دليل النذر (يوفون بالنذر ويخافون يوما كان شره مستطيرا)
مدة
قراءة المادة :
12 دقائق
.
دليل النذر ﴿ يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا ﴾
(المحصول الجامع لشروح ثلاثة الأصول)
قال المصنف رحمه الله: (وَدَلِيلُ النَّذْرِ؛ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا ﴾ [الإنسان: 7].
الشرح الإجمالي:
(ودليل) أن (النذر) عبادة لا يصرف إلا لله جل وعلا، (قوله تعالى) في معرض الثناء على من وفَّى بالنذر: ﴿ يُوفُونَ بِالنَّذْرِ ﴾؛ أي: يتعبدون لله، بما أوجبوه على أنفسهم بطريق النذر؛ فأثنى الله عليهم بالإيفاء، وهو سبحانه لا يثني إلا على فاعل عبادة، ﴿ وَيَخَافُونَ يَوْمًا ﴾ عسيرًا، ﴿ كَانَ شَرُّهُ ﴾؛ أي: ما فيه من الأهوال، ﴿ مُسْتَطِيرًا ﴾، ومنتشرًا وفاشيًا بين الناس إلا من أدركته رحمة الله جل وعلا[1].
الشرح التفصيلي:
ذكر المصنف دليل العبادة الرابعة عشرة، وهي النذر، والنذر في اللغة: ما يوجبه الإنسان على نفسه[2]، قال الراغب: «النذر: أن توجب على نفسك ما ليس بواجب لحدوث أمر»[3]، وشرعًا: إيجاب المكلف على نفسه ما ليس واجبًا عليه بأصل الشرع؛ تعظيمًا للمنذور له[4].
والنذر من العبادات التي يجب أن يفرد بها الله سبحانه وتعالى، فصرف النذر للمنذور له تعظيمًا، هو من هذه الجهة عبادة، فلا يجوز صرفها إلا لله وحده، فمن نذر لغير الله وقع في الشرك؛ لأنه إذا صرف النذر إلى غير الله جل وعلا، صار كأنه يعتقد فيه تصرفًا، فهو نذر لاعتقاده أنه يُعطيه، فلا يمكن أن يتوجه بالنذر إلا باعتقاد[5]، فالناذر لم ينذر هذا النذر الذي لغير الله إلا لاعتقاده في المنذور له أنه يضر وينفع، ويعطي ويمنع، إما بطبعه، وإما بقوة السببية فيه، والدليل على اعتقاد هؤلاء الناذرين حكايتهم وقولهم: أنهم وقعوا في شدائد عظيمة، فنذروا نذرًا لفلان وفلان من أصحاب القبور، فانكشفت شدائدهم[6].
وقد استدل المصنف على أن النذر عبادة بقوله تعالى: ﴿ يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا ﴾ [الإنسان: 7]، ووجه الاستدلال من هذه الآية: أن الوفاء بالنذر ذُكر في معرض الثناء؛ فدل على أن هذا الفعل عبادة يحبها الله ويرضاها،فالله جل وعلا امتدحهم بأنهم يوفون بالنذر، فدلَّ على أن هذا الفعل منهم، وهو الوفاء بالنذر محبوب له جل وعلا، وكل محبوب لله جل وعلا من الأعمال فهو عبادة [7].
وقد استشكل جمعٌ من أهل العلم عدَّ النذر عبادة؛ مع كونه منهيًّا عنه؛ لحديث ابن عمر قال: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن النذر، وقال: (إنه لا يرد شيئًا، ولكنه يُستخرج به من البخيل)[8]، وإذا كان النذر منهيًّا، فهذا يُشكل على عدِّه عبادة؛ لأنَّ العِبَادةَ لا تخرُج حالَ الطَّلب على كَونِها واجبَةً أو مُستحبَّةً، ولهذا قالوا: إن النذر ليس بعبادة، وإنما العبادة هي الوفاء بالنذر؛ وهذا الاستشكال منهم غير وارد أصلًا؛ لأن النذر ينقسم إلى قسمين:
الأول: النذر المطلق: وهو أن يُلزم العبد نفسه بعبادة لله جل وعلا بلا قيدٍ، وليس في مقابلة شيء يَحْدُثُ له، أو شيء حدَثَ له، وهذا محمود، وليس من النذر الذي كرِهه النبي صلى الله عليه وسلم.
