أرشيف المقالات

من أقسام العبودية: عبودية الغلبة والقهر والملك

مدة قراءة المادة : 8 دقائق .
من أقسام العبودية: عبودية الغلبة والقهر والملك
 
وهي عبودية كل من في السماوات والأرض مؤمنهم وكافرهم، برّهم وفاجرهم، قال تعالى: ﴿ إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا ﴾ [مريم: 93 - 95]، كما تسمى أيضًا بالعبودية العامة.
 
يقول شيخ المفسرين ابن جرير الطبري (ت: 310هـ) - رحمه الله-: «ما جميع من في السماوات من الملائكة، وفي الأرض من البشر والإنس، يقول: إلا يأتي ربه يوم القيامة عَبْدًا له، ذليلًا خاضعًا، مُقِرًّا له بالعبودية، لا نسب بينه وبينه[1].
 
ويقول البغوي (ت: 510هـ) - رحمه الله-: ﴿ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ ﴾؛ أي: إلا آتيه يوم القيامة ﴿عَبْدًا﴾ ذليلًا خاضًعا يعني: أن الخلق كلهم عبيده[2].
 
ويقرر أبو السعود (ت: 982هـ) - رحمه الله - ما قرراه، أعني: شيخَ المفسرين، والإمامَ البغوي بقوله: «أي: ما منهم أحد من الملائكة والثقلين ﴿ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا ﴾ إلا وهو مملوك له، وهو مملوك له، يأوي إليه بالعبودية والانقياد»[3].
 
وفي صدد ذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: «المخلوقون كلُّهم عبادُ الله: الأبرار منهم والفجَّار، والمؤمنون والكفَّار، وأهل الجنَّة وأهل النار، إذ هو ربُّهم كلهم ومليكُهم، لا يخرجون عن مشيئتِه وقدرته...
فهو سبحانه ربُّ العالمين وخالقُهم ورازقُهم، ومُحييهم ومميتُهم...
سواء اعترَفوا بذلك أو أنْكروه، وسواء علِموا ذلك أو جهلوه، لكنَّ أهلَ الإيمان منهم عرَفوا ذلك وآمَنوا به؛ بخلافِ مَن كان جاهلًا بذلك، أو جاحدًا له مستكبرًا على ربِّه...»[4].
 
يقول ابنُ القيِّمُ (ت: 751هـ) - رحمه الله -: إن تمام العبوديةِ يكون بتكميل مقام الذلِّ والانقياد، وأكملُ الخلقِ عبودية أكملهم ذلًّا لله وانقيادًا وطاعة، والعبدُ ذليلٌ لمولاه الحقِّ بكل وجه من وجوه الذلّ، فهو ذليلٌ لعزِّه، وذليلٌ لقهره، وذليلٌ لربوبيته فيه وتصرُّفهِ، وذليلٌ لإحسانِه إليه وإنعامه عليه[5].
 
وفي صدد بيان هذه العبودية أيضًا يقول سبحانه: ﴿ أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ ﴾ [آل عمران: 83].
 
ويقول سبحانه: ﴿ وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ ﴾ [البقرة: 116].
 
وفي بيان معنى القنوت الوارد في قول الله تعالى: ﴿ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ ﴾؛ يقول شيخ المفسرين ابن جرير الطبري - رحمه الله -: «وأولى معاني القنوت في قوله: ﴿ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ ﴾ الطاعة والإقرار لله عز وجل بالعبودية، بشهادة أجسامهم بما فيها من آثار الصنعة، والدلالة على وحدانية الله عز وجل، وأن الله تعالى ذكره بارئها وخالقها، وذلك أن الله جل ثناؤه أكذب الذين زعموا أن لله ولدًا بقوله: ﴿ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾ [البقرة:116] ملكًا وخلقًا، ثم أخبر عن جميع ما في السماوات والأرض أنها مقرة بدلالتها على ربها وخالقها، وأن الله تعالى بارئها وصانعها، وإن جحد ذلك بعضهم، فألسنتهم مذعنة له بالطاعة بشهادتها له بآثار الصنعة التي فيها بذلك، وأن المسيح أحدهم، فأنَّى يكون لله ولدًا وهذه صفته؟!»[6].
 
ويقول الله تعالى: ﴿ أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ ﴾ [آل عمران:83].
 
قال شيخ الإسلام ابن تيمية- رحمه الله-: «فذكر إسلام الكائنات طوعًا وكرهًا؛ لأن المخلوقات جميعها متعبدةٌ له التعبد العام، سواء أقرَّ المقر بذلك أو أنكره، وهم مدينون له مُدبرون، فهم مسلمون له طوعًا وكرهًا، ليس لأحد من المخلوقات خروجٌ عما شاءه وقدَّره وقضاه، ولا حول ولا قوة إلا به، وهو رب العالمين ومليكهم، يُصرِّفهم كيف يشاء، وهو خالقهم كلِّهم، وبارئهم ومُصورِّهم، كل ما سواه فهو مربوب مصنوعٌ مفطورٌ، فقيرٌ محتاجٌ معبَّد مقهورٌ، وهو سبحانه الواحد القهار الخالق البارئ المصوِّر»[7].

[1] تفسير الطبري: القول في تأويل قوله تعالى: ﴿ أَنْ دَعَوْا لِلرحْمَنِ وَلَدًا ﴾ [مريم: 91] (18/ 261)؛ جامع البيان في تأويل القرآن المؤلف: محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب الآملي، أبو جعفر الطبري (المتوفى: 310هـ)، المحقق: أحمد محمد شاكر الناشر: مؤسسة الرسالة الطبعة: الأولى، 1420 هـ - 2000 م عدد الأجزاء: 24.

[2] تفسير البغوي: تفسير: قوله تعالى: ﴿ أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا ﴾ [مريم: 91] (5/ 527)، معالم التنزيل في تفسير القرآن، المؤلف: محيي السنة، أبو محمد الحسين بن مسعود بن محمد بن الفراء البغوي الشافعي (المتوفى: 510هـ) المحقق: عبد الرزاق المهدي الناشر: دار إحياء التراث العربي - بيروت الطبعة: الأولى، 1420 هـ عدد الأجزاء: 5.

[3] تفسير أبي السعود: تفسير قوله تعالى: ﴿ إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلا آَتِي الرحْمَنِ عَبْدًا ﴾ [مريم: 93]، (5/ 283).

[4] العبودية لابن تيمية: ينظر (ص: 50 -51)، و ينظر: أيضًا (ص: 104).

[5] مفتاح دار السعادة (1/ 289)، مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة، المؤلف: أبو عبد الله محمد بن أبي بكر بن أيوب ابن قيم الجوزية (691 هـ – 751 هـ) المحقق: عبد الرحمن بن حسن بن قائد، راجعه: مُحَمَّد أَجْمَل الإصْلاحِي، سليمان بن عبد الله العمير، الناشر: دار عالم الفوائد، مكة المكرمة، الطبعة: الأولى، 1432 هـ، عدد الأجزاء: 5. 

[6] تفسير الطبري: (1/ 507-508).

[7] العبودية (ص145).

شارك الخبر

مشكاة أسفل ٢