قل هذه سبيلى - إيمان الخولي
مدة
قراءة المادة :
34 دقائق
.
قل هذه سبيلى :
إن الدعاة وأصحاب الرسالات لابد لهم من صفات تؤهلهم ليكونوا ورثة الأنبياء وقدوة لغيرهم يحملون هم الدعوة ويعيشون من أجلها والسعادة تملأ قلوبهم بل ويموتون من أجلها لسان حالهم ينطق "قل هذه سبيلى "
اليقين :
اليقين هو المحرك الأول للداعية وهو روح الإيمان ودعوة بلا يقين كيف تؤتى ثمارها فكيف يصبر الداعية على البلاء وطول الطريق بدون ثقة فى نصر الله مهما طال الطريق ومهما تكالبت الأعداء وأنفقوا أموالهم لصدِّ الناس عن الدعوة، فإنَّ الله وعَد أولياءَه بنصره وليعلم أن شرف الإمامة فى الدين لا ينال إلا بالصبر واليقين قال تعالى: {{وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ}} [السجدة: 24]. وأنه سبب باعث للإقبال على العمل الصالح وأهم موانع اليأس والإحباط
يقول عنه ابن القيم "اليقين
مِنَ الْإِيمَانِ مَنْزِلَةُ الرُّوحِ مِنَ الْجَسَدِ.
وَبِهِ تَفَاضَلَ الْعَارِفُونَ.
وَفِيهِ تَنَافَسَ الْمُتَنَافِسُونَ.
وَإِلَيْهِ شَمَّرَ الْعَامِلُونَ.
وَعَمَلُ الْقَوْمِ إِنَّمَا كَانَ عَلَيْهِ.
وَإِشَارَاتُهُمْ كُلُّهَا إِلَيْهِ.
وَمَتَّى وَصَلَ الْيَقِينُ إِلَى الْقَلْبِ امْتَلَأَ نُورًا وَإِشْرَاقًا.
وَانْتَفَى عَنْهُ كُلُّ رَيْبٍ وَشَكٍّ وَسَخَطٍ، وَهَمٍّ وَغَمٍّ.
فَامْتَلَأَ مَحَبَّةً لِلَّهِ.
وَخَوْفًا مِنْهُ وَرِضًا بِهِ، وَشْكْرًا لَهُ، وَتَوَكُّلًا عَلَيْهِ، وَإِنَابَةً إِلَيْهِ.
فَهُوَ مَادَّةُ جَمِيعِ الْمَقَامَاتِ وَالْحَامِلُ لَهَا.
وقد بينت الآيات أن القرآن هداية لمن هم من أهل اليقين إذ َ يقول : { {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}} .
ودعا المؤمنين للتفكر فى خلق الله ليزدادوا إيمانا ويقينا إذ يقول تعالى :"وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِن دَابَّةٍ آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ " { {وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ}} .
و اليقين هوالباعث للداعية لبث روح الأمل والتفاؤل فى الناس فى أشد الظروف وأصعب اللحظات ولنا فى رسول الله القدوة والأسوة الحسنة فقد كان يبشر أصحابه فى أحلك اللحظات وقد تحزب عليهم ا أعداء الاسلام فى غزوة الاحزاب وإذا به يضرب بمعوله فيقول الله أكبر فتحت فارس ثم يضرب مرة أخرى فيقول الله أاكبر فتحت الروم وهم فى لحظات صعبة يتمنوا فقط زوال الخطر من حولهم والخروج من الخندق فإذا به يبشرهم بانتشار الاسلام ما هو أبعد من تصوراتهم وهو القائل فى الحديث قال -صلى الله عليه وسلم-: «إِن الله زوى لي الأَرْض، فَرَأَيْت مشارقها وَمَغَارِبهَا، وَإِن أمتِي سيبلغ ملكهَا مَا زوي لي مِنْهَا»
وهو القائل لصاحبه وهما فى الغار وقد أحاطت بهم الأخطار ” «ما ظنك باثنين الله ثالثهما , لا تحزن إن الله معنا » "
وهذا هو يعقوب عليه السلام يفقد ابنه سنوات طويلة ولكنه لم يفقد الأمل واليقين فى الله أنه على قيد الحياة وأنه سيلتقى به يوما ما لدرجة أنه هو الذى كا ن يبث الأمل فى أبناءه إذ يقول {يَا بَنِيَّ اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} (يوسف : 87 ) برغم مرور سنوات طويلة يقال أربعين سنة وكانت كفيلة أن تنسيه يوسف ويفقد الأمل ولكن المؤمن دائم الصلة بالله كثير اللجوء إليه لا يشكو إلا له فيثبته ويقذف فى قلبه اليقين فى الفرج مهما طال الوقت فتراه عندما اشتم ريح يوسف يقول لهم قَالَ" «أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ» "
