ذكرك أخاك بما يكره
مدة
قراءة المادة :
14 دقائق
.
أما بعدُ؛ فأوصيكم أيها الناس ونفسي بتقوى الله عزَّ وجلَّ {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات: 13].أيها المسلمون:
إنَّ لنا دينًا عظيمًا، ومنهجًا كريمًا، حرص فيه على أن تبقى العلاقات بيننا قوية، لا تضعفها أدنى هزة، وأن تظل الأواصر مَحكمة البناء، لا ينقضها أي عاصف، و«المسلم أخو المسلم، لا يخذله ولا يحقره»، ولأن الكلمة السيئة من أخطرِ الآفات التي تفتك بالمجتمعات، وتدمر ما بين أفرادها من علاقات، فقد جاء الأمر لعباد الله أن يقولوا التي هي أحسن؛ قال سبحانه: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ} [الإسراء: 53]، فالكلمة الطيبة الحسنة لا يَجد معها الشيطان مجالاً للإفساد بين الناس، أو إيغار صدور بعضهم على بعض، وما ظفر عدو الله من اثنين بثغرة ينفذ منها عليهما، وينزغ بينهما فيها بمثل الكلمة الخبيثة السيئة، مِن لسان قاصد للشر مُتعمد للإفساد، أو آخر غافل عن الخير والإصلاح، ومِن ثَمَّ فلا عجب أن يكونَ مِنَ الإيمان أن يقول المرء حسنًا، أو يسكت عن سيئ؛ ففي الحديث المتَّفق عليه قال صلَّى الله عليه وسلَّم: «ومَن كان يُؤمن بالله واليوم الآخر، فلْيَقُل خيرًا أو ليسْكُت».
ألا وإن الغِيبةَ مِن أخطر آفات اللسان التي تفعل الكلمة فيها في القلوب الأفاعيل، وقد تكون كالقذيفة المسددة للأفئدة، فتفسد ودًّا قديمًا، أو تمحو حبًّا متمكنًا، أو تقتل ثقة متبادلة، أو تقطع علاقة محكمة، إنَّها الآفة المستشرية والمرض الفتاك، الذي ما انتشر في مجتمع إلاَّ قامتْ فيه سوق الظنون السيئة، ونبت فيه التحسس والتجسس، وظهر فيه الحقد والحسد والتشفي، وربَّما بلغ أثرها في إفساد المجتمع ما لم تفعله بعضُ الغارات والحروب.
ولقد بالَغَ القرآن الكريم والسنة النبوية في علاجِ هذا المرض الخطير، وبلغ التحذير منه وتبشيعه وتقبيح صورته حدًّا لا تقدر النفوس والقلوب بعده على تَحمُّله، ولا أن تنطوي عليه، إلاَّ أن تكون نفوسًا خبيثة وقلوبًا قاسية، ففي سورة الحجرات التي احتوتْ من آداب التعامل بين الناس على أعظمها وأكملها - نجد تسميةَ من يَحمل الأنباء غير المؤكدة وينقلها بالفاسِق، ونَلْفَى التحذير من قَبول خبره إلا بعد التأكُّد منه؛ لئلا نبني عليه من الأحكام والتصرفات ما نندم عليه في نهاية الأمر.
ثُمَّ بعد عدة أوامر وتوجيهات كريمة تدعو إلى إصلاح ذات البين، وتنظم أقوالَ المسلمين، وتضبط ألسنتهم - نَجد النهي عن الغيبة ، التي هي سبب من أسباب فساد العلاقات، واختلاف الود، ونلحظ أنَّها صورت لبشاعتها بأقبحِ صورة، إنها الصورة التي لا تقبلها نفس سوية زكية، صورة الرجل الآكل من لحم أخيه الميت، وهي البهيمية التي لم يقبلها الإنسان على مَرِّ العصور، لا في جاهلية ولا في إسلام؛ قال - سبحانه -: {وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ} [الحجرات: 12]، وأمَّا الأحاديثُ النبوية الكريمة، التي حذرت من الغِيبة، ونَهت عنها، وبينت خطرها وشديد ضررها، فكثيرة ومتنوعة.
روى مسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال: «أتدرون ما الغيبة» ؟، قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: «ذكرك أخاك بما يكره»، قيل: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: «إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بَهَتَّه»، وقال - عليه الصلاة والسلام -: «يا معشر مَن آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه، لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم، فإنَّه مَن تتبع عورة أخيه المسلم، تتبَّع اللهُ عورته، ومَن تتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف بيته»؛ (رواه أحمد وغيره وصححه الألباني ).
وقال صلَّى الله عليه وسلَّم: «لما عرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس، يخمشون وجوههم وصدورهم، فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون لحومَ الناس، ويقعون في أعراضهم».
وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "قلتُ للنبي صلَّى الله عليه وسلَّم: حسبك من صفية كذا وكذا - تعني قصيرة - فقال: «لقد قلت كلمة لو مُزجت بماء البحر لمزجته»، قالت: وحكيت له إنسانًا، فقال: «ما أحب أني حكيت إنسانًا، وأن لي كذا وكذا»"؛ (رواه الترمذي وأبو داود وصححه الألباني).
