من أسرار أم الكتاب
مدة
قراءة المادة :
7 دقائق
.
من أسرار أم الكتابزرت طبيبًا ذات مرة، فوجدته يوزع كتيبًا صغيرًا من وريقات، فيه دعاء وتوسل ببعض الصحابة، وبالتحديد بأهل بدر رضي الله عنهم، وذكر في مقدمته قصصًا لا ندري مدى صحتها، تفيد بأن أصحابها توسلوا بهؤلاء الصحابة ففرج الله كربهم، ونالوا مرادهم.
ولا ينكر فضل الصحابة مسلم بعد أن قال الله فيهم: ﴿ وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾ [التوبة:100]، ولكن التوسل بهم بعد موتهم بدعة ما فعلها أحد من السلف على حد علمنا، ومن ثم فإن عمل الطبيب يحمد من حيث أنه أشار على مرضاه باللجوء إلى أبواب السماء لعل الله يشفيهم ﴿ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ ﴾ [الشعراء:80] ويذم من حيث أنه لم يرشدهم للدعاء الأمثل وهو الدعاء المأثور، وعلى كل حال فهذا الطبيب أفضل حالاً ممن غسلت أدمغتهم فلا يؤمنون بالطب الروحاني، ولا يعتقدون إلا بالأسباب الأرضية، ويطلبون أموالا باهظة من مرضاهم، وينسون أن الطب مهنة إنسانية قبل أن يكون وسيلة كسب.
ولقد بحثت عن دعاء ناجح، ودواء ناجع، سهل الحفظ، عظيم الفائدة، فوجدته في سورة الفاتحة، هذه السورة التي هي أعظم كنوز القرآن، وأحسن الأدوية، ولقد قال عنها الإمام ابن قيم الجوزية ما يلي:
[ومن المعلوم أن بعض الكلام له خواص ومنافع مجربة، فما الظن بكلام رب العالمين، الذي فضله على كل كلام كفضل الله على خلقه، الذي هو الشفاء التام والعصمة النافعة والنور الهادي والرحمة العامة، الذي لو أنزل على جبل لتصدع من عظمته وجلاله، قال تعالى: ﴿ وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الاسراء: 82]، ومن ها هنا لبيان الجنس لا للتبعيض هذا أصح القولين كقوله تعالى: ﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً ﴾ [الفتح: 29]، وكلهم من الذين آمنوا وعملوا الصالحات؟ فما الظن بفاتحة الكتاب التي لم ينزل في القرآن ولا في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور مثلها، المتضمنة لجميع معاني كتب الله، المشتملة على ذكر أصول أسماء الرب ومجامعها، وهي: الله والرب والرحمن والرحيم، وإثبات المعاد، وذكر التوحيدين: توحيد الربوبية، وتوحيد الإلهية، وذكر الافتقار إلى الرب سبحانه في طلب الإعانة، وطلب الهداية، وتخصيصه سبحانه بذلك، وذكر أفضل الدعاء على الإطلاق وأنفعه وأفرضه، وما العباد أحوج شيء إليه، وهو: الهداية إلى صراطه المستقيم المتضمن كمال معرفته وتوحيده وعبادته، بفعل ما أمر به، واجتناب ما نهى عنه، والاستقامة عليه إلى الممات، ويتضمن ذكر أصناف الخلائق وانقسامهم إلى منعم عليه بمعرفته الحق والعمل به، ومحبته وإيثاره، ومغضوب عليه: بعدوله عن الحق بعد معرفته له، وضال بعدم معرفته له، وهؤلاء أقسام الخليقة، مع تضمنها لإثبات القدر والشرع، والأسماء والصفات، والمعاد والنبوات، وتزكية النفوس وإصلاح القلوب، وذكر عدل الله وإحسانه، والرد على جميع أهل البدع والباطل كما ذكرنا ذلك في كتابنا الكبير في شرحها، وحقيق بسورة هذا بعض شأنها: يستشفى بها من الأدواء، ويرقى بها اللديغ.
وبالجملة: فما تضمنته الفاتحة من إخلاص العبودية لله، والثناء على الله، وتفويض الأمر كله إليه، والاستعانة به والتوكل عليه، وسؤاله مجامع النعم كلها وهي: الهداية التي تجلب النعم، وتدفع النقم، من أعظم الأدوية الشافية الكافية، وقد قيل: إن موضع الرقية منها: ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ [الفاتحة: 5]، ولا ريب أن هاتين الكلمتين من أقوى أجزاء هذا الدواء، فإن فيهما من عموم التفويض والتوكل والالتجاء والاستعانة والافتقار والطلب، والجمع بين أعلى الغايات وهي عبادة الرب وحده، وأشرف الوسائل وهي الاستعانة به على عبادته، ما ليس في غيرها.
ولقد مر بي وقت بمكة: سقمت فيه، وفقدت الطبيب والدواء، فكنت أتعالج بها، آخذ شربة من ماء زمزم، وأقرأها عليه مراراً، ثم أشربه.
فوجدت بذلك البرء التام، ثم صرت أعتمد ذلك عند كثير من الأوجاع، فأنتفع بها غاية الانتفاع] [1].
وليس القصد هنا نبذ الدواء، وترك الأسباب، وإنما نود أن نلفت إلى أهمية الطب الروحاني إلى جانب الجسماني، فكثيراً ما يعجز الطب الحديث عن علاج بعض الأمراض، فلا يبقى غير الدعاء باباً للأمل، وماذا يفعل الدواء لو لم يأذن الله بالشفاء؟ وقد ورد عنه عليه السلام أنه قال: [عليكم بالشفاءين: العسل والقرآن].[2]
ولأن الفاتحة أم الكتاب فما المانع من التداوي بها، إن كثيراً من المرضى يقفل الأطباء في وجوههم باب الأمل، فلماذا لا يلجؤون إلى رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما لعله يشفيهم؟ ولماذا يجهدون أنفسهم في طلب العلاج الجسماني، ويتكاسلون عن طلب العلاج الروحاني؟ ولماذا لا يقترن الأخذ بالأسباب بالدعاء والتوكل وقراءة القرآن الكريم؟
ليتنا نكثر من تلاوة سورة الفاتحة، ونتدبر كلام الله عز وجل، ونقرأه بخشوع وخضوع، ففيه الراحة والمتعة، وهو يجيب على أسئلتنا حول الوجود والغيب والمستقبل، ولو أسرجنا عقولنا بهدى القرآن لوجدنا الراحة والمتعة في كنفه، ووجدنا لذة لا تقاس بثمن، وهي لذة الأنس بكلام الرب عز وجل.
إن كلمات الله تبدد التيه لمن يعيش في ظلالها، وتفتح له طريق الجنة والخلود، وتجعله يدرك فلسفة الحياة ودورة الأيام وحقيقة الأشياء، وتقوده إلى السعادة عند مليك مقتدر، فليجرب من أعياه المرض طب الأنبياء، وليبدأ بسورة الفاتحة، فهي فاتحة الخير للدنيا والآخرة، ومنهاج الحق لأهل الأرض والسماء، لعل بنفحاتها المباركة يجلو الحزن عن عيون كثير ممن دب فيهم البؤس وأعياهم البحث عن الدواء.
[1] الطب النبوي، ص [211-212].
[2] مشكاة المصابيح، للتبريزي، بتحقيق الألباني، [2 /1288]، المكتب الإسلامي، دمشق، الطبعة الثالثة، 1405هـ/ 1985م.