أرشيف المقالات

المثل العليا للأخلاق الكريمة

مدة قراءة المادة : 6 دقائق .
عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: قال رسولا الله صلى الله عليه وسلم: [أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كانت محقا، وببيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحا، وببيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه](رواه أبو داوود بإسناد صحيح). هذا قبس من نور النبوة يدعو فيه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى التمسك بالمثل العليا للأخلاق الكريمة، ويتخير في الحث على ذلك أبلغ عبارة في الترغيب والإغراء بهذه الفضائل، حيث يقول:[أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كانت محقا]. والزعيم: الكفيل والضامن.
وربض الجنة: مدخلها أو ما حولها.
والمراء: الجدال. ولا شك أن الرسول إذا ضمن منزلة من المنازل الكريمة في الجنة كان ذلك وعدا لا ريب فيه، فهو الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى. وهذه ثلاث خصال من الآداب الاجتماعية التي يترتب عليها سعادة الفرد والجماعة، وتتوثق بها أواصر الألفة والمحبة بين الناس، وتقوم عليها سعادة المجتمع، وهي ترك المراء وإن كان محقا، وترك الكذب وإن كان مازحا، والتحلي بحسن الخلق. أولا: ترك المراء: أما ترك المراء وإن كان محقا، فالقصد منه ترك المجادلة لإظهار الغلبة والتفوق على خصمه في القدرة الكلامية؛ لأن الجدال حينئذ يكون ثرثرة بالباطل لا توصل إلى الحق. وقد بالغ الرسول في النهي عنه ولو كان المرء محقا؛ فإنه لا نتيجة لهذا الجدال إلا الضغينة والبغضاء والحقد والشحناء. ولم يرد الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك ترك الدفاع عن الحق، بل أراد ترك ما لا فائدة فيه من النقاش والحجاج، كما إذا كان الخصم معاندا لا يخضع لحجة ولا يقتنع ببرهان.
فيكفي الطرف المحق أن يعلن حقه ويتمسك به بعد أن يقيم عليه الدليل، ثم يترك خصمه المبطل في عناده ولجاجه، ومماراته وحجاجه. ذلك ما رسمه الله عز وجل لرسوله الكريم في مناقشة خصومه المعاندين؛ قال تعالى: {فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ ۗ وَقُل لِّلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ ۚ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوا ۖ وَّإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ ۗ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ}(آل عمران: 20) وقد قص الله علينا لونا من جدال أولئك المعاندين لرسوله الكريم؛ فقد طلبوا منه أن يفجر لهم من الأرض ينبوعا من الماء، وأن يكون له في الدنيا جنة من نخيل وأعناب تتفجر خلالها الأنهار، أو يسقط عليهم السماء قطعا، أو يأتيهم بالله والملائكة يرونهم جماعة جماعة، أو يكون له بيت من ذهب، أو يصعد في السماء ويأتيهم بكتاب مخطوط يقرؤونه دليلا على صدقه؛ قال تعالى: {وَقَالُوا لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنبُوعًا (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَىٰ فِي السَّمَاءِ وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّىٰ تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرَؤُهُ}(الإسراء:90: 93) وهذه مطالب المتعنتين، فإن فيها ما هو غير معقول: لذلك أمر الله رسوله أن يرد عليهم بما يقطع الجدال معهم فقال: {قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلَّا بَشَرًا رَّسُولًا}(الإسراء:93). ثانيا: ترك الكذب وأما ترك الكذب، فقد حث الرسول عليه ولوكان المرء مازحا، وضمن على ذلك بيتا في وسط الجنة، والواقع أن بعض الناس يستسيغون الكذب في المزاح بقصد الدعابة والفكاهة والترويح عن النفس، وه وأمر يترتب عليه ضرر كبير؛ فكثيرا ما قطعت أواصر الصداقة أو الزوجية بسبب خبر كاذب قصد به المزاح، وكثيرا ما فجعت الأسر بسب نبأ قصد به الفكاهة. ولهذا النوع من الكذب مواسم يتفنن المتفننون في صياغته وحياكته، وليقع موقع التصديق والقبول، فتقع به الفواجع والشرور، لمثل هؤلاء يوجه الرسول دعوته، وفي مثل هذا يحسن أن نقتفي هديه وسنته؛ فقد كان صلى الله عليه وسلم يمزح ولا يقول إلا حقا؛ جاءته يوما عجوز فقالت: يا رسول الله! ادع الله أن يدخلني الجنة.
فقال: أما علمت أنه لا يدخل الجنة عجوز؟! فانصرفت المرأة حزينة، فقال: ردوها علي، فلما رجعت قال لها: أما سمعت قول الله في شأن النساء اللاتي يدخلن الجنة: {إنا أنشأناهن إنشاء فجعلناهن أبكارا عربا أترابا}(الواقعة: ). ثالثا: حسن الخلق وأما حسن الخلق فقد ضمن الرسول لمن تمسك به أعلى بيت في الجنة.
وحسن الخلق كلمة جامعة لمكارم الأخلاق ومحاسن الشمائل، من رفق وإحسان، وعفة وتعاون وإصلاح، وبشاشة وسماحة واستقامة، وحلم وعفو وتواضع، وصبر وثبات وشكر. وقد سئل الرسول صلى الله عليه وسلم عن البر فقال: [البِرُّ حُسنُ الخُلُقِ](رواه مسلم). وعن أبي الدرداء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [ما مِن شيءٍ أثقلٌ في الميزانِ مِن حُسْنِ الخُلُقِ](رواه أبو داود). وعن عبد الله بن المبارك رحمه الله أنه قال: [حسن الخلق هو طلاقة الوجه، وبذل المعروف، وكف الأذى]. وحسبنا أن الله سبحانه وتعالى امتدح به رسوله الكريم في كتابه المبين فقال: {وإنك لعلى خلق عظيم}. ـــــــــــــــــــــــــــــــ مجلة كنوز الفرقان

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٢