الدين والعقل
مدة
قراءة المادة :
25 دقائق
.
(تابع لرد الشيخ طه البِشري على الدكتور محمد أفندي توفيق صدقي)
بعد إذ أوردنا ما أوردنا مما نرى فيه الكفاية في إثبات أن أصول الدين هي
الكتاب والسنة والإجماع والقياس نرى ضروريًّا - وقد هتفت أكثر من مرة بالعقل في
غضون البحث في أمور الدين - أن نتكلم باختصار على ما يمكن أن يكون من
العلاقات بين العقل والدين.
قلنا: إن أصول هذا الدين أربعة، ولم يضف إليها أحد شيئًا آخر بل قصرتها
أنت على الكتاب وحده، فأي نظر من أنظار العقل يراد أن يطابقه الدين في كل
جزئياته؟ لا يمكن أن يراد بتلك المطابقة أن كل ما يكون واجبًا في نظر العقل أو
ممنوعًا فيه يكون كذلك في الدين , فإنه ليس شيء من الدين بُنيت قضاياه على
الأدلة العقلية البحتة، إلا بعض أصول العقائد كوجوب الوجود ووجوب الوحدة مثلاً
من الواجبات، وامتناع العدم والكثرة مثلاً من الممنوعات وبعد ذلك لا يوجب العقل
ولا يمنع من قضايا الدين شيئًا. وإن أُريد من العقل نظره الصحيح بالاستحسان لموجبات الدين كإقامة الصلاة والاستقباح لممنوعاته كإتيان الفاحشة فذلك لا ريب فيه , ولكن لا يعزب عنك أن هذا النظر شيء واعتباره من أصول الدين التي حصر فيها استنباط مسائله باعتبار كونه دينًا مقررًا واجب الاتباع شيء آخر , فمسألة الاستحسان والاستهجان بالنظر الصحيح للعقل الصحيح لازمة لكن لا يمكن أن يبنى عليها حكم شرعي؛ لأن مقتضى كونه شرعيًّا أنه مبني على أصول الشريعة التي ذكرناها وليس استحسان العقل واحدًا منها باتفاقنا جميعًا على أن العقول من حيث استحسانها واستهجانها لا يمكن ضبطها بحال فإن ما يراه هذا حسنًا قد يراه ذلك رديئًا وبالعكس، وذلك لا يقف عند طبقات الحمقى والجاهلين بل كثيرًا ما اجتازها إلى طبقة العقلاء من أقطاب العلم والسياسة والبصر بفنون التشريع. ولا نحسبنا نتكلف أي دليل على هذه الدعوى بل نرى أن أقل نظرة في التاريخ التشريعي تكفينا مؤنة هذا فإن قتل القاتل عمدًا الذي أوجبه الإسلام - ما لم يعفُ أولياء الدم، ولا نشك في استحسانك له - مسألة فيها نظر بين مشرعي الرومان قديمًا وأمة الطليان التي بنيت على أطلالها، والفرنساويين والإنجليز حديثًا فمنهن من أنكرت القتل ومنهن من أوجبته، ومن هؤلاء الموجبات من استحسنته بطريق الشنق، ومنهن من أبته إلا بقطع الرقبة.