ويرتد إليه بصره بعد ما فقده سنوات طويلة هكذا المؤمن قد يحزن ولكنه لا ييأس من رحمة الله وهل جزاء الاحسان إلا الاحسان كما أحسن الظن بالله احسن الله إليه فيرد إليه ابنه وبصره فى يوم واحد
وهذا هو موسى عليه السلام نبى الله من أولى العزم من الرسل يخرج ببنى إسرائيل من مصر فإذا بفرعون يتبعهم ويجد موسى عليه السلام نفسه والبحر من أمامه والعدو من خلفه لكن اليقين فى قلبه أن الله معه ولن يضيعه وأنه يبلغ رسالة ربه إذا به يقول لاتباعه قَالَ "كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ " فيكون على ثقة أن الله مؤيده ولما لا فقد رباه ربه سنوات طويلة ليقف أمام فرعون مصر فحين ألقى عصاه أول مره فوجدها وقد تحولت ثعبانا كبيرا فر هارباً ولم يفكر أن ينظر خلفه تلك العصاه التى ضرب بها الحجر فانفجرت منه العيون كل ذلك راه أمام عينه وفى كل مرة يضعه المولى عزوجل فى اختبار يطمئنه انه معه يسمع ويرى ما يحدث ليعلم الداعية أنه لابد أن يمتلك يقينا خالصا لله حتى يبثه فى المدعوين وأنه كلما زاد الإيمان زاد اليقين وزاد العمل لله وبالتالى يثق فى نصر الله مهما طال الطريق وتكالبت الأعداء
ومن الوسائل التى تزيد اليقين التفكر في آيات الله الكونية ، في السماوات والنجوم والكواكب ، والأرض وما فيها ، الذى بدوره يزيد من المعرفة بالله واليقين به الذى بدوره يدفع إلى العمل يقول الله تعالى : " {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ} " (الرعد: 2) ويقول سبحانه : " {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنْ الْمُوقِنِينَ } " (الأنعام: 75) .
من الوسائل أيضا لتقوية اليقين الدعاء اسأل الله أن يرزقك اليقين وكان من دعائه صلى الله عليه وسلم : «اللهم اقسم لنا من خشيتك ما يحول بيننا وبين معاصيك ، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا ...
» (أخرجه الترمذي في سننه، وصحح الألباني في صحيح الجامع) .
ومن الوسائل أيضا تزكية النفس دائما وتخليصها من حظوظها فيطهر القلب ويزداد إيمانه حتى يبلغ مرتبة اليقين
الوقوف على هدى الأنبياء والسير على نهجهم
وليعلم أن ما يُصيبُ الدعاةَ مِن شدة فهو من قبيل الابتلاء والامتحان، ومهما طال الطريق فسنة الله ماضية بأن العاقبة والاستخلاف للمؤمنين، {﴿ فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾} [هود: 17].
وليعلم أن موجات التشكيك فى أصول الدين وإلقاء الشبهات والسعى لبلبة الناس إنما هو أثر ضعف اليقين بالله فما أَحوجَ الداعية لليقين:
الحكمة
(الحِكْمَة: فعل ما ينبغي، على الوجه الذي ينبغي، في الوقت الذي ينبغي) . ابن القيِّم:
وهي هبة من الله تعالى، يهبها لمن يشاء من عباده، ، وفضل عظيم يمنحه لمن أراد كما قال تعالى { ﴿ يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾} [2].
وفى تفسير الطبرى لقوله تعالى :" {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} "يؤتي الله الإصابة في القول والفعل من يشاء من عباده، ومن يؤت الإصابة في ذلك منهم، فقد أوتي خيرا كثيرا.