الثاني: النذر المقيد: وهو ما كان عن مقابلة، وهو أن يُلزم العبد نفسه بعبادة الله جل وعلا مقابل شيء يُحدثه الله جل وعلا له، كما لو قال: إن شفى الله مريضي صُمْتُ يومًا، فهذا يوجب على نفسه عبادة مشروطة بشيء يحصل له قدرًا، فهذا النوع هو المكروه، وهو الذي جاء وصفه في الحديث بأنه يُستخرج به من البخيل؛ لأن البخيل هو الذي لا يعمل العبادة حتى يُقاضى عليها.
وبهذا صار النذر عبادة من العبادات التي يرضاها الله جل وعلا ويحبها، إلا في حال واحدة وهي حال نذر المقابلة، وهو النذر المقيد[9]، ثم إن الكراهة في النذر المقيد إنما ترجع إلى جهة التقييد الحاصلة فيه، وليست راجعة إلى أصل النذر، فالكراهة رجعت في وصفه وهو التقييد، لا في أصله، وهو النذر، ففيه جهتان:
الأولى: جهة الكراهة المتعلقة بهذا النذر المقيد.
والثانية: وفاؤه بالنذر الذي ألزم به نفسه، وهو من هذه الجهة عبادة، فالوفاء بالنذر المقيد داخل في العبادة، فإذا نذر لله نذرًا مقيدًا، وحصل المشروط، فيجب عليه الوفاء به، ولو قال: إن شفى الله مريضي فللولي الفلاني عليَّ نذر بكذا وكذا، فهذا نذر مقيد، وهو وإن كان مكروهًا من جهة التقييد، لكنه عبادة من جهة الوفاء، فصرفُه لغير الله جل وعلا شرك[10]؛ فالتحقيق في هذه المسألة أن النذرَ يكُونُ عبادةً بشُروطٍ ثلاثةٍ:
1) أن يكُونَ مُتعلِّقًا بنَفْلٍ لا واجبٍ؛ فمَن نذرَ أن يصُومَ رمضانَ لم يكُن نذرُه عِبادةً يُمدح بها.
2) أن يكونَ النَّذرُ معيَّنًا غيرَ مُبهمٍ؛ لأنَّه إذا أُبْهِم لم يكن قُربة، ففيهِ الكفَّارة.
3) ألا يكُونَ هذا النَّذرُ مُعلَّقًا في مُقابلِ نِعمةٍ، بل يكونُ مُطلَقًا مُرسلًا لا على وجْهِ العِوَضِ والمقابلة [11].
وبهذا انتهى المصنف رحمه الله تعالى وأجزل له المثوبة والأجر من الكلام عن الأصل الأول من الأصول الثلاثة التي يجب على الإنسان معرفتها، وهو: معرفة العبد ربه، أي: معبوده، وقرَّر المصنف فيه أن الله سبحانه وتعالى هو: الرب المربي الذي ربى جميع العالمين، وهو المعبود المستحق للعبادة الذي لا يستحق العبادة سواه، ثم بيَّن الدليل المرشد إلى معرفة الرب عز وجل، وذَكَر الآيات الدالة على ربوبية الله عز وجل، ثم ذكر الأدلة على وجوب إفراد الله سبحانه تعالى بالعبادة، ولما تقرَّر أن الرب هو المعبود المستحق للعبادة، كان من المناسب أن تُذكر أنواع العبادة التي تُفعل لهذا الرب المعبود، التي يجب إفراد الله جل وعلا بها، ولهذا شرع المصنف في بيان شيء من أنواع العبادة التي أمر الله بها، فذكر أربع عشرة عبادة يُتقرب بها إلى الله جل وعلا، ابتدأها بالدعاء، وختمها بالنذر، وبعد أن ذكَر أنواعًا من العبادة مجملة، شرع في بيان أدلة كون تلك الأنواع التي ذكر داخلة في تعريف العبادة، وبيَّن أدلة كل نوع من أنواع العبادة، وأن مَن صرَف منها شيئًا لغير الله، فهو مشرك، ومجموع الأدلة التي ذكرها المصنف رحمه الله تعالى ستة عشر دليلًا: أربع عشرة آية وحديثان، ووجوه دلائل تلك الأدلة على كون المذكورات عبادات يُتقرب بها إلى الله هي:
الأول: الأمر بها، كحديث: (فإذا استعنت فاستعن بالله)؛ فإنه يدل على أن الاستعانة عبادة للأمر بها، فإنه لا يؤمر إلا بما يُعْبَدُ به الله.
الثاني: تعليق الإيمان عليها؛ كما قال تعالى: ﴿ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [المائدة: 23]، فالآية تدل على أن التوكل عبادة لتعليق الإيمان وتوقيفه عليه.
الثالث: مدح فاعلها، كما في قوله تعالى: ﴿ يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا ﴾ [الإنسان: 7]، فهو دال على أن النذر عبادة؛ لمدح الله جل جلاله الموفي به، المتضمن مدح فعله ابتداءً بعقده، وانتهاءً بالوفاء به.