فهل رمى الناس كل هذه الأمم بالجنون لأن أهلها لم تتفق على استحسان شيء واحد؟ بل هو أكبر الأشياء في مسائل التشريع؟ فما بالك بصغريات الأمور وجزئياتها في نظر الشرائع والقوانين؟ فلنسأل نفوسنا: ماذا تكون الحال لو كان استحسان العقل واستهجانه أصلاً من أصول الدين التي يرجع إليها في استنباط أحكامه؟ هل نستطيع أن نجد اثنين يتفقان على حكم واحد من هذا الدين؟ ! الإسلام ولا شك دين الفطرة أرسل الله به رسوله وهو - تعالى - الحكيم في تقديره العليم بما فيه مصالح الناس على تمايز طقوسهم وتنائي ديارهم وبسط لهم على لسان نبيه من التقرير والبيان ما يقف بالنفوس دون رؤية الشيء الواحد على كثير من الوجوه والألوان، كل نفس بحسب ما تهديها نزعتها بحيث يكون الحسن عند قوم قبيحًا عند آخرين بلا أدنى مستمد لذلك الاستهجان أو الاستحسان كما يقع من الأمم التي لا ترجع في أمور تشريعها إلى أصل واحد. فالدين باعتبار كونه شرع الله الحكيم العليم بما يلائم في أحكامه الفطر السليمة وهي ولا ريب لا تنابذها بحال؛ لأنه لها كالميزان فإذا نابذته النزعات فماذا على الميزان إذا لم يوف الموزون؟ فليس من الصواب أن نتبع نزعة كل هوى تستحسن أو تستهجن، ونحاول أنْ نجري عليها أحكام الدين فإذا نافرته قلنا: إنها ليست دينًا؛ لأنها خالفت العقل والصواب! قلنا ونقول: إن أصول العقائد الدينية إنما بنيت على أدلة عقلية محضة كافية في إثبات الألوهية لمن لا يؤمن بها، ومعجزات لا سبيل للعقل إلى مصادرتها، كافية أيضًا في إثبات دعوى الرسالة، فإذا اقتنع المكلف بهذا القدر وآمن بأن هناك إلهًا حكيمًا متصفًا بصفات الكمال، منزهًا عن صفات النقص، وأنه أرسل رسولاً معصومًا بلَّغ الناس رسالات ربه الكفيلة بسعادتهم وعزهم في كلتا نشأتيهم انصرف - ولا مرية - كل همه إلى تحقيق ما جاء به هذا الرسول الأمين عن ربه الحكيم للعمل به، فأدلة العامل بعد ذلك سماعية.
حاجة المجتهد إلى البحث فيها من حيث صحة النقل وعدمها ليعلم إن كانت من الرسول أو ليست منه، وعلى هذا فالعقل الكامل لازم للمجتهد بلا جدال يتدبر به معاني الأحكام: يرجع بالفروع إلى أصولها المقررة، وبالجزئيات إلى كلياتها الثابتة، ويفصل المجمل في الكتاب بالمفصل من السُّنة، ويستظهر الخفي منه بالجلي منها، والبحث عن علل الأحكام الظاهرة ليقيس غير المقرر على المقرر منها، وغير ذلك من عمل المجتهد في استنباطه من الكتاب والسنة وأخذه بالقياس وانتظامه في سلك الإجماع التي هي أصول الدين على أنه شرع الله الذي بسطه فيها وحصره في دائرتها. أستغفر الله أن يكون في ديننا ما لا يحتمله العقل ولا يسعه تصوره، بل نحن قررنا أن العقل السليم مستحسن لكل ما جاء به الدين الحكيم مستهجن لكل ما نهى عنه الشرع القويم. وإذ كتبنا ما نرى فيه الكفاية فيما يتعلق بأصل الموضوع ننتقل بك إلى تمحيص ما بنيت عليه من المسائل، والله الكافي المعين. مبحث الصلاة جاء إلينا القرآن بها إجمالاً، وفصلتها لنا السنة تفصيلاً، أمر الله بها في كتابه وعلمها جبريل لنبيه تعليمًا عمليًّا وهو عليه السلام علمها الناس وبلغها لهم وقتًا وحدًّا وعدًّا، إذ صلى بهم الصلوات الخمس في أوقاتها المعلومة: الظهر والعصر والعشاء أربعًا، والمغرب ثلاثًا، والصبح اثنتين، وواظب عليها كذلك إلا في خوف أو سفر وأمر بإقامتها بالقدر الذي أقامها به بمثل قوله: (صلوا كما رأيتموني أصلي) وشدد فيها وأكد، ووعد عليها وأوعد، وميزها بأنها الفرض المحترم من بين ما سن من سنن وزاد من نوافل، فامتازت بنفسها بين جميع الصحابة والتابعين لهم ومن بعدهم إلى يومنا هذا، والقول بأن الصحابة لم يميزوا بين القدر الواجب عليهم من غيره - في أقصى منازل الغرابة، وكيف ذلك وهم المجمعون على أن تارك النوافل مثل ما قبل مفروضة الصبح وما قبل الظهر وبعده وما قبل العصر - لا شيء عليه عند الله، والناس مع إجماعهم على أن من زاد على المفروضة أو نقص عنها- مثل أربع الظهر وثلاث المغرب عمدًا - بطلت صلاته.