وبالنسبة للداعية هى معرفة واجبات الوقت وفقه الاولويات ونفاذ البصيرة واحقاق الحق والعمل به والموازنة بين المصالح والمفاسد
قال تعالى: {﴿ ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾} [النحل: 125]،
يقول البقاعى فى معنى الحكمة وهي المُعَرِّفَةُ بِمَراتِبِ الأفْعالِ في الحُسْنِ؛ والقُبْحِ؛ والصَّلاحِ؛ والفَسادِ؛ وقِيلَ لَها ”حِكْمَةٌ“؛ لِأنَّها بِمَنزِلَةِ المانِعِ مِنَ الفَسادِ؛ وما لا يَنْبَغِي أنْ يُخْتارَ؛ فالحَكِيمُ هو العالِمُ بِما يَمْنَعُ مِنَ الفَسادِ؛
؛إن الداعية يتعامل مع أطياف مختلفة من الناس منهم المتعلم ومنهم الجاهل ومنهم الحاد الطباع ومنهم سريع الغضب ومنهم الشباب ومنهم كبار السن فعليه أن يختار الأسلوب والكلمات التى تناسب كل عقلية فإن النبى صلى الله عليه وسلم قد أمرنا أن نخاطب الناس على قدر عقولهم حتى لا يكون سبب فى فتنة الناس وبعدهم عن الدين بأسلوبه وحتى ينجح فى تبليغ رسالته
وعليه أن يستفيد من السيرة النبوية ومواقف النبى مع الناس باختلاف خلفياتهم إذ كيف يتعامل مع الشاب الذى جاءه يستأذنه فى الزنا لم يقل له كيف تقول هذا لنبيك اذهب عليك اللعنة مثلا ولم يغضب عليه ولكن تأمل كيف نصحه وحدثه بما يفهمه
عن أبي أُمامة أن فتى من قريش أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: « يا رسول الله، إئذن لي في الزنا، فأقبل القوم عليه وزجَروه، فقالوا: مَه، مَه، فقال: اُدْنه، فدنا منه قريبًا، فقال: أتحبه لأُمك، قال: لا والله، جعَلني الله فداك، قال: ولا الناس يحبونه لأُمهاتهم، قال: أفتحبه لابنتك، قال: لا والله يا رسول الله، جعلني الله فداك، قال: ولا الناس يحبونه لبناتهم، قال: أفتحبه لأختك، قال: لا والله يا رسول الله، جعلني الله فداك، قال: ولا الناس يحبونه لأخوَاتهم، قال: أتحبه لعمَّتك، قال: لا والله يا رسول الله، جعلني الله فداك، قال: ولا الناس يحبونه لعمَّاتهم، قال: أتحبه لخالتك، قال: لا والله يا رسول الله، جعلني الله فداك، قال: ولا الناس يحبونه لخالاتهم، قال: فوضع يده عليه، وقال: اللهمَّ اغفِر ذنبه، وطهِّر قلبه، وحصِّن فرْجَه، قال: فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء» ؛ [رواه أحمد والطبراني في الكبير، ورجاله رجال الصحيح] .
وموقف الذى بال فى المسجد لم ينهرهه أو يلعنه إنما بين له أداب دخول المسجد وحرمتها
ورد في الصحيحين ««أن رجلًا أعرابيًا دخل المسجد فبال في طائفة المسجد فزجره الناس، فقال النبي ﷺ: لا تزرموه» ورواه أيضًا البخاري من حديث أبي هريرة عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: لما هموا به قال: لا تزرموه، ونهاهم أن يتعرضوه وقال: إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين، فلما فرغ الأعرابي من بوله أمر النبي ﷺ أن يصب على بوله سجل من ماء يعني: دلو من ماء واكتفى بذلك».وهذا درس لكل داعية ألا يعنف الناس وخاصا الجاهل منهم
ويتشرب الداعية الحكمة من مجالسة أهل الصلاح وأهل الحكمة والعمل بتوصياتهم ؛ ليزداد بصيرة بالعواقب فهذا لقمان الحكيم ينصح ابنه (يا بُنَيَّ، جالس العلماء وزاحمهم بركبتيك؛ فإنَّ الله يحيي القلوب بنور الحِكْمَة، كما يحيي الأرض الميِّتة بوابل السَّماء).وكثرة التجارب تعطى الداعية خبرة يستفيد بها فى مدرسة الحياة
ومن الوسائل اكتساب الحكمة أن يكثر من الدعاء أن يرزقه الله الحكمة ونور البصيرة ومما يورث البصيرة أن يكون الداعية مركزيته الآخرة ويعمل على تزكية قلبه من حب الدنيا والتعلق بها فإذا خرجت التعلق بزينه الدنيا من القلب ملىء بالحكمة وعدم اتباع الأهواء طريق لاكتساب الحكمة كما قال ابن الجوزي: (لكلِّ باب مفتاح، ومفتاح الحِكْمَة: طرد الهوى).
ومن أراد الله به خيرا فقهه فى الدين وجعله يعمل بما يعلم واستمع لوصية لقمان لاستجلاب الحكمة
سئل لقمان عن الحكمة قيل له أنَّى أُوتي الحِكْمَة؟ قال: «بشيئين: لا أتكلَّف ما كُفِيت، ولا أضيِّع ما كُلِّفت”.