وعن أبي بكرة - رضي الله عنه - قال: "بينا أنا أماشي رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّم وهو آخذ بيدي ورجل على يساره، فإذا نحن بقبرين أمامنا، فقال رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «إنَّهما ليعذبان، وما يُعذَّبان في كبير»، ثم قال: «بلى، فأيكم يأتيني بجريدة» ؟، فاستبقنا فسبقته، فأتيته بجريدة، فكسرها نصفَيْن، فألقى على ذا القبر قطعة، وعلى ذا القبر قطعة؛ قال: «إنه يهون عليهما ما كانتا رطبتين، وما يعذبان إلا في الغيبة والبول»؛ (رواه أحمد وغيره، وقال الألباني: حسن صحيح).
وعلى فداحة الربا ، وعظم خطره، وسوء أثره، وكونه محاربة لله ورسوله، وأكلاً للمال بغَيْر حق، فقد جاء ذم الغيبة بِجَعْلها من أعظمِ الربا، فعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: خطبنا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فذكر أمر الربا وعظم شأنه، وقال: «إنَّ الدرهم يصيبه الرجل من الربا أعظم عند الله في الخطيئة من ست وثلاثين زَنْيَة يزنيها الرجل، وإن أربى الربا عرض الرجل المسلم»؛ رواه ابن أبي الدنيا ، وقال الألباني: صحيح لغيره، وروى أبو داود أنه صلَّى الله عليه وسلَّم قال: «إنَّ من أربى الربا الاستطالة في عرض المسلم بغير حق»؛ (صححه الألباني).
أيها المسلمون:
لقد حرص الإسلام على إضفاء الستر وحماية الأعراض بما لا مزيدَ عليه، وحذَّر من انتهاك الأعراض بالباطل، ونهى عن الخوض فيها بغَيْر حق، حتى لقد سوى النبي صلَّى الله عليه وسلَّم عرض المسلم في الحرمة بدمه وماله؛ حيث قال في حجة الوداع: «إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا»؛ (متفق عليه) ، وقال صلَّى الله عليه وسلَّم: «لا تَحاسدوا، ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا يبع بعضُكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخوانًا، المسلم أخو المسلم، لا يخذله ولا يحقره، التقوى ها هنا -وأشار إلى صدره- بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه»؛ (رواه مسلم).
فهل ثمة بيان لعظم حرمة عرض المسلم أعظم من هذا البيان وأوضح منه؟! وحين يرى بعض الناس الإسلام مجرد أعمال ظاهرة يخص بها نفسه، ثم ينسى حقوق الآخرين، ويَخوض في أعراضهم، ولا يدري عظيم أجره لو أصلح وكبير ذنبه كلما أفسد، فقد بيَّن صلَّى الله عليه وسلَّم صفة المسلم الحقيقي بقوله: «المسلم مَن سلم المسلمون من لسانه ويده»؛ (رواه مسلم) ، وبين صلَّى الله عليه وسلَّم علو درجة المصلح بين الناس، فقال: «ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة» ؟، قالوا: بلى، قال: «إصلاح ذات البين، فإن فساد ذات البين هي الحالقة»، وحذر في المقابل مَن تعرَّض للمسلمين بالأذى بالنار والبوار، وإن صلى وصام، وفعل ما فعل؛ فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قيل للنبي صلَّى الله عليه وسلَّم: يا رسول الله، إن فلانة تقوم الليل وتصوم النهار، وتفعل وتصدق، وتؤذي جيرانها بلسانها، فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «لا خير فيها، هي من أهل النار »، قال: وفلانة تصلي المكتوبة، وتصدق بأثوار من الأقط، ولا تؤذي أحدًا، فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «هي من أهل الجنة ».
وقال صلَّى الله عليه وسلَّم: «أتدرون من المفلس» ؟، قالوا: المفلس فينا من لا درهمَ له ولا متاع، فقال: «المفلس من أمتي مَن يأتي يومَ القيامة بصلاةٍ وصيام وزكاة، ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه، أخذ من خطاياهم، فطرحت عليه، ثم طرح في النار»؛ (رواه مسلم وغيره).
أيها المسلمون:
وإذا كانت الغيبة تَحمل كل هذا السوء، فإنَّ ثَمَّة نوعًا منها أعظم ذنبًا وأكبر جرمًا، إنه البهتان، حين يظلم المرء أخاه بذكره ما ليس فيه، وهي الكبيرة التي حذر المولى - جل وعلا - عبادَه منها؛ حيث قال: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [الأحزاب: 58]، وقال صلَّى الله عليه وسلَّم: «خمس ليس لهن كفارة: الشرك بالله، وقتل النفس بغير حق، وبهت المؤمن، والفرار من الزحف، ويمين صابرة يقتطع بها مالاً بغير حق»؛ (رواه أحمد وحسنه الألباني).