ومع إجماعهم على أن من نوى اثنتين في النافلة فصلى أربعًا لا تبطل صلاته، أليس ذلك لتفريقهم بين الواجب وغيره؟ وما إجماع مَن بعدهم على التمييز بين الفرض المحتوم من الله والنفل المتطوع به من عند أنفسهم إلا بعد تمييزهم هم. أدرجت في مطاوي كلامك أنك لا تحتج بعمل الصحابة؛ لأنهم لم يميزوا بين الواجب وغيره بل هم إنما كانوا يحافظون على كل ما رأوا النبي يحافظ عليه , ولا يذهب عنك أن النبي عليه السلام كان يحافظ أيضًا على الذي كان يسميه المسلمون بالنوافل، فكيف يجمعون على أن الآتي بهذه والتارك لها لا حساب عليه؟ لا ألتمس أن أجادلك في هذا بما يخرج عن دائرة كلامك، بل مما قلت من أن: كم من أشياء كان يحافظ عليها النبي ولم يقل أحد من المجتهدين بوجوبها كالمضمضة والاستنشاق، والصحابة كلهم مجتهدون بلا خلاف؟ فهل مع هذا يقال: إن الصحابة لم يميزوا بين الواجب وغيره؟ نعم هم فرقوا الواجب من غيره في الصلاة مثلما فرقوا بينهما في الوضوء كما سلف. صلى النبي عليه السلام رباعيةً وسلم في الثانية فألفَتَ ذلك جميع الصحابة، وابتدره منهم ذو اليدين بقوله: أقصرت الصلاة أم نسيت يا رسول الله؟ فأجاب صلى الله عليه وسلم بأنها لم تقصر ثم أتم، وسجد للسهو، ولو كان الواجب يتم بالركعتين ما سأل الصحابي بقوله: أقصرت الصلاة، وأي معنى لقصرها غير كونها نقصت فرضًا عن القدر الذي كان مفروضًا؟ ولو كان أقل الواجب اثنتين كما ترى ولم يعرف ذلك الصحابة كما أشرت - هل كان يجيب عليه السلام بأنها لم تقصر - أي لم تنقص عن القدر المشروع؟ بل ويترك صحبه في مثل هذا المقام لا يعرفون القدر الواجب عليهم بل يزيدهم بمثل هذا الواجب رسوخًا بأن القدر الواجب عليهم إنما هو أربع ركعات لا ركعتان وتعلم أن وظيفة الرسول البيان، وتلك تعمية تضاده كل التضاد والرسول الكريم أفطن قلبًا وأعصم دينًا وأفصح لسانًا من مثل هذا.