ومن ثمرات الحكمة حسن الموازنة بين المصالح والمفاسد وتجنب ردة الفعل الغير محسوبة ووزن الأمور بموازين الشرع فى كل أمور الحياة ومعرفة بفقه الواقع وحسن استخدام ما أوتى من علم
الرحمة
إن خلق الرحمة من أهم الأخلاق التى يجب أن يتحلى بها الداعية ف يرحم ضعف الناس ويلين لهم فقد خلق الله تعالى البشر ضعفا ء وكتب على نفسه الرحمة إذ يقول تعالى :" كتب ربكم على نفسه الرحمة " ولأن الإسلام رسالة رحمة للعالمين وقد بعث الله النبى صلى الله عليه وسلم رحمة للخلق أجمعين تأمل رحمته بالطفل واشفاقه على أمه
فعن قتادة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « «إني لأقوم في الصلاة أريد أن أطول فيها، فاسمع بكاء الصبي فأتجوز في صلاتي كراهية أن أشق على أمه» » ( سنن أبي داود [4942]).
وقد آذاه قومه وحاربوا دعوته فيأتيه ملك الجبال فيقول له إنْ شِئْتَ أنْ أُطْبِقَ عليهمُ الأخْشَبَيْنِ، فقالَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «بَلْ أرْجُو أنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِن أصْلابِهِمْ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ وحْدَهُ لا يُشْرِكُ به شيئًا»
فعلى الداعية أن يتخذ من نبى الرحمة القدوة الحسنة فلا يشق على الناس بما لا يستطيعون ويراعى الفروق بين الناس و أن لا ينظر إليهم نظر تعالى وترفع وإذا جاءه عاصى لا يعنفه ويتذكر قول الله تعالى :" كَذَٰلِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ " ويتذكر أن رسالته تنطلق من منطلق الخوف على الناس فيعمل بكل جهده للحيلولة بينهم وبين أن يلقوا فى النار
قال تعالى: {{فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ}} [آل عمران:159].
أ
هذه الآيه جاءت فى سياق غزوة أحد بعد أن اضطربت صفوف المؤمنين وخالفوا أمر نبيهم وضعفوا أمام إغراء الغنيمة ووهنوا أمام إشاعة مقتله، فانقلبوا مهزومين وتركوه وحده يواجه العدومثخن بجراحه فكان من المفترض أن يكون رد الفعل التوبيخ على ما فعلوه ولكنه جاء الأمر من الله أن يلين لهم ويرحم ضعفهم بل ويعفو ويغفر لهم ما حدث برغم فداحته
و يصف سيد قطب الموقف فيقول " الناس في حاجة إلى كنف رحيم، وإلى رعاية فائقة، وإلى بشاشة سمحة، وإلى ود يسعهم، وحلم لا يضيق بجهلهم وضعفهم ونقصهم..
في حاجة إلى قلب كبير يعطيهم ولا يحتاج منهم إلى عطاء; ويحمل همومهم ولا يعنيهم بهمه; ويجدون عنده دائما الاهتمام والرعاية والعطف والسماحة والود والرضاء..
وهكذا كان قلب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهكذا كانت حياته مع الناس.
ما غضب لنفسه قط.
ولا ضاق صدره بضعفهم البشري.
ولا احتجز لنفسه شيئا من أعراض هذه الحياة، بل أعطاهم كل ما ملكت يداه في سماحة ندية.
ووسعهم حلمه وبره وعطفه ووده الكريم.
وما من واحد منهم عاشره أو رآه إلا امتلأ قلبه بحبه; نتيجة لما أفاض عليه - صلى الله عليه وسلم - من نفسه الكبيرة الرحيبة."
فما كان منهم الا أن اعترفوا بخطائهم وتابوا إلى الله فتوالت الفتوحات بعد ذلك وفتح التراحم بينهم أبواب الخير
وليتذكر الداعية انه من لا يرحم لا يُرحم ومن منا لا يحتاج إلى رحمة الله فعليه أن يرحم زلات الناس وتقصيرهم ويعينهم على التوبة والرجوع الى الله ولنتذكر من قتل تسعة وتسعين نفسا ثم ذهب إلى العابد فقال له ليس لك توبة وقنته من رحمة الله فقتله أرأيت أن القسوة تفسد ولا تصلح فكم من داعية كان سبباً فى نفور الشباب من الدين لأنه لم يقدم لهم القدوة الطيبة ولم يرحم سنهم ويتفهم متطلبات العصر
وخلق الرحمة أولى أن يتخلق به الذين يعملون فى الحقل الدعوى والتى من متطلباتها أن يكظم غيظه ويقدم شيئا من التنازل لأخية ورفيق دربه فى الدعوة يرقى فيه عن التمسك بحظ النفس ويعلم أن التراحم بين العاملين فى الصف يجعلهم قدوة لغيرهم وأنه من شروط الإيمان إذ يقول تعالى :" {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا} ......"
