أرشيف المقالات

معنى الذكر وحقيقته وفضائله

مدة قراءة المادة : 48 دقائق .
معنى الذِّكر وحقيقته وفضائله

تحميل ملف الكتاب(انقر الرابط بالزر الأيمن للفأرة واختر "حفظ الهدف باسم" أو "Save Target As")

 
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على مَن لا نبيَّ بعده، نبينا محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم -، أما بعدُ: فهذه وقفات وتأملات مع فضل الذِّكر وحقيقته، وشرف الذَّاكرين لله تعالى.

الوقفة الأولى: معنى الذكر وحقيقته:
الذِّكر: مصدرُ ذَكَر الشيء يذكُرُه ذِكْرًا وذُكْرًا، وهو: ما يجري اللِّسان والقلب من ذِكر العبد لربه سبحانه وتعالى، وأسمائه الحسنى وصفاته العلى، وأفعاله وآلائه، والثناء عليه بما هو أهله، وتعظيمه وإجلاله وتوحيده، وحمده وشكره، قال ابن القيم رحمه الله: وذِكْره يتضمن ذكر أسمائه وصفاته، وذكر أمره ونهيه، وذكره بكلامه؛ وذلك يستلزم معرفته، والإيمان به، وبصفات كماله، ونعوت جلاله، والثناء عليه بأنواع المدح، وذلك لا يتم إلا بتوحيده، فذكره الحقيقي يستلزم ذلك كله، ويستلزم ذكر نعمه وآلائه وإحسانه إلي خلقه.
انتهى.

والذِّكْر على الحقيقية هو التخلص من الغفلة والنسيان، والنسيان الفطري الجبلي لا دخل للإنسان فيه، ولا تثريب على صاحبه ولا مؤاخذة، إنما النسيان هنا هو نسيان الغفلة المتعمد عن أداء الواجبات مع التقصير فيها وتضييعها، والانحراف عن طريق الحق وذكره، والعمل به، والاستقامة عليه، وهو يدور بين نسيان الإنسان الذنوب والآثام التي يقترفها في الليل والنهار، كما قال الله تعالى: ﴿ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ ﴾ [الكهف: 57]، ونسيان المصير المحتوم ولقاء الله تعالى يوم القيامة، كما قال سبحانه: ﴿ فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ ﴾ [الأعراف: 51]، وقال سبحانه تعالى: ﴿ فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ [السجدة: 14]، وقال جل ذكره: ﴿ وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ ﴾ [الجاثية: 34]، ونسيان الله تعالى والإعراض عن ذكره، كما قال جل ذكره: ﴿ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُون ﴾ [التوبة: 67]، وقال تعالى: ﴿ وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾ [الحشر: 19].

فمن نسي يُنسى، فالجزاء من جنس العمل، ونسيان الله لعبده يعني أنه في موقف الطرد من رحمته، والبعد عن مغفرته، وأنه موكولٌ إلى نفسه، ولهذا فإن الغافلين عن ذكر الله ينتظرهم شقاء الدنيا وبلاؤها، وعذاب الآخرة ونكالها، فمن يعمَ عن ذكر ربه يقيض له شيطانًا مريدًا في الدنيا يوغل به في متاهاتِ الإغواء والضلال والانحراف، يقارنه ويصاحبه، ويعده ويمنيه، ويؤزه إلى المعاصي أزًا، ويصده عن الخير والهدى صدًا، كما قال تعالى: تعالى: ﴿ وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ ﴾ [الزخرف: 36]، وأما في الآخرة فإن الله تعالى يبين لنا المصير المحتوم لهؤلاء الغافلين المعرضين فيقول: ﴿ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا ﴾ [الجن: 17]، ويقول سبحانه: ﴿ فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ﴾ [طه: 123 – 124] [1].

ولهذا فإن الغفلة موتٌ وظلام، لأن الغافل عن ذكر ربه ينسى حقيقة الوجود والحياة، ولا يدرك حكمة الخلق والوجود فيه! فهو في عداد الموتى وإن مشى وتحرك بين الأحياء، وقد جاء في الحديث الصحيح مرفوعًا: «مَثَلُ الَّذِي يَذْكُرُ رَبَّهُ وَالَّذِي لاَ يَذْكُرُ رَبَّهُ، مَثَلُ الحَيِّ وَالمَيِّتِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، ولهذا حذرنا الله تعالى من الغفلة والنسيان، وأمرنا بالذِّكر الدائم له سبحانه على كل حال، لأن الذِّكر طوق النجاة، وسبب السعادة والفلاح في الدنيا والآخرة، قال تعالى: ﴿ وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ ﴾ [الأعراف: 205]، وقوله تعالى: ﴿ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [الجمعة: 10].

حتى أن النبي صلى الله عليه وسلم أُمِر في أول الدعوة بملازمة ذِكْر الله تعالى وهو يواجه طواغيت الكفر والشرك في جزيرة العرب، فقال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: ﴿ وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً ﴾ [المزمل: 8] أي: أكثر من ذِكْره، وانقطع إليه، وتفرغ لعبادته إذا فرغت من أشغالك، كما ذكر ابْن كثيرٍ رحمه الله [2] وغيره من المفسرين، وذِكْر الله تعالى شاملٌ فهو يتناول التسبيح، والتهليل، والتكبير، والصلاة، وتلاوة القرآن، ودراسة العلم، فعلى أي حالٍ كان فإنه في ذِكرٍ لله تعالى، وتعظيم له، فهو نداءٌ من الله سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم أن يكون دائمًا مع ذِكر الله في الليل والنهار، فلا يقطعه هذا السبح الطويل في النهار مع الناس، عن ذِكْر الله أبدًا.

لقد كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم أكمل الخلق ذكرًا لله عز وجل، بل كان كلامه كله في ذِكْر الله وما والاه، وكان أمره ونهيه وتشريعه للأمة ذكرًا منه لله، وإخباره عن أسماء الرب وصفاته وأحكامه وأفعاله ووعده ووعيده ذكرًا منه له، وثناؤه عليه بآلائه وتمجيده وحمده وتسبيحه ذكرًا منه له، وسؤاله ودعاؤه إياه ورغبته ورهبته ذكرًا منه له، وسكوته وصمته ذكرًا منه له بقلبه، فكان ذاكرًا لله في كل أحيانه وعلى جميع أحواله، وكان ذكره لله يجري مع أنفاسه قائمًا وقاعدًا وعلى جنبه، وفي مشيه وركوبه، ومسيره ونزوله، وظعنه وإقامته، كما قال ابن القيم، وكان إذا استيقظ قال: «الحَمْدُ للَّهِ اَلَّذي أَحْيَانَا بعْدَ مَا أَمَاتَنَا وإِلَيْهِ النُّشُورُ»[3].

ومن هنا ندرك أثر الذِّكْر العظيم في حياة الإنسان واستقامته، وأن الذِّكْر ليس مجرد أقوال أو كلمات يرددها اللسان بلا فهم أو تدبر! أو شعور أو وجدان! كلا، بل إن الذِّكْر منهج حياة رباني يشمل كل جوانب الحياة، لأنه يجعل الإنسان في اتصالٍ دائم مع ربه، يستمد منه العون والهداية والتوفيق في كل أموره وشئونه.

فالذِّكر كما قال ابن القيم رحمه الله: هو منشور الولاية الذي من أعطيه اتصل، ومن منعه عزل، وهو قوت قلوب القوم، الذي متى فارقها صارت الأجساد لها قبورًا، وعمارة ديارهم التي إذا تعطلت عنه صارت بورًا، وهو سلاحهم الذي يقاتلون به قطاع الطريق، وماؤهم الذي يطفئون به التهاب الطريق، ودواء أسقامهم الذي متى فارقهم انتكست منهم القلوب، والسبب الواصل والعلاقة التي كانت بينهم وبين علام الغيوب.