على أنه قد بلغ وقال: (بلغت اللهم أشهد) ، مع نهاية البيان لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} (المائدة: 67) وقوله تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (النحل: 44) ، وليس من التبليغ المحفوف بالبيان أن يدَع صلى الله عليه وسلم صحبه الكرام يعيشون معبَّدين بما لا يفرقون بين واجبه المشروع المفروض عليهم من الله، ونفله المتطوع به من عند أنفسهم، لهم ثوابه، وليس عليهم حسابه. دعا النبي عليه السلام مؤكدًا مشددًا إلى إقامة الصلوات الخمس (أي: المفروضة المبدوءه بتحريمة واحدة المنتهية بسلام واحد) وأبان أنها الفرض المشروع من الله، وواظب عليها كما قلنا طول حياته، الثنائية منها والثلاثية والرباعية من غير زيادة فيها أو نقص عنها (إلا في خوف أو سفر) ولم يبين أن بعضًا منها مزيد فيها على القدر الواجب، فتعين أن تكون هي كلها القدر الواجب، ونحن نكتفي الآن بهذا القدر من الأدلة ونرجع بنظرة إلى ما اختلج بنفسك من الشبه التي لولاها لم تكن لتشذ عما عليه إجماع المسلمين من عهده عليه السلام إلى عهدنا هذا دون أن يعترضهم فيه شك، أو تعتورهم دونه شبهة، والله سبحانه الموفق. ادعيت أن القدر الواجب في الصلاة ركعتان مستندًا على قوله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} (النساء: 101) الآية بناء على أنه يستفاد منها أن القصر، أي ما دون الواجب: ركعة، فيكون أقل الواجب ما فوقها أي ركعتين من غير تحديد للطرف الأعلى، وبعبارة أخرى أن الإنسان غير مكلف بأكثر من تين الركعتين إلخ. ونقول: إن الآية في ذاتها لا يمكن أن يؤخذ منها أن صلاة الخوف للإمام ركعتان أو هي للمؤتمّين ركعة، بل غاية ما يؤخذ منها أن طائفة تقوم مع الإمام، ثم تأتي طائفة أخرى لم تُصَلِّ فتصلي معه، ولكن كم ركعة يصلي الإمام أو المؤتمون؟ هذا ما لم تنص عليه الآية الكريمة، بحيث لو لم تبين السنة لما تسنى أن يقطع مُدَّعٍ بأن المفروض على كل طائفة أن تصلي أربعًا أو ستًّا مثلاً، فمن أين جاءك أن كل طائفة تصلي مع الإمام ركعةً واحدةً، إن قلت: السنة، قلنا لك: هي بعينها حتَّمت على المؤتمين في صلاة الخوف أن ترجع كل طائفة فتصلي ركعةً أخرى بناءً على الأولى بحيث تبلغ صلاة كل من الإمام والمؤتمين ركعتين، وهذا هو القصر بعينه، ولا يجادل في ذلك ابن عباس ومجاهد وجابر بن عبد الله الذين استشهدت بهم، فقولك: إن القصر ركعة واحدة دعوى لا دليل عليها بل قام الدليل على خلافها من الكتاب نفسه، بل من الآية عينها؛ لأن قوله تعالى: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاَةِ} (النساء: 101) الآية خطاب للنبي عليه السلام ومن معه، بل لكل إمام ومؤتمين في خوف، ولست تنكر بل صرحت أن الإمام في هذه الحالة - حالة الخوف - يصلي ركعتين مع كونه يقصر، ولا يقال: إنه متم بعد أن تناوله الخطاب، فالقصر كما تناول غيره من المؤتمين لقوله تعالى: {أَن تَقْصُرُوا ...
} (النساء: 101) فثبت أن الركعتين في تلك الحال قصر، فاندفعت الدعوى بأن القصر إنما هو واحدة، فالقول بأن الواجب في الصلوات الخمس - في حالة الإتمام - منقض بناؤه لانهدام ما دعمت له من أساسه على أننا لو سلمنا لك أن القصر ركعة واحدة، بل وفرضنا أن الكتاب نفسه نص صريحًا على ذلك، فأي تلازم هناك بين كون القصر، أي: ما دون الواجب - على مقتضى تعريفك - واحدةً وكون الواجب أقلة ثِنتان؟ ولِمَ لا يكون الواجب - مع هذا الحال- ثماني ركعات أو عشرًا مثلاً لولا السنة؟ على أنها لم تقدر للواجب حدًّا أقل أو أكثر، بل بينت القدر المفروض بعينه المشروع على سبيل الوجوب من الله تعالى ككون المغرب ثلاثًا والعشاء أربعًا بلا زيادة أو نقصان. (1) قلت: إن أول ما فرضت الصلاة كان النبي يصليها ركعتين ركعتين، واتخذت ذلك دليلاً على أنه عليه السلام ما كان ليكتفي بالركعتين في ذلك الوقت إلا لبيان أنهما أقل واجب، ثم زاد عليها فيما بعد لبيان أن الزيادة أولى، ونظنك ما اعتمدت في صحة هذا إلا على حديث عائشة رضي الله عنها، ولو أنك اتخذته حجةً لك لاتخذناه نحن حجةً عليك، قالت: (أول ما فرضت الصلاة فرضت ركعتين ركعتين، فأقرت في السفر وزيدت في الحضر) فلم تقل إنها أول ما فرضت كان عليه السلام يصليها ركعتين ركعتين حتى يفهم من قيلها أن اقتصار الرسول إذ ذاك على الركعتين كان من عند نفسه لبيان أنهما أقل الواجب، بل قالت: إنها فرضت أولاً ركعتين، وهذا صريح في أنها فرضت بعد غير ذلك - أي ركعتين وثلاثًا وأربعًا - وأكدت هذا المراد بقولها: (فأقرت في السفر وزيدت في الحضر) ولا سبيل للقول بأنها زيدت، أي: فوق القدر الواجب، بعد قولها: (فرضت ركعتين) ولا للقول بأنها أقرت في السفر، أي: اكتفى بها لأنها القدر الواجب مطلقًا، مع العلم بأن النبي عليه السلام ما كان ليكتفي بالركعتين المشروعتين إبان السفر، بل كان يزيد عليهما من النوافل ما تعوّد أن يزيد في الحضر، فتعين أن يكون المراد بقولها: (أقرت في السفر) أن فرضها كان اثنتين بلا زيادة واجبة، وكونها زيادة في الحضر أن الزيادة التي بلغت بها الصلاة ما فوق الركعتين واجبة كلها بلا نقص فيها، أما ما استعرضت على قيلك من الشبه وتكلفت الرد عليه فإنا نعفيك منه. (2) رأيت أن قصر الصلاة مخصوص بالخوف بناءً على أن قوله تعالى: { ...
إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} (النساء: 101) قيد لا يجوز التفلت منه، فكل ما كان في غير الخوف - ولو في سفر - فهو إتمام، فصلاة النبي عليه السلام في السفر - ولو كان قصيرًا جدًّا - ركعتين ركعتين لم تكن قصرًا بل اكتفاءً بالواجب إذ كان القصر مخصوصًا بحالة الخوف. ونحن لا نعارض في أن الآية صريحةً في إباحة القصر عند الخوف، بل ولا نص خاص في الكتاب على إباحة القصر في غير تلك الحال، ولكن عدم النص على شيء من الكتاب لا يدل على عدمه مطلقًا، فقد نصت على ذلك السنة، ومقامها من التشريع ما قد عرفت، ونعارض في كون الآية قيدًا، بل نقول: إنها لمجرد بيان الواقع والحال التي كان عليها النبي عليه السلام وأصحابه يومئذ، ولست تنكر أن مثل هذا كثير في الكتاب نفسه من مثل قوله تعالى: {وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُم مِّن نِّسَائِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُم بِهِنّ} (النساء: 23) فإن الربائب محرمات مطلقًا، وكونهن في الحجور ليس قيدًا أصلاً بل هو لمجرد بيان الواقع، وقد سئل النبي نفسه فيما سألت فيه، فأجاب عليه السلام بما أجبنا به، وإذا حاولت ألا تقتنع يكون هذا القيد لبيان الواقع، ولم تشأ أن تحاجّ بهذا الخبر جئناك بمثله من الآية نفسها سبقتنا بالإشارة عفوًا إلى أنه ليس قيدًا بل هو لمجرد بيان الواقع حيث قلت: (فصلاة الإمام في الخوف ركعتين ...
إلخ) عندما أوردت قوله تعالى: {وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ} (النساء: 102) الآية ولم تقيد بكون هذا الإمام هو النبي عليه السلام لا غيره كما هو ظاهر هذا القيد {إِذَا كُنتَ فِيهِم ...