ولكى يتخلق بهذا الخلق
فعليه تدبر سيرة النبى صلى الله عليه وسلم والتأسى به فى مواقف الرحمة ومجالسة الضعفاء والمساكين فإنه يرقق القلب ويكسبه الرحمة ويعلم أن النبى صلى الله عليه وسلم جاء رحمة للعالمين و أنه يحتاج إلى رحمة الله فى كل وقت ويطلب الإعانة من الله أن يلين قلبه ويرزقه الرحمة التى تفتح مغاليق القلوب
الصدق :
يفهم البعض أن الصدق هو صدق الحديث فقط يعنى ألا يكذب وهذا نربأ به أن يكون هناك داعية يكذب فى الحديث ولكن هناك بعض الدعاة من يستخدم التورية ويتوسع فيها بأن يقول كلاماً يفهم على غير مقصده ثم يكتشفون ذلك فيساء فهمه ويتهمونه بالكذب ويثير حوله الشبهات فترى الناس تتهم جماعة كاملة بالكذب لأن فرد فيها أفرط فى التورية ,وقد يتساهل فى بعض الأمور ويتسامح فى بعض الكذب بحجة أنه للمصلحة العامة فعليه أن ينتبه لذلك ف الصدق الذى نعنيه له معنى أشمل من ذلك إنه الصدق مع الله
وقد ذكر الصدق فى القرآن مقابلاً للنفاق “ {ليجزي الله الصادقين بصدقهم، ويعذب المنافقين إن شاء أو يتوب عليهم} ” ( سورة الأحزاب/ الآية 24). فيكون تدين الداعية مبنى على الصدق مع الله واستواء الظاهر والباطن والذى بينته الآيات فى أناس اختبر الله صدقهم ومدى موافقة العمل للقول
إذ يقول تعالى { (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً)} [الأحزاب: 23].
هناك رجال يقيسون الدنيا بمقياس الآخرة الفوز عندهم هو الفوز برضا الله والجنة
تأمل هذا المشهد فى غزوة خيبر بعد أن غنم المسلمون غنائم كثيرة وقسمها بينهم رسول الله صلى الله عليه وسلم
"......،فأعطى أصحابَه ما قَسَمَ له،وكان يرعى ظهرهم فلما جاء دفعوه إليه،فقال:ما هذا؟قالوا:قِسْمٌ قَسَمَهُ لك النبي صلى الله عليه وسلم،فأخذه فجاء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم،فقال:ما هذا؟ قال:"قسمته لك"،قال:ما على هذا اتَّبَعْتُكَ!،ولكني اتَّبَعْتُكَ على أن أُرْمَى إلى ها هنا،وأشار إلى حَلْقِهِ بِسَهْمٍ،فَأَمُوتَ فَأَدْخُلَ الْجَنَّةَ،فقال:"إن تَصْدُقْ اللَّهَ يَصْدُقْكَ"،فَلَبِثُوا قليلا ثم نَهَضُوا في قتال العدو،فأتي به النبي صلى الله عليه وسلم يُحْمَلُ قد أَصَابَهُ سَهْمٌ حيث أشار،فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"أَهُوَ هو ؟"قالوا:نعم قال:"صَدَقَ اللَّهَ فَصَدَقَهُ" فقد برهن على مدى إيمانه وصدقه مع الله فكل يدلل على ايمانه فما دليل ايمانك أيها الداعية ؟ .....
لابد من اختبار لهذا الايمان ولهذا ارتبط الصدق بالجهاد فى أكثر من موضع فى القرآن لان الجهاد هو التصديق الفعلى للإدعاء القولى فلابد للداعية أن يختبر فقد يتعرض لأنواع من الإيذاء هل يتحمله فى الله بصدق أم يرحل ويترك ساحة الدعوة لمجرد أن يسمع من يفترى عليه بالقول أو يقذفه بالباطل
قال تعالى: {﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ﴾} [التوبة: 119
إن الصدق فى حمل الدعوة للناس هو الذى يجعلها تلقى قبول عند الناس وما خرج من القلب يدخل القلب وذكر عن بعض الوعاظ أنه كان إذا تكلم أبكى الناس، حتى تختلط الأصوات ويعلو النحيب، وقد يتكلم غيره من هو اكثر منه علما فلا يحرك ساكنا عند الناس
فسأله ابنه يوماً عن هذا، فقال: يا بني لا تستوي النائحة الثكلى والنائحة المستأجرة! فليس المهم الكلمات المعسولة ولكن العبرة بصدق القلب يا ليت كل داعية يدرك ذلك أنه ليس بكثرة العلم الشرعى ولا العلاقات الإجتماعية
وإذا تأملنا فى سيرة النبى صلى الله عليه وسلم نجد أنه اشتهر قبل الدعوة بالصادق الأمين فهل هناك من الدعاة من كانت الصدق سمة فيه إذا راه الناس قالوا هذه ليست بوجوه كذابين!