إذا مرضنا تداوينا بذِكركم *** فنترك الـذِّكر أحيانًا فننتكس

به يستدفعون الآفات، ويستكشفون الكُربات، وتهون عليهم به المصيبات، إذا أظلمهم البلاء فإليه ملجؤهم، وإذا نزلت بهم النوازل فإليه مفزعهم، فهو رياض جنتهم التي فيها يتقبلون، ورءوس أموال سعادتهم التي بها يتجرون، يدع القلب الحزين ضاحكًا مسرورًا، ويوصل الذَّاكر إلى المذكور، بل يدع الذَّاكر مذكورًا، وفي كل جارحةٍ من الجوارح عبودية مؤقتة، والذِّكر عبودية القلب واللِّسان وهي غير مؤقتة، بل هم مأمورون بذكر معبودهم ومحبوبهم في كل حالٍ: قيامًا وقعودًا وعلى جنوبهم، فكما أن الجنة قيعان وهو غراسها، فكذلك القلوب بور وخراب وهو عمارتها وأساسها، وهو جلاء القلوب وصقالها، ودواؤها إذا غشيها اعتلالها، وكلما ازداد الذاكر في ذكره استغراقًا، ازداد المذكور محبة إلى لقائه واشتياقًا، وإذا واطأ في ذكره قلبه للسانه، نسي في جنب ذكره كل شيء، وحفظ الله عليه كل شيء، وكان له عوضًا من كل شيء، به يزول الوقر عن الأسماع، والبُكم عن الألْسُن، وتنقشع الظلمة عن الأبصار، زين الله به ألسنة الذَّاكرين، كما زين بالنور أبصار الناظرين، فاللِّسان الغافل: كالعين العمياء! والأذن الصماء! واليد الشلاء! [4].
♦    ♦    ♦

الوقفة الثانية: فضائل الذِّكر والذَّاكرين:
ثبت في فضل الذِّكْر وشرف الذَّاكرين لله تعالى الكثير من النصوصِ في القرآنِ والسنة، التي تحث عليه، وترغب نفوسَ الصالحين فيه، وتبين عظيم الأجر والثواب للذَّاكرين في الدنيا والآخرة.

الفضيلة الأولى: كفى بالذِّكر شرفًا وفضلاً أنه أنس المحبين، وروضة العارفين، وجنة المقربين، ولهذا فإن أولياءَ الله تعالى لا يَفْترون عن ذِكر ربهم ومعبودهم بقلوبهم وألسنتهم في الليل والنهار، فهم يذكرون الله قيامًا وقعودًا وعلى جنوبهم، وفي جل أحوالهم وأوقاتهم، كما قال تعالى: ﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُوْلِي الألْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾ [آل عمران: 191،190]، ونام بعضُهم عند إبراهيم بن أدهم، قال: فكنتُ كلَّما استيقظتُ من الليل، وجدتُه يذكر الله، فأغتمّ، ثم أُعزِّي نفسي بهذه الآية: ﴿ ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ ﴾، فهؤلاء هم أهل السبق والإيمان، والتفرد والإحسان، وقد جاء في الحديث الذي رويناه في صحيح مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، يَسِيرُ فِي طَرِيقِ مَكَّةَ فَمَرَّ عَلَى جَبَلٍ يُقَالُ لَهُ جُمْدَانُ، فَقَالَ: «سِيرُوا هَذَا جُمْدَانُ سَبَقَ الْمُفَرِّدُونَ» قَالُوا: وَمَا الْمُفَرِّدُونَ؟ يَا رَسُولَ اللهِ قَالَ: «الذَّاكِرُونَ اللهَ كَثِيرًا، وَالذَّاكِرَاتُ».

الفضيلة الثانية: أنَّ الذِّكر من أعظم العبادات والطاعات التي يتقرب بها العبد إلى الله تعالى وأفضلها، وخير الأعمال الصالحات وأزكاها، ففي الحديث الصحيح عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «أَلا أُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرِ أَعْمَالِكُمْ، وَأَزْكَاهَا عِنْدَ مَلِيكِكُمْ، وَأَرْفَعِهَا فِي دَرَجَاتِكُمْ وَخَيْرٌ لَكُمْ مِنْ إِنْفَاقِ الذَّهَبِ وَالوَرِقِ، وَخَيْرٌ لَكُمْ مِنْ أَنْ تَلْقَوْا عَدُوَّكُمْ فَتَضْرِبُوا أَعْنَاقَهُمْ وَيَضْرِبُوا أَعْنَاقَكُمْ»؟ قَالُوا: بَلَى.
قَالَ: «ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى»، قَالَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ: «مَا شَيْءٌ أَنْجَى مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْن مَاجَهْ وَأَحْمَدُ وَالحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ الأَلْبَانِيّ.

الفضيلة الثالثة: أنَّ الذِّكر من أيسر العبادات والطاعات وأجلها، لسهولته على القلب واللسان، وثقله في الميزان، ففي الحديث عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «كَلِمتَانِ خَفِيفَتَانِ عَلى اللِّسانِ، ثَقيِلَتانِ فِي المِيزَانِ، حَبِيبَتَانِ إِلَى الرَّحْمنِ: سُبْحان اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ، سُبحانَ اللَّه العظيمِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

الفضيلة الرابعة: أنَّ الذِّكر أحب الكلام إلى الله وأشرفه، وأكرمه وأعظمه كما في الحديث عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدَبٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «أَحَبُّ الْكَلامِ إِلَى اللهِ أَرْبَعٌ: سُبْحَانَ اللهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلا إِلَهَ إِلا اللهُ، وَاللهُ أَكْبَرُ، لا يَضُرُّكَ بِأَيِّهِنَّ بَدَأْتَ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وفي الحديث عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لأَنْ أَقُولَ سُبْحَانَ اللهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلا إِلَهَ إِلا اللهُ، وَاللهُ أَكْبَرُ، أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

الفضيلة الخامسة: أنَّ الذِّكر فيه حفظٌ لِلِّسَان، وكف له عن الوقوع في الذنوب والمعاصي والمحرمات، لأن الإنسان بذكره لله تعالى يشغل نفسه بما ينفعه عند الله تعالى، وبما يرضيه عنه، ويجلب له رفعة الدرجات والسعادة في الدنيا والآخرة، لأن اللِّسَان قد يكون أصلاً في الدلالة على الخير كالذكر والتهليل والتسبيح، وتلاوة القرآن، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وتعليم العلم، والنصح للمسلمين، والدعوة إلى الله، وقد يكون أصلاً في الدلالة على الشر والفتن، كالغيبة والنميمة بين المسلمين، والكذب على الله ورسوله، والغناء الباطل، وقول الزور، ونشر الفتن بين العباد، فاللسان سيف قاطع، في الخير أو الشر، ولهذا دلت النصوصُ على وجوب حفظه، والحذر من الطغيان به، فمن ذلك قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 71،70]، وقال تعالى: ﴿ مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ﴾ [ق: 18]، قال النووي رحمه الله: اعلم أنه لكل مكلف أن يحفظ لسانه عن جميع الكلام، إلا كلامًا تظهر المصلحة فيه، ومتى استوى الكلام وتركه في المصلحة، فالسنة الإمساك عنه، لأنه قد ينجر الكلام المباح إلى حرام أو مكروه، بل هذا كثيرٌ أو غالب في العادة، والسلامة لا يعدلها شئ[5].