} (النساء: 102) فإذا قلت: إن صلاة الخوف عامةً - كما هو ظاهر كلامك - لزمك أن تقول: إن هذا القيد لا مفهوم له بل هو إنما كان لمجرد بيان الواقع، وإذا أبيت إلا أن يكون له مفهوم، أي: أن مقيم صلاة الخوف يجب أن يكون هو النبي لا غيره إذا كان قيام طائفتين من المصلين في خوف مقيدًا بكون النبي فيهما - لزم أن يكون قولك: فصلاة الخوف للإمام - مطلقًا طبعًا - لا مفهوم له. وأما صلاته ركعتين ركعتين في السفر فمسلَّم، ولكن كون ذلك اكتفاءً بالواجب، أي: ليس قصرًا، غير مسلَّم، وكيف يكون ذلك اكتفاءً بالواجب مع ملازمته في غضون أسفاره للنوافل التي لا خلاف بيننا وبينك في أنها فوق الواجب، أي أنها من التطوع المتبرع به؟ ولو أنك أنكرت ملازمته عليه السلام للنوافل أثناء سفره فقد أنكرت لزومًا اقتصاره (في المفروضة) على الركعتين؛ لأن مصدرهما واحد. ومما لا يحسن تركه هنا أنه عليه السلام لم يصلِّ المغرب ركعتين أبدًا في حضر أو سفر، بل واظب على صلاتها ثلاثًا في الحالين جميعًا، ولو كان اقتصاره على الركعتين في السفر اكتفاءً بالواجب - لا شيئًا آخر - لما كان هناك موجب لتمييزه المغرب من بين أخواتها بإقامتها ثلاثًا، بل لاكتفى فيها بثنتين في ضمن ما اكتفى. (3) استدللت على أن ما بعد الركعتين (في الثلاثية والرباعية) زيادة عن القدر الواجب بعدم الجهر بالقراءة فيه وعدم قراءة شيء بعد الفاتحة. ونقول: إن عدم الجهر في القراءة في الركعة ليس دليلاً على عدم وجوبها، وإلا للزم أن صلاة الظهر والعصر غير واجبتين رأسًا؛ لأنه لا جهر فيهما أصلاً على أن الجهر وعدمه ليس من الفروض التي لا تقوم الصلاة إلا بها، بل هما من الهيئات التي لا تختل هي بدونها، وأيضًا فإن قراءة شيء من القرآن بعد الفاتحة ليس دليلاً على وجوب ما قرأ فيه، كما أن عدمها ليس دليلاً على عدمه، وإلا لكانت كل النوافل التي صلاها النبي عليه السلام مقفيًا على أثر الفاتحة فيها بشيء من القرآن واجبة ولكنك معنا لا تسلمه.
هذا وقراءة القرآن بعد الفاتحة ليس مما تتوقف عليه صحة الصلاة مطلقًا، بل المطلوب الذي هو ركن في الصلاة بحيث تختل بدونه هو قراءة قرآن لقوله تعالى: { ...
فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآن} (المزمل: 20) وقد قدره أبو حنيفة بآية وعينه الشافعي بالفاتحة كلها لما وصل إليه وصح عنده من نحو قوله عليه السلام: (لا صلاة لمَن لم يقرأ بأم الكتاب) , ولا خلاف في أن ما بعد الفاتحة ليس ركنًا من الصلاة وإن ورد أنه الأكمل في الركعتين الأوليين من الصلوات الليلية، وكونه الأكمل فيهما لا يستدعي أن ما بعدهما ليس واجبًا. (4) استدللت أيضًا على أن القدر الواجب ركعتان بعدم ملازمة النبي عليه السلام لعدد مخصوص من الركعات (بصرف النظر عما سمي سنةً وما سمي فرضًا) إذ كان تارةً يزيد وتارةً ينقص وكذلك باختلاف عدد الركعات التي كان يصليها في الأوقات المختلفة من اليوم ككون الصبح كذا والظهر كذا (المفروض والمسنون معًا) ولكن الملاحظ أنه ما صلى أبدًا أقل من الركعتين، ولم يتقيد بعدد مخصوص فوق ذلك فتعين أن يكون القدر المفروض ركعتين ليس إلا. ونقول: إن العبادات كلها وفي جملتها الصلاة منشقة