وقد مدح الله تعالى صفة الصدق فى الأنبياء عليهم السلام ؛ فقال تعالى: {﴿ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا ﴾ } [ مريم : 54]، وقال: { ﴿ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا ﴾} [مريم: 41].
والصديقية أعلى المراتب بعد النبوة قال ابن القيم رحمه الله: "أعلى مراتبِ الصِّدْقِ: مرتبةُ الصِّدِّيقِيَّةِ، وهي كَمالُ الانقِيادِ للرسول صلى الله عليه وسلم مع كَمالِ الإخلاص ِ لِلْمُرْسِلِ"، فمن اتَّبع الصدِّيقِين على ما هم عليه من الصِّدْق والتصديق، والتقوى والصلاح: كان منهم، وحُشِر معهم؛ قال تعالى: ﴿ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا ﴾ [ النساء : 69
وتخيل المشهد يوم القيامة وأن الله عزوجل يسألك ماذا فعلت فى الأمانة الموكلة إليك هل بلغت الرسالة المكلف بها فيعلم صدقك وهو أعلم بما فعلت فتسمع هذا الرد
{(قَالَ اللّهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ)} [المائدة: 119].
و المتأمل لآيات الله يجد أن الجزاء فى الآخرة مرتبط بالصدق أيضا إذ يقول تعالى :" وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ "
" {في مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ} (55) " وهذا دليل على أن الصدق فى الدنيا هو الذى بلغ بهم هذه المنزلة فى الآخرة فالحياة بالصدق والموت بالصدق ودخول الجنة بالصدق فقد كان من دعاء النبى صلى الله عليه وسلم "ربى أدخلنى مدخل صدق وأخرجنى مخرج صدق "
كما أن الداعية يجب أن يتخلق بما يدعو إليه الناس ولا يخالف قوله فعله لأنه إذا خالف الفعل القول يؤدى الى أن يتشكك الناس فى الحق أو أنه يسقط من نظرهم وهذا مثلما حدث مع بنى إسرائيل عندما خالف قولهم العمل فعاتبهم الله عزوجل إذ يقول تعالى {{أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} } [البقرة: ٤٤]
ولكى يتحلى بهذا الخلق يجب أن يتحرى الإخلاص ويدفع الرياء وأن يتعبد إلى الله بمراقبته فى السر والعلانية وعدم الاعجاب بالعمل والاعتراف بفضل الله عليه والتواضع له فذلك ازكى لنفسه
التوكل :
إن التوكل على الله فى إعلاء كلمة الحق ونصرة الدين وتبليغ الرسالة والتمكين لدين الله لمن أعلى درجات التوكل على الله
إن ما يمر به الإسلام وأهله من محن ضاربة واستضعاف فى الأرض لم يجعل أمام دعاة الإسلام إلا أن يعتصموا بحبل الله ويلوذون بجنابه ليهديهم سواء السبيل إذ يقول تعالى :" {(ومن يعتصم بالله فقد هُدي إلى صراطٍ مستقيم) } (آل عمران: 101).
كم يتعرض أصحاب الدعوات وا لرسالات لإيذاء المعاندين والمعارضين لدعوتهم لذلك يحتاج الداعية للاعتصام بالله والتوكل عليه فى مواجهه مكر أعداء الإسلام وكيدهم ويكون على يقين أن الله كافيه شر هولاء الماكرون إذ يقول الله تعالى (وما لنا ألا نتوكل على الله وقد هدانا سبلنا، ولصبرن على ما آذيتمونا، وعلى الله فليتوكل المتوكلون) (إبراهيم: 12).
إنه التحدى الذى فعله نوح مع قومه وفعله كل الأنبياء من بعد أن استنصروا بالله على أعدائهم إذ يقول تعالى على لسان نوح عليه السلام : { { يَا قَوْمِ إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُم مَّقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنظِرُونِ (71) } " ليس تحدى غرور ولا تهور إنما هو الإيمان بالله وحده الذى يتضاءل أمامه أى قوى إنه الإيمان الذى يصل أصحاب الدعوات بمصدر القوة والعزة واثقين أن الله لن يتركهم لأعدائهم ولكنه تسلط أعدائهم عليهم ما هو إلا اختبار لتمحيص صقوف المسلمين ثم ينفذ وعده لهم بالنصر والتمكين
لما خوّف قوم هود هودًا بآلهتهم تبرأ منهم ومن شركهم، وقابل تهديدهم بسلاح التوكل على الله ، قال لهم {﴿ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ * إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ﴾} [هود: 55، 56].