ولهذا جاء في الحديث الصحيح عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنَّ العَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ، لاَ يُلْقِي لَهَا بَالاً، يَرْفَعُهُ اللَّهُ بِهَا دَرَجَاتٍ، وَإِنَّ العَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ، لاَ يُلْقِي لَهَا بَالاً، يَهْوِي بِهَا فِي جَهَنَّمَ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وفي حديث مُعَاذِ بنِ جَبَلٍ الطَّويلِ، رضي الله عنه قَالَ: قُلْتُ يَا رسُول اللَّهِ أخْبِرْني بِعَمَلٍ يُدْخِلُني الجَنَّة، ويُبَاعِدُني عن النَّارِ؟ ..
ثُمَّ قَالَ: «أَلا أُخْبِرُكَ بِمَلاكِ ذَلِكَ كُلِّهِ»؟ قُلْتُ: بَلَى يَا نَبِيَّ اللَّهِ، فَأَخَذَ بِلِسَانِهِ قَالَ: «كُفَّ عَلَيْكَ هَذَا»، فَقُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، وَإِنَّا لَمُؤَاخَذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ بِهِ؟ فَقَالَ: «ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا مُعَاذُ، وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ أَوْ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ إِلا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْن مَاجَهْ، وَصَحَّحَهُ الأَلْبَانِيّ.

وفي الحديث عَنْ سَهْلِ بنِ سعْدٍ رضي الله عنه قَال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ يَضْمَنْ لِي مَا بيْنَ لَحْيَيْهِ، وَمَا بيْنَ رِجْلَيْهِ، أضْمنْ لهُ الجَنَّة» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وفي الحديث أيضًا عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رضي الله عنه قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا النَّجَاةُ؟ قَالَ صلى الله عليه وسلم: «امْلِكْ عَلَيْكَ لِسَانَكَ، وَلْيَسَعْكَ بَيْتُكَ، وَابْكِ عَلَى خَطِيئَتِكَ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ الأَلْبَانِيّ.

وفي الحديث عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ كانَ يؤمِنُ بِاللَّه وَاليوْمِ الآخِرِ فَلْيَقلْ خَيْراً أَوْ ليَصْمُتْ».
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَفِي رِوَايةٍ: «أَوْ لِيسْكُتْ»، وفي الحديث عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَنَّهُ قَالَ: «وَالْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ولهذا فإن أفضل ما يشغل به العبد قلبه ولسانه ويتحرك به هو ذِكر الله تعالى وتسبيحه وتمجيده، كما في الحديث عَنْ عبد اللَّه بن بُسْرٍ رضي الله عنه أنَّ رَجُلاً قَالَ: يَا رسُولَ اللَّهِ، إنَّ شَرائِع الإسْلامِ قَدْ كَثُرتْ علَيَّ، فَأخبرْني بِشيءٍ أتشَبَّثُ بهِ؛ قَالَ: «لا يَزالُ لِسَانُكَ رَطْباً مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ، وَرَوَاهُ ابْن مَاجَهْ وَابْن حِبَّانَ وَأَحْمَدُ وَالحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ الأَلْبَانِيّ.

قال أبو الدرداء: الذين لا تزال ألسنتهم رطبةً من ذِكر الله، يدخل أحدهم الجنَّةَ وهو يضحك، وقيل له: إنَّ رجلاً أعتق مئة نسمة، فقال: إنَّ مئة نسمة من مالِ رجلٍ كثيرٌ، وأفضلُ من ذلك إيمانٌ ملزومٌ بالليل والنَّهار، وأنْ لا يزالَ لسانُ أحدكم رطباً مِنْ ذِكر الله عز وجل.


وقال الحافظ ابْن رجب الحنبلي رحمه الله [6]: وكلَّما قويت المعرفةُ، صار الذِّكرُ يجري على لسان الذاكر من غير كُلفة، حتى كان بعضهم يجري على لسانه في منامه: الله الله[7]، ولهذا يُلهم أهلُ الجنة التَّسبيح، كما يُلهمون النفسَ، وتصيرُ "لا إله إلا الله" لهم، كالماء البارد لأهل الدنيا، وكان الثوري ينشد:
لا لأَنِّي أَنساكَ أُكثرُ ذِكرا *** ك ولكنْ بِذاكَ يَجري لِساني

وقال ذو النون: من اشتغل قلبُه ولسانُه بالذِّكر، قذف الله في قلبه نورَ الاشتياق إليه.
وقيل لعمير بن هانئ: ما نرى لسانَك يَفتُرُ، فكم تُسبِّحُ كلَّ يوم؟ قال: مئة ألف تسبيحة، إلا أنْ تُخطئ الأصابع، يعني أنَّه يَعُدُّ ذلك بأصابعه.

وكان بعضُ السَّلف يقول في مناجاته: إذا سئم البطالون من بطالتهم، فلنْ يسأم محبوك من مناجاتك وذكرك.
وقال أبو جعفر المحَوَّلي: وليُّ الله المحبُّ لله لا يخلو قلبُه من ذكر ربِّه، ولا يسأمُ من خدمته.


وقال ابْن القيم رحمه الله: وسمعتُ شيخ الإسلام يقول: الذِّكر للقلب، مثل: الماء للسمك، فكيف يكون حال السمك إذا فارق الماء؟! وروي في بعض الآثار عن الحسن البصري رحمه الله أنه قال: أحبُّ عبادِ الله إلى اللهِ أكثرهم له ذِكراً، وأتقاهم قلباً.
وقال الربيعُ بن أنس، عن بعض أصحابه: علامةُ حبِّ الله كثرةُ ذكره، فإنَّك لنْ تحبَّ شيئاً إلا أكثرت ذكره.
وقال إبراهيم بن الجنيد: كان يُقال: من علامة المحبِّ للهِ دوامُ الذِّكر بالقلب واللِّسان، وقلَّما وَلعَ المرءُ بذكر الله عز وجل إلا أفاد منه حبَّ الله.


الفضيلة السادسة: أنَّ الذِّكر هو باب الله الأعظم المفتوح بينه وبين عبده ما لم يغلقه العبد بغفلته ونسيانه وإعراضه! فهو صلة بين العبد وربه، ولهذا جعل الله الصلاة من أجل ذكره تعالى، وشرعها لعباده ليكونوا على اتصالٍ دائم به سبحانه، فهو صلة بين العبد وخالقه، كما قال جل ذِكره: ﴿ وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي ﴾ [طه: 14]، قال ابن سعدي: أقم الصلاة لأجل ذِكرك إياي، لأن ذكره تعالى أجل المقاصد، وهو عبودية القلب، وبه سعادته، فالقلب المعطَّل عن ذكر الله، معطَّل عن كل خير، وقد خرب كل الخراب، فشرع الله للعباد أنواع العبادات، التي المقصود منها إقامة ذكره، وخصوصًا الصلاة.
وقال الله تعالى: ﴿اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ﴾ أي: ما فيها من ذكر الله أكبر من نهيها عن الفحشاء والمنكر، وهذا النوع يقال له توحيد الألوهية، وتوحيد العبادة، فالألوهية وصفه تعالى، والعبودية وصف عبده.
انتهى.

فذكر اللّه تعالى اتصال القلب به، والاشتغال بمراقبته وليس هو مجرد تحريك اللِّسان، فإقامة الصلاة ذكر لله تعالى، بل إنه وردت آثارٌ تكاد تخصص الذكر بالصلاة، فقد روى أبو داود من حديث الأعمش، عن الأغر أبي مسلم، عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا أيقظ الرجل امرأته من الليل فصليا ركعتين، كانا تلك الليلة من الذَّاكرين اللّه كثيرًا والذَّاكرات»، وإن كان ذكر اللّه أشمل من الصلاة، فهو يشمل كل صورة يتذكر فيها العبد ربه، ويتصل به قلبه، وفي الحديث عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ، قَالَ: انْطَلَقْتُ أَنَا وَأَبِي، إِلَى صِهْرٍ لَنَا مِنَ الأنْصَارِ نَعُودُهُ فَحَضَرَتِ الصَّلاةُ فَقَالَ لِبَعْضِ أَهْلِهِ: يَا جَارِيَةُ ائْتُونِي بِوَضُوءٍ لَعَلِّي أُصَلِّي فَأَسْتَرِيحَ، قَالَ: فَأَنْكَرْنَا ذَلِكَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ: «قُمْ يَا بِلالُ فَأَرِحْنَا بِالصَّلاةِ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَصَحَّحَهُ الأَلْبَانِيّ، ولهذا قال الحسن البصري: تفقدوا الحلاوة في ثلاثة أشياء: في الصلاة، وفي الذِّكر، وقراءة القرآن، فإن وجدتم، وإلا فاعلموا أن الباب مغلق!

