أرشيف المقالات

لا تجوز الإقامة في بلد يظهر فيه الشرك والكفر إلا للدعوة إلى اللّه

مدة قراءة المادة : 9 دقائق .
لا تجوز الإقامة في بلد يظهر فيه الشرك والكفر إلا للدعوة إلى اللّه
 
السؤال:
أنا شاب مسلم مقيم في إيطاليا، وبها شبابٌ من المسلمين كثيرون، أغلبهم استجاب لرغبة الصليبيين في إبعادهم عن دين الإسلام وتعاليمه السامية، فأصبح أغلبهم لا يصلي، وتخلق بأخلاق سيئة، ويعمل المنكرات ويستبيحها..
فما توجيهكم لهؤلاء؟.
 
الجواب:
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى الأخ المكرم ن.
م وفقه الله لما فيه رضاه، وزاده من العلم والإيمان...
آمين.
 
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أنَّا بعد:
فإشارة إلى رسالتك التي تذكر فيها أنك شاب مسلم تقيم في إيطاليا، وأنَّ بها شبابًا من المسلمين كثيرين، وأن أغلبهم استجاب لرغبة الصليبيين في إبعادهم عن دين الإسلام وتعاليمه السامية، فأصبح أغلبهم لا يصلي، وتخلق بأخلاق سيئة، ويعمل المنكرات ويستبيحها..
إلى غير ذلك مما ذكرته في رسالتك.
 
وأفيدك بأن الإقامة في بلد يظهر فيها الشرك والكفر، ودين النصارى وغيرهم من الكفرة: لا تجوز؛ سواء كانت الإقامة بينهم للعمل أو للتجارة أو للدراسة، أو غير ذلك؛ لقول الله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلاَئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا * إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلًا * فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا ﴾ [النّـِسـَـاء: 79 - 99].
 
ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: «أنا بَرِيءٌ من كل مُسلمٍ يُقِيمُ بين أَظْهُرِ المشركين»[1].
وهذه الإقامة لا تصدر عن قلبٍ عرف حقيقة الإسلام والإيمان، وعرف ما يجب من حقِّ الله في الإسلام على المسلمين، ورضي بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمَّد صلى الله عليه وسلم نبيًّا ورسولًا.
 
فإن الرضا بذلك يتضمن من محبة الله، وإيثار مرضاته، والغيرة لدينه، والانحياز إلى أوليائه ما يوجب البراءة التامة والتباعد كل التباعد من الكفرة وبلادهم، بل نفس الإيمان المطلق في الكتاب والسنة، لا يجتمع مع هذه المنكرات، وصح عن جرير بن عبدالله البجلي رضي الله عنه أنه قال: يا رسول الله بايعني واشْتَرِطْ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تَعْبُدَ الله، وتُقِيمَ الصلاة، وتُؤْتِي الزكاة، وتُنَاصِحَ المسلمين، وتُفَارِقَ المشركين»[2] أخرجه أبو عبدالرحمن النسائي وصحَّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الحديث السابق، وهو قوله عليه الصلاة والسلام: «أنا بريءٌ مِنْ كلِّ مسلمٍ يُقِيم بين أَظْهُرِ المشركين»[3] وقال عليه الصلاة والسلام: «لا يَقْبَلُ اللهُ عزَّ وجلَّ مِنْ مشركٍ عملًا بَعْدَمَا أَسْلَم؛ أَوْ يُفَارِقَ المشركين»[4] والمعنى: حتى يفارق المشركين.
 
وقد صرح أهل العلم بالنهي عن ذلك، والتحذير منه، ووجوب الهجرة مع القدرة، اللهم إلا رجل عنده علم وبصيرة، فيذهب إلى هناك للدعوة إلى الله، وإخراج الناس من الظلمات إلى النور، وشرح محاسن الإسلام لهم، وقد دلَّت آية سورة براءة -: ﴿ قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ﴾ [التوبــة: 24] - على أن قصد أحد الأغراض الدنيوية ليس بعذر شرعي؛ بل فاعله فاسق متوعد بعدم الهداية إذا كانت هذه الأمور أو بعضها أحب إليه من الله ورسوله، ومن الجهاد في سبيل الله.
 
وأي خير يبقى مع مشاهدة الشرك وغيره من المنكرات والسكوت عليها، بل وفعلها؛ كما حصل ذلك من بعض من ذكرت من المنتسبين للإسلام.
وإن زعم المقيم من المسلمين بينهم أنَّ له أغراضًا من الأغراض الدنيوية، كالدراسة، أو التجارة، أو التكسب، فذلك لا يزيده إلا مقتًا.
 