وهذا هو إبراهيم يرد بكل ثقة ويقين على جبريل حين نزل له يقول ألك حاجة فتراه يقول أما منك فلا وأما لله فحسبنا الله ونعم الوكيل فكانت النتيجة آية باهرة، ومعجزة ظاهرة إذ يقول تعالى {﴿ قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ * وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ ﴾} [الأنبياء: 69، 70]
ولما تكالبت على يعقوب الهموم والأحزان لجأ إلى الله وفوض الأمر ، فألقى عن كاهله حمله له إذ يقول تعالى {﴿ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ ﴾} [يوسف: 67].
فكفاه الله ما أهمه وكشف عنه كربه ورد عليه بصره، وأرجع له ولده، ورفع مقامه، وأعلى ذكره، فى قرآن يتلى إلى يوم القيامة فها نحن بعد قرون عديدة نتلو قصته، وكيف كان صبره وتوكله على الله سبب فى تفريج كربه
يقول تعالى : {{ٱلَّذِينَ قَالَ لَهُمُ ٱلنَّاسُ إِنَّ ٱلنَّاسَ قَدۡ جَمَعُواْ لَكُمۡ فَٱخۡشَوۡهُمۡ فَزَادَهُمۡ إِيمَٰنٗا وَقَالُواْ حَسۡبُنَا ٱللَّهُ وَنِعۡمَ ٱلۡوَكِيلُ}} (173) هذه الآية تصف مشهد غزوة حمراء الأسد التى كانت بعد غزوة احد حين نودى للنفير وملاقاة الأعداء من جديد فاستجاب المؤمنون رغم جراحهم وخرجوا مع النبى صلى الله عليه وسلم فكانت العاقبة أنهم كانوا فى حفظ الله ومعيته
{"َفانقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174) } " وورثها أصحاب الدعوات من بعده كلما تكالب عليهم الباطل وحشدوا الحشود تجد المؤمن يقابل ذلك بالاعتصام بالله وهو فى ذلك كله يرجع الفضل لله عزوجل أن ثبتهم فى مواجهه أعداء ا لاسلام
يبين ابن القيم معنى الاعتصام "وهو التَّمَسُّكُ بِما يَعْصِمُكَ، ويَمْنَعُكَ مِن المَحْذُورِ والمَخُوفِ، فالعِصْمَةُ: الحِمْيَةُ، والِاعْتِصامُ: الِاحْتِماءُ، ومِنهُ سُمِّيَتِ القِلاعُ: العَواصِمَ، لِمَنعِها وحِمايَتِها.
وَمَدارُ السَّعادَةِ الدُّنْيَوِيَّةِ والأُخْرَوِيَّةِ عَلى الِاعْتِصامِ بِاللَّهِ، والِاعْتِصامِ بِحَبْلِهِ، ولا نَجاةَ إلّا لِمَن تَمَسَّكَ بِهاتَيْنِ العِصْمَتَيْنِ.
وَهُوَ نَوْعانِ: اعْتِصامٌ بِاللَّهِ، واعْتِصامٌ بِحَبْلِ اللَّهِ، قالَ اللَّهُ تَعالى { ﴿واعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا ولا تَفَرَّقُوا﴾} [آل عمران: ١٠٣] وقالَ {﴿واعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هو مَوْلاكم فَنِعْمَ المَوْلى ونِعْمَ النَّصِيرُ﴾} [ الحج : ٧٨].
فالِاعْتِصامُ بِحَبْلِ اللَّهِ يُوجِبُ لَهُ الهِدايَةَ واتِّباعَ الدَّلِيلِ، والِاعْتِصامُ بِاللَّهِ، يُوجِبُ لَهُ القُوَّةَ والعُدَّةَ والسِّلاحَ،
ولكن ماذا عن الابتلاءات التى يواجهها الدعاة رغم توكلهم على الله ؟ إن الابتلاء سنة ماضية لا تتخلف وهى أساس الخلق {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا}
كان إبرهيم متوكلا على الله ولكنه ابتلى واختبر فى دينه وفى ابنه ومع كل ابتلاء تجده يوفى كما ذكر لنا القرآن : { وَإِذِ ابْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ } " وسيد الخلق أجمعين وإمام الدعاه الذى كمل إيمانه كان متوكلا على الله وبرغم ذلك ابتلى وأوذى أيما إيذاء
اعلم أخى الداعية أنك طالما اخترت طريق الدعوة فإنك ستتعرض لأذى فالطريق ليس مفروش بالورود ولكن إذا سلمت أمرك لله واعتصمت به فسيكفيك شرار الناس إذ يقول -تعالى-: {(وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّـهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّـهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّـهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا)} .