الفضيلة السابعة: أنَّ الذِّكر من أعظم أسباب زيادة الإيمان والتوحيد في القلب، كما قال عز وجل: ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً ﴾ [الأنفال: 2 - 4]، والوجل هنا هو نوع من الخوف والرهبة والخشية التي تدفع العبد إلى الكف والامتناع عن المعاصي والمحرمات، وهذا من أعظم آثار الذِّكر وبركته، أنه يزيد الإيمان في القلب حتى يكون سياجًا وحماية لصاحبه، ووقاية له عن مقارفة الذنوب والآثام والوقوع فيها، وكما قال الإمام القحطاني رحمه الله[8]:

إِيمَانُنُا بِاللهِ بَيْنَ ثَلاَثَةٍ
عَمَلٍ، وَقَوْلٍ، وَاعْتِقَادِ جَنَان

وَيَزِيدُ بِالتَّقْوَى وَيَنْقُصُ بِالرَّدَىَ
وَكِلاَهُمَا فِي الْقَلْبِ يَعْتَلِجَان

 
وقال زهير البابي: إنَّ لله عباداً ذكروه فخرجت نفوسُهم إعظاماً واشتياقاً، وقوم ذكروه فوجِلَتْ قلوبهم فرقاً وهيبة فلو حُرِّقوا بالنَّار لم يجدوا مَسَّ النار، وآخرون ذكروه في الشتاء وبرده فارفضّوا عرقاً من خوفه، وقومٌ ذكروه فحالت ألوانهم غبراً، وقومٌ ذكروه فجَفَّتْ أعينُهم سهراً.
وقال مالك بنُ دينار: ما تلذَّذ المتلذذون بمثل ذكر الله عز وجل، فليس شيءٌ من الأعمال أقل مؤونة منه ولا أعظم لذة، وأكثر فرحة وابتهاجاً للقلب.


وروي أن مُعاذ بن جبل رضي الله عنه كان يقول لرجلٍ: اجلِسْ بنا نؤمن ساعة.
وكان عمر رضي الله عنه يقول لأصحابه: هلُمُّوا نزدَدْ إيمانًا، فيذكرون الله عز وجل.


وهنا فائدة عظيمة لا بد من الوقوف عليها والالتفات إليها، وهي مسألة: "زيادة الإيمان ونقصانه" في القلب، فإنها من أهم المسائل في باب الاعتقاد عند أهل السنة والجماعة، وهي توجب على المسلم الصادق دوام مراعاته لمعدل وميزان الإيمان في قلبه بين الحين والحين، ولهذا أرشدنا الله تعالى إلى رعاية القلب، ورعاية مستوى تحقيق الإيمان فيه، لأنه من أعظم أسباب وقاية العبد من الوقوع في المحارم والآثام، ولهذا قال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ ﴾ [آل عمران: 135 - 136].

وروينا في صحيح مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلا يَسْرِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلا يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَالتَّوْبَةُ مَعْرُوضَةٌ بَعْدُ».

وَعَنْ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «مَا مِنْ عَبْدٍ يُذْنِبُ ذَنْبًا، فَيُحْسِنُ الطُّهُورَ، ثُمَّ يَقُومُ فَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ يَسْتَغْفِرُ اللَّهَ، إِلا غَفَرَ اللَّهُ لَهُ»، ثُمَّ قَرَأَ هَذِهِ الآيَةَ: ﴿ وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ ﴾ [آل عمران: 135] إِلَى آخِرِ الآيَةِ.
رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَصَحَّحَهُ الأَلْبَانِيّ.

الفضيلة الثامنة: أنَّ الذِّكر من أعظم أسباب تعلق القلب والنفس بالدار بالآخرة، والخوف منها، والاستعداد الدائم لها، لأن صاحبه في حالة اتصالٍ دائم بالله تعالى، فلا تشغله الدنيا ولا ما فيها من الشهوات واللذات مهما تزينت، ولا ما فيها من التجارات والمكاسب والمغانم إذا ما شغلته عن ذكر الله وعن الصلاة والدار الآخرة، فإن ترك الدنيا من أشد الأمور على النفس، لما فيه من المكاسب العاجلة المحببة إليها، لولا الخوف من يوم القيامة وما فيه من الشدائد والأهوال والعرض والحساب على رب العالمين، وهذه من أعظم صفات المؤمنين الصادقين، لأن تحقيق العبادة ورضي الله تعالى هو الغاية الكبرى والمقصد الأسمى، فما تكون الدنيا إلى جوار الآخرة!

كما قال جل ذكره في كتابه العزيز: ﴿ فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ ﴾[النور: 36 - 37]، قال أهل التفسير: خص الرجال بالذِّكر هنا في هذه المساجد، لأنه ليس على النساء جمعة ولا جماعة في المسجد.

وقال ابن كثير رحمه الله: وقوله تعالى: ﴿ رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ ﴾ فيه إشعار بهممهم السامية، ونياتهم وعزائمهم العالية، التي بها صاروا عمارًا للمساجد، التي هي بيوت الله في أرضه، ومواطن عبادته وشكره، وتوحيد وتنزيهه..


وقال عمرو بن دينار الأعور: كنت مع سالم بن عبد الله ونحن نريد المسجد فمررنا بسوق المدينة، وقد قاموا إلى الصلاة وخمروا متاعهم، فنظر سالم إلى أمتعتهم ليس فيها أحد، فتلا سالم هذه الآية، ثم قال: هم هؤلاء.
وقال الضحاك: لا تلهيهم التجارة والبيع أن يأتوا الصلاة في وقتها، وقال مطر الوراق: كانوا يبيعون ويشترون ولكن كان أحدهم إذا سمع النداء وميزانه بيده في يده: خفضه، وأقبل إلى الصلاة، وقال ابن عباس: ﴿لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ﴾، يقول: عن الصلاة المكتوبة؛ وقال السُّدي عن الصلاة في جماعة، وقال مقاتل بن حيان: لا يلهيهم ذلك عن حضور الصلاة وأن يقيموها كما أمرهم الله، وأن يحافظوا على مواقيتها، وما استحفظهم الله فيها[9].

الفضيلة التاسعة: أنَّ الذِّكر طمأنينةٌ للنفس، وراحةٌ للروح، وانشراحٌ للصدر، وزيادةٌ لرصيد الإيمان وحقيقته في القلب، وبه تزال الهموم والأحزان والأكدار، فهو جُنة للمؤمنين، وملاذ لقلوبهم، فلا تعصف بها الأهواء، ولا تزعزعها الفتن والابتلاءات مهما تكالبت وتكاثرت، لأن الطمأنينة سكنت قلوبهم، كما قال جَل ذِكره: ﴿ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ﴾ [الرعد: 28]، قال السعدي رحمه الله: "أي: يزول قلقها واضطرابها، وتحضرها أفراحها ولذاتها".

فنفوس الذَّاكرين تطمئن بإحساسها بالصلة باللّه، والأنس بجواره، والأمن في جانبه وفي حماه، تطمئن من قلق الوحدة، وحيرة الطريق، بإدراك الحكمة في الخلق والمبدأ والمصير، وتطمئن بالشعور بالحماية من كل اعتداءٍ ومن كل ضرٍ ومن كل شرٍ إلا بما يشاء، مع الرضى بالابتلاء والصبر على البلاء، وتطمئن برحمته في الهداية والرزق والستر في الدنيا والآخرة: ﴿ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ﴾ .