إلى فرض محتوم، ونفل متطوع به، ونحن لا نكلف أنفسنا هنا حشد الأدلة على ذلك إليك، ولا نرانا نعيا بأن نسوق - إن شئت - ألف دليل ودليل من كل مصدر ترى فيه مقنعًا، وإذا أبيت التمسنا ذلك من كلامك. قلت في عدة مواضع: (إن أقل الواجب ركعتان) والواجب - رعاك الله - لا يكون فيه أقل وأكثر؛ إذ لو كانت الركعتان هما الواجب المطلوب حتمًا من العبد الذي يخرج بأدائه من عهدة التكليف، فلا يتصور أن يكون ما زاد عليهما واجبًا، وإلا لكان المقتصر على الركعتين غير قائم بالواجب وأنت لا تسلمه، ولو كان الأكثر من الركعتين كالثلاث أو الأربع هي كلها الواجب لكان المقتصر على الركعتين كذلك مقتصرًا على ما دون الواجب، فيكون كذلك غير قائم بالواجب وأنت أيضًا تعارضه، فتعين أن يكون المراد بقولك: (أقل الواجب ركعتان) أن الركعتين هما الواجب الذي لا يجوز للمسلم أن ينقص منه، وأن ما فوقهما فوق الواجب , وبعبارة أخرى أنه ليس واجبًا، بل قد صرحت بهذا المراد في قولك: (فمن عرف أن الواجب عليه ركعتان فصلى أربعًا شكرناه إلخ) وإذا كان القدر الواجب المفروض من الله هما الركعتان تعيَّن أن يكون كل ما زاد عليهما نفلاً أي زيادة متطوَّعًا بها، ولا عليك أن تسمى سنةً، ولا علينا أن نسميها زيادةً أو نفلاً , بل الذي يهمنا أن هذه السنة أو هذا النفل أو هذه الزيادة غير الفرض أو الواجب، فقولك: (بصرف النظر عما سمي سنةً وما سمي فرضًا) يجب أن تصرف النظر عنه؛ لأن الصلاة بذاتها صرفنا النظر أو لم نصرف إما سنة وإما فرض امتاز كل منهما بنفسه. وأما من حيث وقوع الزيادة والنقص إذا سلمناها فهي لم تقع أصلاً إلا في الذي امتاز بأنه النفل، إذ المتنفل أو المتطوع له أن يزيد على تطوعه أو ينقص منه أو لا يقوم به رأسًا، ما دام عمله في ذاك لمجرد اكتساب المثوبة، لا الفرار من العقوبة، وأولئك الذين نقلت عنهم أن النبي عليه السلام كان تارةً يزيد وتارةً ينقص - في النافلة طبعًا - قد نقلوا إلينا نقلاً متواترًا لا شبهة فيه أنه لم ينقص شيئًا (عمدًا) ولم يزد على القدر الذي امتاز بأنه الفرض المشروع، بل واظب صلى الله عليه وسلم طول حياته الكريمة على إقامة الظهر والعصر والعشاء أربع ركعات والمغرب ثلاثًا (إلا في خوف أو سفر) لأن نقص الفرض الذي ضربه الله على الناس والزيادة فيه تلاعب بما فرضه الله وحدَّه، ومن ثم أجمع الكل على بطلان صلاة المصلي على تلك الحال كما قلنا، فالملاحظة - إذا لم يكن منها بُد - يجب أن توجه إلى كون النبي عليه الصلاة والسلام لم يلازم في بعض الصلاة - أي: النفل - حالة واحدة، بل كان تارةً يزيد وتارةً ينقص، فدل ذلك - في جملة ما دل- على أنها ليست فرضًا محتومًا من الله، وكونه لازمًا في بعضها - أي الفرض - حالة واحدة متقيدة بعدد مخصوص لم يزد عليه ولم ينقص منه إذ صلى دائمًا في المكتوبة (إلا في خوف أو سفر) الصبح ركعتين، والظهر والعصر والعشاء أربعًا، والمغرب ثلاثًا، فدل ذلك - في جملة ما دل - على أنها القدر المفروض الذي لا مفر شرعًا منه، ولا متنكّب لمسلم عنه، مصححًا هذا النقل بشهادة كل الأمة، توارثوه عنه عليه السلام جيلاً بعد جيل، وتناقلوه قبيلاً بعد قبيل. ((يتبع بمقال تالٍ))