الرابع: بيان أجرها، كقوله تعالى: ﴿ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ﴾ [الطلاق: 3]، فهو دال على أن التوكل عبادة والأجر يقع عن عبادة مأمور بها، فما رُتِّب عليه أجر، فهو عبادة.
الخامس: نسبة التقرب بها إلى المؤمنين من الأنبياء وغيرهم؛ كقوله تعالى: ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾، وأفعالُ المؤمنين من القُرَبِ عبادات.
الوجه السادس: الوعيد لمن جعلها لغير الله، كما في حديث: (لعن الله من ذبح الغير الله)؛ فإن لعن الذابح لغير الله يدل على أن الذبح هو لله وحده دون غيره.
فمن هذه الوجوه الستة يعرف كون الشيء عبادة أو ليس بعبادة؛ فكل عبادة مذكورة في كلام المصنف اقترن بها ما يدل على كونها عبادة يُتعبد الله بها[12].
وتقدم أن هناك نوعين من الاستدلال يمكن الاستدلال بهما على أن صرف العبادة لغير الله شرك:
النوع الأول: الاستدلال العام بكل دليل من الكتاب أو السنة فيه وجوب إفراد الله بالعبادة؛ فإنه يكون دليلًا على أن كل عبادة لا تصلح إلا لله، وأن من صرفها لغير الله جل وعلا، فقد أشرك، فيُثبت أنها عبادة، فإذا استقام الدليل والاستدلال على أن هذه المسألة من العبادة، فيُستدل بعد ذلك بالأدلة العامة التي يصلح الاستدلال بها في كل ما ثبت أنه عبادة، على أن من صرف شيئًا من العبادة لغير الله فهو مشرك.
والنوع الثاني: أن يُستدل على المسائل بأدلة خاصة وردت فيها؛ كالاستدلال على تحريم الذبح لغير الله بأدلة خاصة وردت في ذلك، والاستدلال على وجوب الاستغاثة بالله وحده دون ما سواه بأدلة خاصة وردت بذلك، وكذا في الاستعاذة ونحو ذلك، فكل نوعٍ من العبادات له دليل خاص يُثبت أن صرفه لغير الله جل وعلا شرك، وأنه يجب إفراد المولى جل وعلا بذلك النوع من أنواع العبادة[13].
[1] ينظر: حاشية ثلاثة الأصول، عبدالرحمن بن قاسم (45)، وتيسير الوصول شرح ثلاثة الأصول، د.عبدالمحسن القاسم (110).
[2] كتاب العين، للفراهيدي (951).
[3] مفردات ألفاظ القرآن (797).
[4] ينظر: حاشية ثلاثة الأصول، عبدالرحمن بن قاسم (45)، وتيسير الوصول شرح ثلاثة الأصول، د.عبدالمحسن القاسم (110).
[5] ينظر: شرح ثلاثة الأصول، صالح بن عبدالعزيز آل الشيخ (121)، ومعجم التوحيد، إبراهيم بن سعد أباحسين (3/ 467).
[6] ينظر: التوضيح عن توحيد الخلاق في جواب أهل العراق، محمد بن علي غريب (2/ 705)، دراسة وتحقيق: د.
أمين بن أحمد السعدي، الناشر: دار التوحيد، الرياض، ط 1، 1435هــ.
[7] ينظر: شرح ثلاثة الأصول، صالح بن عبدالعزيز آل الشيخ (122)؛ وشرح ثلاثة الأصول، محمد بن صالح العثيمين (67).
[8] رواه البخاري، كتاب القدر، باب الوفاء بالنذر، برقم (6693)؛ ورواه مسلم في صحيحه بلفظ: (إنه لا يأتي بخير، وإنما يستخرج به من البخيل)، كتاب النذر، باب النهي عن النذر، وأنه لا يرد شيئاً، برقم (1639).
[9] التمهيد لشرح كتاب التوحيد، صالح بن عبدالعزيز آل الشيخ (158).
[10] التمهيد لشرح كتاب التوحيد، صالح بن عبدالعزيز آل الشيخ (160).
[11] ينظر: تعليقات على ثلاثة الأصول، صالح بن عبدالله العصيمي (30)، وتقريرات الشيخ صالح بن عبدالله العصيمي على شرح ثلاثة الأصول، للعلامة الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله.
[12] تعليقات على ثلاثة الأصول، صالح بن عبدالله العصيمي (31).
[13] ينظر ص (229) من هذا الكتاب (المحصول الجامع لشروح ثلاثة الأصول).