معنى كفتاه؛ أي: كفتاه عن قيام الليل بالقرآن، وقيل: أجزأتاه عن قراءة القرآن مطلقًا؛ سواء كان داخل الصلاة أو خارجها، وقيل: كفتاه فيما يتعلق بالاعتقاد؛ لما اشتملت عليه هاتان الآيتان من الإيمان والأعمال إجمالًا، وقيل: كفتاه كل سوء، وقيل: شر الشيطان، ويحتمل الجميع، وفضل الله واسع؛ ا هـ.
 
(5) ومن قرأ بالآيتين من آخر سورة البقرة ثلاثة أيام في بيته لا يدخله شيطان بإذن الله تعالى؛ حيث روى النعمان بن بشير رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ كِتَابًا قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِأَلْفَيْ عَامٍ، أَنْزَلَ مِنْهُ آيَتَيْنِ خَتَمَ بِهِمَا سُورَةَ الْبَقَرَةِ، وَلَا يُقْرَآنِ فِي دَارٍ ثَلَاثَ لَيَالٍ فَيَقْرَبُهَا شَيْطَانٌ))؛ رواه الترمذي والحاكم.
 

(6) أنَّ الله عَزَّ وَجَلَّ خصَّ قرابة ثلث السورة عن جرائم اليهود، فكشف عن خبثهم ومؤامراتهم، ومكابرتهم للحق، وقتلهم للأنبياء، ونقضهم للعهود والمواثيق حتى مع أنبيائهم، مما يكشف للمسلمين عن خطر هذه الشرذمة على العالم الإسلامي خاصة، وعلى العالم أجمع عامة، فلو تدبَّرَ المسلمون هذه السورة، وكانوا من أصحابها حقًّا، لتغيَّرَتْ أحوالٌ، وتبدَّلَتْ أحوالٌ.
 
أما العازل الثالث: فهو الجهاد في سبيل الله بالمال؛ فقد روى سهل بن حنيف عن أبيه رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((من أعان مجاهدًا في سبيل الله، أو غارمًا في عسرته، أو مُكاتبًا في رقبته، أظلَّه الله يوم لا ظِلَّ إلَّا ظِلُّه))؛ رواه أحمد والحاكم.
 
العازل الرابع: التحاب في الله عز وجل وليس لأجل مصلحة دنيوية؛ فقد روى أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يقول الله تعالى يوم القيامة: أين المتحابُّون لجلالي، اليوم أظلُّهم في ظلِّي يوم لا ظِلَّ إلَّا ظِلِّي))؛ رواه الإمام مسلم وأحمد.
 
وروى معاذ بن جبل رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((المتحابُّون في الله على منابر من نور في ظلِّ العرش يومَ لا ظِلَّ إلا ظِلُّه))؛ رواه أحمد والطبراني.
 
العازل الخامس: الصدقة على الفقراء والمحتاجين؛ فقد روى عقبة بن عامر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((الرجل في ظلِّ صَدَقته حتى يقضى بين الناس))؛ رواه الإمام أحمد وابن خزيمة، وفي رواية قال صلى الله عليه وسلم: ((كُلُّ امرئٍ في ظلِّ صَدَقته حتى يقضى بين الناس)).
 
فحريٌّ بكل مسلم أن يُكثِر من الصَّدَقات؛ ليستظلَّ بها في يوم شديد كُرَبه، ويغرق فيه الناسُ في عرقهم، عياذًا بالله من ذلك المآل.
 
أما العازل السادس: حكم الرعية بالعدل.
 
والعازل السابع: تنشئة الشاب على طاعة الله.
 
والعازل الثامن: تعلق القلب ببيوت الله.
 
والعازل التاسع: تجنُّب دواعي الزنا الذي تبثُّه معظمُ وسائل الإعلام ليلَ نهارَ.
 
والعازل العاشر: البكاء عند ذكر الله عز وجل.
 
والعازل الحادي عشر: إخلاص العمل لله وخشيته.
 
ويجمع هذه الأعمال الجليلة حديثٌ واحدٌ رواه أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ: الْإِمَامُ الْعَادِلُ، وَشَابٌّ نَشَأَ بِعِبَادَةِ اللهِ، وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ فِي الْمَسَاجِدِ، وَرَجُلَانِ تَحَابَّا فِي اللهِ اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ، وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ، فَقَالَ: إِنِّي أَخَافُ اللهَ، وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لَا تَعْلَمَ يَمِينُهُ مَا تُنْفِقُ شِمَالُهُ، وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللهَ خَالِيًا، فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ))؛ رواه البخاري ومسلم. ‌
 

إنها لأعمالٌ جليلةٌ يستحقُّ كل عمل منها وقفة؛ بل وقفات.
 
فحريٌّ بك - أخي الكريم - يا مَنْ تتأذَّى من حرِّ شمس الدنيا، وتحرص على عدم التعرُّض للهبها المحرق، وتوصي أبناءك وذويك بذلك؛ أن تحرص كل الحرص على أن تقي نفسَك وأهلَك حرَّ هذه الشمس يوم القيامة، قال أبو موسى الأشعري رضي الله عنه: الشمس فوق رؤوس الناس يوم القيامة، وأعمالهم تظللهم وتصحبهم.
 
هذه بعض الأعمال التي تظلل صاحبها، وتعزله من حرِّ شمس يوم القيامة، فالأمر جِدُّ خطير، ولا وقت للمسلم ليُضيِّعه فيما لا ينفع ﴿ فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ * فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ * أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ * قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ * رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ * قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ * إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ * فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ * إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ ﴾ [المؤمنون: 101 - 111].
 
أسأل الله أن يلهمنا رشدنا، ويبصرنا بعيوبنا، وأن يُوفِّقنا لصالح القول والعمل ويُجنِّبنا الزَّلل، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.

شارك الخبر

المرئيات-١