وقد جاء في كتاب الله سبحانه وتعالى الوعيد الشديد والتهديد الأكيد على مجرد ترك الهجرة؛ كما في آيات سورة النساء المتقدم ذكرها، وهي قوله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلاَئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ...
[النساء: 97] وما بعدها.
فكيف بمن يسافر إلى بلاد الكفرة، ويرضى الإقامة في بلادهم؟! وكما سبق أن ذكرت أن العلماء رحمهم الله تعالى حرموا الإقامة والقدوم إلى بلاد يعجز فيها المسلم عن إظهار دينه، والمقيم للدراسة أو للتجارة أو للتكسب، والمستوطن؛ حكمهم وما يقال فيهم حكم المستوطن لا فرق، إذا كانوا لا يستطيعون إظهار دينهم، وهم يقدرون على الهجرة.
 
وأما دعوى بغضهم وكراهتهم مع الإقامة في ديارهم فذلك لا يكفي، وإنما حرم السفر والإقامة فيها لوجوه؛ منها:
1- أن إظهار الدين على الوجه الذي تبرأ به الذمة متعذر وغير حاصل.
 
2- نصوص العلماء رحمهم الله تعالى، وظاهر كلامهم وصريح إشاراتهم أن من لم يعرف دينه بأدلته وبراهينه، ويستطيع المدافعة عنه، ويدفع شبه الكافرين، لا يباح له السفر إليهم.
 
3- من شروط السفر إلى بلادهم: أمن الفتنة بقهرهم وسلطانهم وشبهاتهم وزخرفتهم، وأمن التشبه بهم والتأثر بفعلهم.
 
4- أن سد الذرائع وقطع الوسائل الموصلة إلى الشرك من أكبر أصول الدين وقواعده؛ ولا شك أن ما ذكرته في رسالتك مما يصدر عن الشباب المسلمين الذين استوطنوا هذه البلاد هو من ثمرات بقائهم في بلاد الكفر، والواجب عليهم الثبات على دينهم والعمل به، وإظهاره، واتباع أوامره، والبعد عن نواهيه، والدعوة إليه، حتى يستطيعوا الهجرة من بلاد الشرك إلى بلاد الإسلام.
 
والله المسؤول أن يصلح أحوالكم جميعًا، وأن يمنحكم الفقه في دينه والثبات عليه، وأن يعينكم على الهجرة من بلاد الشرك إلى بلاد الإسلام، وأن يوفقنا وإياكم وجميع المسلمين لكل ما يحبه ويرضاه، وأن يعيذنا وإياكم وسائر المسلمين من مضلات الفتن ومن نزغات الشيطان، وأن يعيننا جميعًا على كل خير، وأن ينصر دينه، ويعلي كلمته، وأن يصلح ولاة أمور المسلمين ويمنحهم الفقه في دينه، وأن يوفقهم لتحكيم شريعة الله في بلادهم، والتحاكم إليها، والرضا بها، والحذر مما يخالفها، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
 
المفتي: سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز - «مجموع فتاوى ومقالات متنوعة» (9/ 402)



[1] أبو داود (2645)، والترمذي (1604، 1605)، والطبراني في الكبير 2 /303 (2264) من حديث جرير بن عبدالله رضي الله عنه، ورواه النسائي (4780) مرسلًا، وهو الصحيح كما قال البخاري والترمذي.
انظر: المغني عن حمل الأسفار (1790).
وحسنه الألباني في الصحيحة (2 /228)، بطرقه.


[2] النسائي (4180، 4182)، وأحمد (4 /358، 360، 365)، والطبراني في الكبير 2 /314-317 (2306، 2308، 2315، 2316، 2318)، وآخرون.
وصححه الألباني في صحيح سنن النسائي (3892، 3893).


[3] أبو داود (2645)، والترمذي (1604، 1605)، والطبراني في الكبير 2/303 (2264) من حديث جرير بن عبدالله رضي الله عنه، ورواه النسائي (4780) مرسلًا، وهو الصحيح كما قال البخاري والترمذي.
انظر: المغني عن حمل الأسفار (1790).
وحسنه الألباني في الصحيحة (2 /228)، بطرقه.


[4] النسائي (2569)، وابن ماجه (2536)، وأحمد (5/4).
وحسنه الألباني في صحيح النسائي (2408) وصحيح ابن ماجه (2055).

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٢