وقال صلَّى الله عليه وسلَّم: «ومن قال في مؤمن ما ليس فيه، أسكنه الله رَدْغَة الخبال حتى يَخرج مما قال»؛ (رواه أبو داود وغيره، وصححه الألباني، وردغة الخبال هي: عصارة أهل النار).
ألا فاتقوا الله - عباد الله - وليبكِ امرؤٌ على نفسه، وليحذر خطيئته؛ فإنَّ الله لم يبعثه على الخلق رقيبًا، وإذا لم يكن من المرء لأخيه خير وبر، فلا يكن منه شَرٌّ عليه ولا ضُرٌّ، ورحم الله امرأ قال خيرًا فغنم، أو سكت عن شر فسلم، ونعم الأخ مَن ذَبَّ عن عِرْض أخيه؛ قال - عليه الصلاة والسلام -: «من ذب عن عرض أخيه بالغيبة، كان حقًّا على الله أن يعتقه من النار»، وقال: «مَن ستر مسلمًا، ستره الله في الدنيا والآخرة».
أما بعدُ، فاتقوا الله - تعالى - وأطيعوه ولا تعصوه.
أيها المسلمون:
الكمال المطلق في الذات والصفات، إنَّما هو لله تبارك وتعالى وأمَّا بنو آدم، فكلهم خطَّاؤون ضعفاء؛ {وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} [ النساء : 28]، وإنه لو تفكر كل امرئ فيما في خُلُقه وخَلْقِه من نقص، وتأمل ضعفه، وتذكر تقصيره، وعَدَّ عيوبه، وأحصى ما لديه من أخطاء وتَجاوُزات وهفوات، لوجد فيها ما يُغنيه عن ذم الآخرين، والاشتغال بهمزهم ولمزهم، ورحم الله من قال:
لِنَفْسِيَ أَبْكِي لَسْتُ أَبْكِي لِغَيْرِهَا ♦♦♦ لِنَفْسِيَ مِنْ نَفْسِي عَنِ النَّاسِ شَاغِلُ
لكنها تزكية المرء نفسه تَجعله يعمى عن عيوبه مهما كبرت، ويتغافل عن مثالبه مهما عظمت، ثم يبلى من حيث لا يشعر بغيبة الآخرين، ويستعظم صغارهم، وصدق صلَّى الله عليه وسلَّم حيث قال: «يبصر أحدكم القذاة في عين أخيه، وينسى الجذع في عينه»؛ (رواه ابن حبان وصححه الألباني).
عباد الله:
إنَّ لحسن الظن بالآخرين، وترك تتبع أخطائهم وعيوبهم - في النفوس من الأثر الحسن الشيء الكبير؛ إذ إنَّ من اشتغل بعيوب الناس، واغتابهم وهزئ بهم مُحتقرًا لهم، بادلوه الشعور نفسه، ورموه بالاتهام ذاته، وبَحثوا عن عيوبه، وعملوا على الانتقام منه، ومِنْ ثَمَّ يصبح شأنُ المجتمع تبادُل الشر وتعاور العداوات.
ومن ترك الناس وشأنهم ولم يسمعهم إلا طيبَ الكلام، اكتسب مودتهم ومَحبتهم، وأعزوه وأكرموه، فبادلهم الشعور نفسه، فطابت حياة الجميع، وقويت علاقاتهم، ألا فاتقوا الله - أيها المسلمون - وتوبوا إليه من جميع الخطايا والذنوب، واعلموا أنَّ الغيبةَ كبيرة من كبائر الذنوب ، لا بد لها من كفارة خاصة، فأتوا بها؛ لتحللوا أنفسَكم من الذنب، وتتخلصوا من حق الآخرين الخاص، من قبل أن يأتي يومٌ لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة.
قال الإمام ابن القيم في كلام له عن كفارة الغيبة: وهذه المسألة فيها قولان للعلماء - هما روايتان عن الإمام أحمد - وهما: هل يكفي في التوبة من الغيبة الاستغفار للمغتاب؟ أو لا بد من إعلامه وتَحليله؟
والصحيح أنه لا يَحتاج إلى إعلامه، بل يكفيه الاستغفار، وذكره بمحاسِنِ ما فيه في المواطن التي اغتابه فيها، وهذا اختيارُ شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره، والذين قالوا: لا بد من إعلامه جعلوا الغيبة، كالحُقُوق المالية، والفرق بينهما ظاهر، فإنَّ الحقوق المالية ينتفع المظلوم بعود نظير مظلمته إليه، فإن شاء أخذها، وإن شاء تصدَّق بها، وأمَّا في الغيبة فلا يُمكن ذلك، ولا يحصل له بإعلامه إلا عكس مقصود الشارع، فإنه يوغر صدره ويؤذيه إذا سمع ما رُمِيَ به، ولعله يهيج عداوته، ولا يصفو له أبدًا، وما كان هذا سبيله، فإن الشارع الحكيم لا يبيحه ولا يجوزه، فضلاً عن أن يوجبه ويأمر به، ومدار الشريعة على تعطيل المفاسد وتقليلها، لا على تحصيلها وتكميلها؛ انتهى كلامه.