ذلك الاطمئنان بذكر اللّه في قلوب المؤمنين حقيقة عميقة يعرفها الذين خالطت بشاشة الإيمان قلوبهم، فاتصلت باللّه، يعرفونها ولا يملكون بالكلمات أن ينقلوها إلى الآخرين الذين لم يعرفوها، لأنها لا تنقل بالكلمات، إنما تسري في القلب فيستروحها، ويهش لها، ويندى بها، ويستريح إليها، ويستشعر الطمأنينة والسلام، ويحس أنه في هذا الوجود ليس مفردًا بلا أنيس، فكل ما حوله صديق، إذ كل ما حوله من صنع اللّه الذي هو في حماه.


وليس أشقى على وجه هذه الأرض ممن يحرمون طمأنينة الأنس إلى اللّه، ليس أشقى ممن ينطلق في هذه الأرض مبتوت الصلة بما حوله في الكون، لأنه انفصم من العروة الوثقى التي تربطه بما حوله في اللّه خالق الكون، ليس أشقى ممن يعيش لا يدري لِمَ جاء؟ ولِمَ يذهب؟ ولِمَ يعاني ما يعاني في الحياة؟ ليس أشقى ممن يسير في الأرض يوجس من كل شيء خيفة! لأنه لا يستشعر الصلة الخفية بينه وبين كل شيء في هذا الوجود، ليس أشقى في الحياة ممن يشق طريقه فريدًا وحيدًا شاردًا في فلاة، عليه أن يكافح وحده بلا ناصر ولا هاد ولا معين.

إن الشقاء ليس مجرد ألمٍ يقع على عضوٍ في جسد الإنسان بعينه، فيبحث له عن الدواء والعلاج! كلا، بل الشقاء هو ألم يعم جميع الجسد ويشمله! حتى لا يدري صاحبه ما به! وما هو ألمه! وأين موضع ذلك الألم! فتشقى جوارحه وتتألم وتخور، ويشقى قلبه، وعقله، وفكره، وتضطرب عليه أموره وشئونه! والله المستعان.
وإن هناك للحظات في الحياة لا يصمد لها بشر إلا أن يكون مرتكنًا إلى اللّه، مطمئنًا إلى حماه، مهما أوتي من القوة والثبات والصلابة والاعتداد، ففي الحياة لحظات تعصف بهذا كله، فلا يصمد لها إلا المطمئنون باللّه: ﴿ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ﴾، هؤلاء المنيبون إلى اللّه، المطمئنون بذكر اللّه، يحسن اللّه مآبهم عنده، كما أحسنوا الإنابة إليه، وكما أحسنوا العمل في الحياة: ﴿ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ طُوبى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ ﴾.

إن الذِّكر مصدر السكينة والاستقرار للنفس تجاه صروف الدنيا ومتاعبها، ففي حضارتنا المعاصرة كثُر الكتَّاب والمثقفون! وشاعت المعارف الذكية! وكثرت وسائل الترويح عن النفس المزعومة! ومع ذلك فإن اضطراب الأعصاب، وانتشار القلق والحيرة والكآبة والأمراض النفسية داء عام! وإذا فزع أمثال هؤلاء فإنما يفزعون إلى سرابٍ! فبعضهم يفزع إلى الأطباء والأدوية والمسكِّنات! وبعضهم يفزع إلى المسكرات والمخدِّرات! وبعضهم يفزع إلى الموت والانتحار! ليخفف عن نفسه بعض آلامها وأحزانها! وهيهات!

والسبب في هذا كله؟ هو خراب القلوب من الله تعالى! فإنها لا تذكره كي تتعلق به! أو تركن إليه! ..
وإن الحضارة الحديثة مقطوعة العلاقة بالله! بل وتقطع طريق الإنسان مع الله إلا قليلاً! والإنسان مهما قوي فهو ضعيف، ومهما عَلِم فهو قاصر، وهو لا يستغني عن ربه وخالقه طرفة عين، فكيف يغفل عن ذكره! وينسى نعمه!

قال ذو النون: ما طابتِ الدنيا إلا بذكره، ولا طابت الآخرةُ إلا بعفوه، ولا طابت الجنَّة إلاّ برؤيته.
وقال بعض العارفين: وإنه لتمر بي أوقاتٌ، أقول: إن كان أهل الجنة في مثل هذا، إنهم لفي عيشٍ طيب.
وقال آخر: مساكين أهل الدنيا خرجوا منها وما ذاقوا أطيب ما فيها؟ قيل: وما أطيب ما فيها؟ قال: محبة الله تعالى، ومعرفته، وذكره.

ولهذا يحدثنا الله في كتابه العزيز عن بعض الغافلين والملحدين، وأنهم لا يعرفون خالقهم! ولا يعبدونه! ولا يذكرونه إلا في الشدائد والملمات! فيقول سبحانه: ﴿ فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ ﴾ [العنكبوت: 65].
وقال تعالى: ﴿ وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلا إِيَّاهُ ﴾ [الإسراء: 67].

إن الصالحين من عباد الله إذا اشتدت عليهم الأزمات، وضاقت بهم الحيل، وأحاطت بهم الهموم والأحزان، وتكالبت عليهم الفتن والابتلاءات، فلهم مفزعٌ آخر، وملاذٌ آمن، إنه ذِكر الله، بالصلاة مرة، وتلاوة القرآن مرة، والاستغفار مرة، والدعاء مرة، فلا راحة لقلوبهم إلا بذكر الله، ولا مفزع لهم إلا الله، كما في الحديث عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ، قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: قَالَ مِسْعَرٌ أُرَاهُ مِنْ خُزَاعَةَ: لَيْتَنِي صَلَّيْتُ فَاسْتَرَحْتُ، فَكَأَنَّهُمْ عَابُوا عَلَيْهِ ذَلِكَ، فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «يَا بِلالُ أَقِمِ الصَّلاةَ أَرِحْنَا بِهَا» رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَصَحَّحَهُ الأَلْبَانِيّ.
وفي رواية أخرى عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ، قَالَ: انْطَلَقْتُ أَنَا وَأَبِي، إِلَى صِهْرٍ لَنَا مِنَ الأَنْصَارِ نَعُودُهُ فَحَضَرَتِ الصَّلاةُ فَقَالَ لِبَعْضِ أَهْلِهِ: يَا جَارِيَةُ ائْتُونِي بِوَضُوءٍ لَعَلِّي أُصَلِّي فَأَسْتَرِيحَ، قَالَ: فَأَنْكَرْنَا ذَلِكَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ: «قُمْ يَا بِلالُ فَأَرِحْنَا بِالصَّلاةِ».

وفي الحديث عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ مَسعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَا قَالَ عَبْدٌ قَطُّ، إِذَا أَصَابَهُ هَمٌّ أَوْ حُزْنٌ: اللَّهُمَّ إِنِّي عَبْدُكَ ابْنُ عَبْدِكَ ابْنُ أَمَتِكَ، نَاصِيَتِي بِيَدِكَ، مَاضٍ فِيَّ حُكْمُكَ، عَدْلٌ فِيَّ قَضَاؤُكَ، أَسْأَلُكَ بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَكَ، سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ، أَوْ أَنْزَلْتَهُ فِي كِتَابِكَ، أَوْ عَلَّمْتَهُ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ، أَوِ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَكَ، أَنْ تَجْعَلَ الْقُرْآنَ رَبِيعَ قَلْبِي، وَنُورَ بَصَرِي، وَجِلاءَ حُزْنِي، وَذَهَابَ هَمِّي، إِلا أَذْهَبَ اللَّهُ هَمَّهُ وَأَبْدَلَهُ مَكَانَ حُزْنِهِ فَرَحًا», قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ, يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَعَلَّمَ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ؟، قَالَ: «أَجَلْ، يَنْبَغِي لِمَنْ سَمِعَهُنَّ أَنْ يَتَعَلَّمَهُنَّ» رَوَاهُ ابْن حِبَّانَ وَأَحْمَدُ، وَصَحَّحَهُ الأَلْبَانِيّ.


وَعَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه أَنَّ مُكَاتَبًا جَاءَهُ فَقَالَ: إِنِّي قَدْ عَجَزْتُ عَنْ مُكَاتَبَتِي فَأَعِنِّي، قَالَ: أَلا أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ عَلَّمَنِيهِنَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَوْ كَانَ عَلَيْكَ مِثْلُ جَبَلِ صِيرٍ دَيْنًا أَدَّاهُ اللَّهُ عَنْكَ، قَالَ: «قُلْ: اللَّهُمَّ اكْفِنِي بِحَلالِكَ عَنْ حَرَامِكَ، وَأَغْنِنِي بِفَضْلِكَ عَمَّنْ سِوَاكَ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَحَسَّنَهُ الأَلْبَانِيّ.


وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «اللَّهُمَّ لا سَهْلَ إِلا مَا جَعَلْتَهُ سَهْلاً، وَأَنْتَ تَجْعَلُ الْحَزْنَ سَهْلاً إِذَا شِئْتَ» رَوَاهُ ابْن حِبَّانَ، وَصَحَّحَهُ الأَلْبَانِيّ.

الفضيلة العاشرة: أنَّ الذِّكر أنس مجالس الصالحين، ورياض المتَّقين، التي تَهدِي أرواحَهم، وتُسعِد قلوبهم، وتُهذِّب أخلاقهم وجوارحهم، إنها رياض فَيْحاء غنَّاء، تثمر لقلوبهم الرضا واليقين، والخشيةَ والإنابة، والخوفَ والرجاء، وتحمل أنفسَهم على الاستقامة والسَّداد، وتأخذها هناك بعيدًا إلى رحاب الأنس بالله سبحانه وبحمده، والشوقِ إلى لقائه، إنها رياض للنفوس المؤمنة تسرح فيها وتأنس، وتبني وتؤسس، إنها رياض الذكر والقرآن، رياض المساجد والعبادة، رياض العلم والتعلم، وما أعظَمَها وأكرمها وأجلَّها من رياض! حيث تغشاهم الرحمة، وتنزل السكينة، وتحفهم الملائكة، ويباهي الله بهم الملأ الأعلى في السموات، وأعلى من ذلك ذكر الله لهم، كما قال تعالى: ﴿ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ ﴾ [البقرة: 152]، وقال تعالى: ﴿ وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ﴾ [الكهف: 28]، وجاء في الحديث عَنْ الأَغَرِّ أَبِي مُسْلِمٍ، أَنَّهُ قَالَ: أَشْهَدُ عَلَى أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِي اللهُ عَنْهُمَا، أَنَّهُمَا شَهِدَا عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: «لا يَقْعُدُ قَوْمٌ يَذْكُرُونَ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ: إِلا حَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ، وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ، وَنَزَلَتْ عَلَيْهِمِ السَّكِينَةُ، وَذَكَرَهُمُ اللهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وروى مسلم في صحيحهِ أيضًا، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: خَرَجَ مُعَاوِيَةُ عَلَى حَلْقَةٍ فِي الْمَسْجِدِ، فَقَالَ: مَا أَجْلَسَكُمْ؟ قَالُوا: جَلَسْنَا نَذْكُرُ اللهَ، قَالَ آللَّهِ مَا أَجْلَسَكُمْ إِلا ذَاكَ؟ قَالُوا: وَاللهِ مَا أَجْلَسَنَا إِلا ذَاكَ، قَالَ: أَمَا إِنِّي لَمْ أَسْتَحْلِفْكُمْ تُهْمَةً لَكُمْ، وَمَا كَانَ أَحَدٌ بِمَنْزِلَتِي مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَقَلَّ عَنْهُ حَدِيثًا مِنِّي، وَإِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ عَلَى حَلْقَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَقَالَ: «مَا أَجْلَسَكُمْ؟».
قَالُوا: جَلَسْنَا نَذْكُرُ اللهَ وَنَحْمَدُهُ عَلَى مَا هَدَانَا لِلإِسْلامِ، وَمَنَّ بِهِ عَلَيْنَا، قَالَ: «آللَّهِ مَا أَجْلَسَكُمْ إِلا ذَاكَ؟» قَالُوا: وَاللهِ مَا أَجْلَسَنَا إِلا ذَاكَ، قَالَ: «أَمَا إِنِّي لَمْ أَسْتَحْلِفْكُمْ تُهْمَةً لَكُمْ، وَلَكِنَّهُ أَتَانِي جِبْرِيلُ فَأَخْبَرَنِي، أَنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ يُبَاهِي بِكُمُ الْمَلائِكَةَ».


وفيه أيضًا، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنَّ لِلَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى مَلائِكَةً سَيَّارَةً، فُضُلاً يَتَتَبَّعُونَ مَجَالِسَ الذِّكْرِ، فَإِذَا وَجَدُوا مَجْلِسًا فِيهِ ذِكْرٌ قَعَدُوا مَعَهُمْ، وَحَفَّ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِأَجْنِحَتِهِمْ، حَتَّى يَمْلَئُوا مَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَإِذَا تَفَرَّقُوا عَرَجُوا وَصَعِدُوا إِلَى السَّمَاءِ، قَالَ: فَيَسْأَلُهُمُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِهِمْ: مِنْ أَيْنَ جِئْتُمْ؟ فَيَقُولُونَ: جِئْنَا مِنْ عِنْدِ عِبَادٍ لَكَ فِي الأَرْضِ، يُسَبِّحُونَكَ وَيُكَبِّرُونَكَ وَيُهَلِّلُونَكَ وَيَحْمَدُونَكَ وَيَسْأَلُونَكَ، قَالَ: وَمَاذَا يَسْأَلُونِي؟ قَالُوا: يَسْأَلُونَكَ جَنَّتَكَ، قَالَ: وَهَلْ رَأَوْا جَنَّتِي؟ قَالُوا: لا، أَيْ رَبِّ قَالَ: فَكَيْفَ لَوْ رَأَوْا جَنَّتِي؟ قَالُوا: وَيَسْتَجِيرُونَكَ، قَالَ: وَمِمَّ يَسْتَجِيرُونَنِي؟ قَالُوا: مِنْ نَارِكَ يَا رَبِّ، قَالَ: وَهَلْ رَأَوْا نَارِي؟ قَالُوا: لا، قَالَ: فَكَيْفَ لَوْ رَأَوْا نَارِي؟ قَالُوا: وَيَسْتَغْفِرُونَكَ، قَالَ: فَيَقُولُ: قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ فَأَعْطَيْتُهُمْ مَا سَأَلُوا، وَأَجَرْتُهُمْ مِمَّا اسْتَجَارُوا، قَالَ: فَيَقُولُونَ: رَبِّ فِيهِمْ فُلانٌ عَبْدٌ خَطَّاءٌ، إِنَّمَا مَرَّ فَجَلَسَ مَعَهُمْ، قَالَ: فَيَقُولُ: وَلَهُ غَفَرْتُ هُمُ الْقَوْمُ لا يَشْقَى بِهِمْ جَلِيسُهُمْ».


وروي أن معاذ بن جبل رضي الله عنه لَمَّا حضرَتْه الوفاة قال: اللهم إنك تعلم أني لم أكن أحب الدنيا وطول البقاء فيها لجري الأنهار، ولا لغرس الأشجار، ولكن لظمأ الهواجر، ومكابدة الساعات، ومزاحمة العلماء بالرُّكب عند حَلَقِ الذكر.