إنه حث على ترك الأمر لله فما وقع فبقدر الله وهو كافيك هذا المكر والكيد وإن أصابك شيئا من كيدهم يفرغ الله عليك الصبر وترى لطف الله يتنزل عليك أو أنه يصرف عنك من الشر الكثير مما يقع فيه الناس ويفتح لك من خزائنه ويعينك على الطاعات ما لم تكن لتصل اليها إلا بالابتلاء
ويتساءل البعض كيف أصل إلى معنى التوكل الحقيقي الغير مشروط مع الله إذا فعلت له كذا سيعطيك كذا وإلا ستترك الطريق فهذا هو التوكل المشروط
الذى يتحقق بمعرفه الله والعلم عن الله الذى تجده بتدبر آيات القرآن ليفتح الله لك من خزائنه ويورثك نور البصيرة وتتدبر فى حال لأنبياء كيف عاشوا بالتوكل على الله
كما أن التوكل لا يتحقق إلا بعظم الغايات والأهداف التى يعيش لها الإنسان فيمده الله بقوة من قوته ويكفيه ما أهمه حتى يستطيع أن يوصل رسالته
ويتحقق بحسن الظن بالله ويحتسب كل ما يحدث لله ويرضى بقضائه فى كل شىء ليثق فى أنه ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه وإن اصابه مكروه فهو باذن الله ومن أ مر الله وليس بإرادرة البشر
وليفوض الأمر لله حتى يطمئن قلبه لما يحدث له من خير أو شر فكلها من أقدار الله تعالى ويوقن أن الله يعلم كل ما كان، وما هو كائن وما سيكون، وذلك مكتوبٌ عنده في اللوح المحفوظ منذُ الأزل،فلا يخاف أن يقول كلمة الحق يوما فيؤذى فى رزقه أو فى أهله لأنه قد سلم أمره لله فإن الله هو المتكفل به وبرزقه إذ يقول الله -تعالى-: {(وَلِلَّـهِ غَيبُ السَّماواتِ وَالأَرضِ وَإِلَيهِ يُرجَعُ الأَمرُ كُلُّهُ فَاعبُدهُ وَتَوَكَّل عَلَيهِ)} .
و عليه الأخذ بالأسباب واستفراغ الوسع مع تعلق القلب بالله فقط واعتماده عليه فقط فهو يسعى بالجوارح والقلب متعلقا برب الأسباب حتى يكون التوكل صحيحا إذ يقول تعالى -: {(وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّـهِ)}
ومن الوسائل أيضا تدبر أسماء الله الحسنى وخاصة اسم الله الوكيل فيزداد إيمانه بالله ويسلم الأمر له
دعاء الاستخارة سنة عن النبى فى أى أمر من أمور الحياة فقد ثبت عن جابر بن عبد الله أنه قال: «(كانَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يُعَلِّمُنَا الِاسْتِخَارَةَ في الأُمُورِ كُلِّهَا، كَالسُّورَةِ مِنَ القُرْآنِ: إذَا هَمَّ بالأمْرِ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ يقولُ: اللَّهُمَّ إنِّي أسْتَخِيرُكَ بعِلْمِكَ، وأَسْتَقْدِرُكَ بقُدْرَتِكَ، وأَسْأَلُكَ مِن فَضْلِكَ العَظِيمِ، فإنَّكَ تَقْدِرُ ولَا أقْدِرُ، وتَعْلَمُ ولَا أعْلَمُ، وأَنْتَ عَلَّامُ الغُيُوبِ، اللَّهُمَّ إنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أنَّ هذا الأمْرَ خَيْرٌ لي في دِينِي ومعاشِي وعَاقِبَةِ أمْرِي - أوْ قالَ: في عَاجِلِ أمْرِي وآجِلِهِ - فَاقْدُرْهُ لِي، وإنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أنَّ هذا الأمْرَ شَرٌّ لي في دِينِي ومعاشِي وعَاقِبَةِ أمْرِي - أوْ قالَ: في عَاجِلِ أمْرِي وآجِلِهِ - فَاصْرِفْهُ عَنِّي واصْرِفْنِي عنْه، واقْدُرْ لي الخَيْرَ حَيْثُ كَانَ، ثُمَّ رَضِّنِي به، ويُسَمِّي حَاجَتَهُ)» .
فدعاء الاستخارة فيه تفويض الأمر لله والتوكل عليه والرضا بما كتب الله له فى النهاية
لاشك أن الدعية إذا اتصف بهذه الصفات فإن كلمته ستصل إلى الناس بصدقه وإخلاصه كسهام لا تخطىء ويأثر قلوبهم برحمته بالمدعوين ولين جانبه لتفتح لهم أبواب التوبة والرجوع إلى الله فالناس تلتف حول من يثق فى الطريق ويؤمن ايمان صادق برسالته