تلك الحِلَق والمجالس التي تُذكِّرنا بالله تعالى، وتزيد في الإيمان، وتغمر القلوب بحبِّه وشكره، وذكر آلائِه ونِعَمه، وتغمرها بالسكينة النفسية والطُّمأنينة، والأنس وانشراح الصدر، وبَرْد اليقين، وتمام الثقة، وحسن التوكل، وصدق الافتقار والذل لله تعالى، والتعلق به دون ما سواه، فهو الذي أمدَّنا بالحياة وأسبابها، وبه العون على همومها وأوجاعِها، وشدائدها وتقلباتها؛ لأن الغافلين لا يذكرون ربَّهم، ولا يستعينون به، ولا يَقِفون على باب نَجواه وسؤاله، ولا يَعرفون ذلك إلا قليلًا، ولهذا فهم يتقلَّبون مع المصائب والشدائد، بين الجزع والهلع، ويطاردهم الخوف واليأس، ويغطي قلوبَهم الرانُ والقنوط؛ لأن صلتهم بخالقهم مقطوعة.

الفضيلة الحادية عشرة: أنَّ الذِّكر هو السلاح الأعظم للإنسان الذي يتغلب به على الشيطان ووساوسه ومكائده ومكره، كما قال الله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ ﴾ [الأعراف: 201]، وقال تعالى: ﴿ وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ [فصلت: 36]، وجاء في الحديث الطويل عَنِ الْحَارِثِ الأَشْعَرِيِّ رضي الله عنه أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ أَمَرَ يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ: أَنْ يَعْمَلَ بِهِنَّ، وَأَنْ يَأْمُرَ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يَعْمَلُوا بِهِنَّ»..
قَالَ: «وَأَمَرَكُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ كَثِيرًا، وَإِنَّ مَثَلَ ذَلِكَ كَمَثَلِ رَجُلٍ طَلَبَهُ الْعَدُوُّ سِرَاعًا فِي أَثَرِهِ، فَأَتَى حِصْنًا حَصِينًا، فَتَحَصَّنَ فِيهِ، وَإِنَّ الْعَبْدَ أَحْصَنَ مَا يَكُونُ مِنَ الشَّيْطَانِ إِذَا كَانَ فِي ذِكْرِ اللَّهِ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ الأَلْبَانِيّ.

وجاء في الحديث عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ صُرَدٍ رضي الله عنه قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَرَجُلاَنِ يَسْتَبَّانِ، فَأَحَدُهُمَا احْمَرَّ وَجْهُهُ، وَانْتَفَخَتْ أَوْدَاجُهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «إِنِّي لأَعْلَمُ كَلِمَةً لَوْ قَالَهَا ذَهَبَ عَنْهُ مَا يَجِدُ، لَوْ قَالَ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ، ذَهَبَ عَنْهُ مَا يَجِدُ»، فَقَالُوا لَهُ: إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: تَعَوَّذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ، فَقَالَ: وَهَلْ بِي جُنُونٌ!.
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
وروى مسلم في صحيحه من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لاَ تَجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ مَقَابِر، إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْفِرُ مِن الْبيْتِ الَّذي تُقْرأُ فِيهِ سُورةُ الْبقَرةِ».

وروينا في الصحيحين عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أيضًا، أَنَّ رسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قالَ: «يَعْقِدُ الشَّيْطَانُ عَلى قافِيةِ رَأْسِ أَحَدِكُم، إِذا هُوَ نَامَ، ثَلاثَ عُقدٍ، يَضرِب عَلى كلِّ عُقدَةٍ: عَلَيْكَ ليْلٌ طَويلٌ فَارقُدْ، فإِنْ اسْتَيْقظَ، فَذَكَرَ اللَّه تَعَالَى انحلَّت عُقْدَةٌ، فإِنْ توضَّأَ انحَلَّت عُقدَةٌ، فَإِن صلَّى انحَلَّت عُقدُهُ كُلُّهَا، فأَصبَحَ نشِيطاً طَيِّب النَّفسِ، وَإِلاَّ أَصبح خَبِيثَ النَّفْسِ كَسْلانَ».

قال ابْن القيم رحمه الله: وبالذِّكر يصرع العبد الشيطان، كما يصرع الشيطان أهل الغفلة والنسيان! قال بعض السلف: إذا تمكن الذِّكر من القلب فإن دنا منه الشيطان صرعه كما يصرع الإنسان إذا دنا منه الشيطان، فيجتمع عليه الشياطين! فيقولون: ما لهذا؟ فيقال: قد مسه الإنسي! وهو روح الأعمال الصالحة، فإذا خلا العمل عن الذِّكر! كان كالجسد الذي لا روح فيه[10].

الفضيلة الثانية عشرة: أنَّ الذِّكر من أعظم أسباب المغفرة للذنوب والسيئات والمعاصي التي يقترفها العبد في الليل والنهار، كما قال تعالى: ﴿ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 35]، وقال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ ﴾ [آل عمران: 135-136]، وثبت في صحيح البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ، فِي يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ، حُطَّتْ خَطَايَاهُ، وَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ البَحْرِ».
وَعَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رضي الله عنه قَالَ: كُنَّا عِنْد رسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فقَالَ: «أَيعجِزُ أَحدُكم أنْ يكْسِبَ في كلِّ يوْمٍ أَلف حَسنَة»، فَسَأَلَهُ سائِلٌ مِنْ جُلَسائِهِ: كيفَ يكسِبُ أَلفَ حَسنَةٍ؟ قالَ: «يُسَبِّحُ مِائةَ تَسْبِيحة، فَيُكتَبُ لهُ أَلفُ حسَنَةٍ، أوْ يُحَطُّ عنْهُ ألفُ خَطِيئَةٍ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

الفضيلة الثالثة عشرة: أنَّ الذِّكر باب الأمن من حر الشمس وشدائد الأهوال يوم القيامة، فصاحبه في ظل عرش الرحمن مع أولياء الله وعباده الصالحين، كما في الحديث الثابت في الصحيحين عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّه في ظِلِّهِ يومَ لاَ ظِلَّ إلاَّ ظِلُّهُ: إمَامٌ عادِلٌ، وشَابٌّ نَشَأَ في عِبادَةِ اللَّهِ تَعالى، ورَجُلٌ مُعَلَّقٌ قَلبُهُ في المَسَاجِدِ، ورجُلانِ تَحَابَّا في اللَّه، اجتَمعَا عليهِ، وتَفرَّقَا علَيهِ، ورجُلٌ دعَتهُ امرَأَةٌ ذَاتُ مَنصِب وجمَالٍ، فقَال: إنِّى أَخَافُ اللَّه، ورَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصدقةٍ، فَأَخْفَاها حَتَّى لاَ تَعلَمَ شِمالُهُ مَا تُنفِقُ يميِنُهُ، ورَجُلٌ ذَكَر اللَّه خَالِياً فَفَاضَتْ عينَاهُ».

الفضيلة الرابعة عشرة: أنَّ الذِّكر نجاة لصاحبه ووقاية من عذاب النار وجحيمها في الدار الآخرة، كما جاء في حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «خُذُوا جُنَّتَكُمْ» قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، أَمِنْ عَدُوٍّ قَدْ حَضَرَ؟ قَالَ: «لا، وَلَكِنْ جُنَّتُكُمْ مِنَ النَّارِ قَوْلُ: سُبْحَانَ اللهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلا إِلَهَ إِلا اللهُ، وَاللهُ أَكْبَرُ، فَإِنَّهُنَّ يَأْتِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُجَنِّبَاتٍ وَمُعَقِّبَاتٍ، وَهُنَّ الْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ» رَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَصَحَّحَهُ الأَلْبَانِيّ.

وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنَّهُ خُلِقَ كُلُّ إِنْسَانٍ مِنْ بَنِي آدَمَ عَلَى سِتِّينَ وَثَلاثِمِائَةِ مَفْصِلٍ، فَمَنْ كَبَّرَ اللهَ، وَحَمِدَ اللهَ، وَهَلَّلَ اللهَ، وَسَبَّحَ اللهَ، وَاسْتَغْفَرَ اللهَ، وَعَزَلَ حَجَرًا عَنْ طَرِيقِ النَّاسِ، أَوْ شَوْكَةً أَوْ عَظْمًا عَنْ طَرِيقِ النَّاسِ، وَأَمَرَ بِمَعْرُوفٍ أَوْ نَهَى عَنْ مُنْكَرٍ، عَدَدَ تِلْكَ السِّتِّينَ وَالثَّلاثِمِائَةِ السُّلامَى، فَإِنَّهُ يَمْشِي يَوْمَئِذٍ وَقَدْ زَحْزَحَ نَفْسَهُ عَنِ النَّارِ» قَالَ أَبُو تَوْبَةَ: وَرُبَّمَا قَالَ: «يُمْسِي» رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

الفضيلة الخامسة عشرة: أنَّ الذِّكر فردوس الدنيا وجنتها، وهو أيسر الطرق وأقربها إلى فردوس الآخرة ونعيمها، فهو غراس الجنة، وكنز عظيم من كنوزها كما في حديث ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَقِيتُ إِبْرَاهِيمَ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، أَقْرِئْ أُمَّتَكَ مِنِّي السَّلامَ وَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ الجَنَّةَ طَيِّبَةُ التُّرْبَةِ، عَذْبَةُ المَاءِ، وَأَنَّهَا قِيعَانٌ، وَأَنَّ غِرَاسَهَا سُبْحَانَ اللَّهِ، وَالحَمْدُ لِلَّهِ، وَلا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَحَسَّنَهُ الأَلْبَانِيّ.
وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ العَظِيمِ وَبِحَمْدِهِ، غُرِسَتْ لَهُ نَخْلَةٌ فِي الجَنَّةِ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ الأَلْبَانِيّ.

وروى مسلم في صحيحه عَنْ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي سَفَرٍ، فَجَعَلَ النَّاسُ يَجْهَرُونَ بِالتَّكْبِيرِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «أَيُّهَا النَّاسُ ارْبَعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ، إِنَّكُمْ لَيْسَ تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلا غَائِبًا، إِنَّكُمْ تَدْعُونَ سَمِيعًا قَرِيبًا، وَهُوَ مَعَكُمْ»، قَالَ وَأَنَا خَلْفَهُ، وَأَنَا أَقُولُ: لا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلا بِاللهِ، فَقَالَ يَا عَبْدَ اللهِ بْنَ قَيْسٍ: «أَلا أَدُلُّكَ عَلَى كَنْزٍ مِنْ كُنُوزِ الْجَنَّةِ»؟، فَقُلْتُ: بَلَى، يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: «قُلْ: لا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلا بِاللهِ».

الفضيلة السادسة عشرة: أنَّ الذِّكر من أعظم أسباب السعادة والفوز والفلاح ورفع الدرجات في الدنيا والآخرة، كما قال الله تعالى: ﴿ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [الجمعة: 10]، وفي الحديث عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «يُقَالُ لِصاحبِ الْقُرَآنِ: اقْرأْ وَارْتَقِ وَرَتِّلْ كَما كُنْتَ تُرَتِّلُ في الدُّنْيَا، فَإنَّ منْزِلَتَكَ عِنْد آخِرِ آيةٍ تَقْرَؤُهَا» رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ الأَلْبَانِيّ.
وروى أحمدُ في مسنده بإسنادٍ حسنٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: «تَعَلَّمُوا سُورَةَ الْبَقَرَةِ؛ فَإِنَّ أَخْذَهَا بَرَكَةٌ، وَتَرْكَهَا حَسْرَةٌ، وَلا يَسْتَطِيعُهَا الْبَطَلَةُ».
قَالَ: ثُمَّ سَكَتَ سَاعَةً، ثُمَّ قَالَ: «تَعَلَّمُوا سُورَةَ الْبَقَرَةِ، وَآلِ عِمْرَانَ؛ فَإِنَّهُمَا الزَّهْرَاوَانِ يُظِلانِ صَاحِبَهُمَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَأَنَّهُمَا غَمَامَتَانِ أَوْ غَيَايَتَانِ أَوْ فِرْقَانِ مِنْ طَيْرٍ صَوَافَّ، وَإِنَّ الْقُرْآنَ يَلْقَى صَاحِبَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِينَ يَنْشَقُّ عَنْهُ قَبْرُهُ كَالرَّجُلِ الشَّاحِبِ.
فَيَقُولُ لَهُ: هَلْ تَعْرِفُنِي؟ فَيَقُولُ: مَا أَعْرِفُكَ فَيَقُولُ: أَنَا صَاحِبُكَ الْقُرْآنُ الَّذِي أَظْمَأْتُكَ فِي الْهَوَاجِرِ وَأَسْهَرْتُ لَيْلَكَ، وَإِنَّ كُلَّ تَاجِرٍ مِنْ وَرَاءِ تِجَارَتِهِ، وَإِنَّكَ الْيَوْمَ مِنْ وَرَاءِ كُلِّ تِجَارَةٍ فَيُعْطَى الْمُلْكَ بِيَمِينِهِ، وَالْخُلْدَ بِشِمَالِهِ، وَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ تَاجُ الْوَقَارِ، وَيُكْسَى وَالِدَاهُ حُلَّتَيْنِ لا يُقَوَّمُ لَهُمَا أَهْلُ الدُّنْيَا فَيَقُولانِ: بِمَ كُسِينَا هَذَا؟ فَيُقَالُ: بِأَخْذِ وَلَدِكُمَا الْقُرْآنَ.
ثُمَّ يُقَالُ لَهُ: اقْرَأْ وَاصْعَدْ فِي دَرَجِ الْجَنَّةِ وَغُرَفِهَا، فَهُوَ فِي صُعُودٍ مَا دَامَ يَقْرَأُ، هَذًّا كَانَ، أَوْ تَرْتِيلاً»
.





[1] الذكر والنسيان في القرآن د.
السيد رزق الطويل، وانظر مجلة البحوث الإسلامية (ع/13)، بتصرف يسير.

[2] تفسير القرآن العظيم، للحافظ ابن كثير الدمشقي.

[3] زاد المعاد، لابن القيم.

[4] مدارج السالكين، لابن قيم الجوزية.

[5] الأذكار، للإمام النووي.

[6] جامع العلوم والحكم، للحافظ ابن رجب الحنبلي.

[7] وهذا من كثرة ذكره لله تعالى في اليقظة لأن النائم لا حرج عليه، وإلا فإن الأصل أنه لا يجوز ذكر الله تعالى بالاسم العلم المفرد، فيقول القائل: الله! الله! الله! فإن هذا مخالف لجميع السنن والآثار الواردة كما بينا في كتابنا هذا، التي تبين لنا كيفية ذكر الله تعالى، كأن يقول: سبحان الله، الحمد لله، الله أكبر، أو سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم، أو لا إله إلا الله، أو لا حول ولا قوة إلا بالله، فإن هذا هو المروي الثابت المأثور، والله أعلم.

[8] نونية القحطاني، لعبد الله بن محمد الأندلسي القحطاني.

[9] تفسير القرآن العظيم، للحافظ ابن كثير الدمشقي.

[10] مدراج السالكين، لابن قيم الجوزية.

شارك الخبر

مشكاة أسفل ٢