أرشيف المقالات

الكفار بعضهم أولياء بعض

مدة قراءة المادة : 10 دقائق .
2الكفار بعضهم أولياء بعض
قال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ ﴾ [الأنفال: 73]. بعد أن ذكر الله تعالى أن المؤمنين - من المهاجرين والأنصار - بعضهم أولياء بعض، وأن المؤمنين في دار الإسلام ليس عليهم التزامٌ بالولاء للمؤمنين في غير دار الإسلام، بيَّن سبحانه وتعالى أن الكفار - على جميع أشكالهم - بعضهم أولياء بعض، وأنه ليس بين المؤمنين والكافرين ولاية.   والولاية التي بين الكافرين هي ولاية في الميراث، وقيل: في المؤازرة؛ أي يرث بعضهم بعضًا، ويؤازر بعضهم بعضًا، ويقول الألوسي: (وهذا بمفهومه مفيد لنفي الموارثة والمؤازرة بينهم وبين المسلمين، وإيجاب ضد ذلك وإن كانوا أقارب، ومن هنا ذهب الجمهور إلى أنه لا يرث مسلم كافرًا، ولا كافر مسلمًا)[1]. روى الترمذي في سننه عن أسامة بن زيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم))[2]. وروى أيضًا عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا يتوارث أهل ملتين))[3].   ومن هنا فإنه يجب البراءة من الكفر والكافرين، كما يجب على المسلمين عدم المؤازرة والمعاونة، وكل ما مِن شأنه تقوية شَوْكة الكافرين، فإن نعمة الإيمان تستلزم ألا يكون المؤمن ظهيرًا للمشركين، ففي سورة القصص قال تعالى عن موسى عليه السلام: ﴿ قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ ﴾ [القصص: 17]، وفي آخر السورة أمر الله تعالى نبيَّه محمدًا صلى الله عليه وسلم ألا يكون ظهيرًا للكافرين، ﴿ وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ ﴾ [القصص: 86]، ومِن أخطر ما وقع فيه بعض المسلمين في زماننا هذا، التبعية للمشركين ومعاونتهم على المسلمين شعوبًا وحكومات!   وقد تكون بين الكافرين عداوة فيما بينهم، بسبب المصالح والأهواء، لكنهم يجتمعون على حرب الإسلام، كما حدث في غزوة الأحزاب، وكما حدث بعد ذلك في الحروب الصليبية، فقد كان بين طوائف الصليبيين حروبٌ طاحنة كادت تُهلِكهم وتُبيدهم، فوجدوا أن المخرج من ذلك هو تحويل الأنظار إلى الشرق، وتفريغ الطاقات في حرب المسلمين والاعتداء عليهم، والاستيلاء على أراضيهم تحت راية الصليب التي جمعت شملهم ووحدتهم، ومن عجائب الأمور، وما يؤسف له، أنه بعد الحروب الصليبية وما تلا ذلك من احتلال لبلاد المسلمين، وخروج "المستعمِرين" المحتلِّين، وما يسمى بثورات التحرير - نجد مَن يوالي هؤلاء المشركين، ويسير في رِكابهم، ويتَّفِق معهم في كل وجهات النظر، وليس ذلك من الإسلام في شيء، قال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ ﴾ [محمد: 25، 26]. فكيف بمن يطيع في كل الأمر؟!
وقال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ ﴾ [المائدة: 51، 52]. وعلى هذا، فإن مِن مستلزمات الإيمان ودلائله، مخالفةَ المشركين ظاهرًا وباطنًا؛ لأن الموافقة في الظاهر تُورث المحبة في الباطن، وإذا حدَثَت المحبة في الباطن كان الكفر أو النفاق - والعياذ بالله - وكانت الفتنةُ والفساد العريض، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: (مشابهة "المشركين" في الظاهر سببٌ ومظنةٌ لمشابهتهم في عين الأخلاق والأفعال المذمومة، بل في نفس الاعتقاد، وتأثير ذلك لا يظهر ولا ينضبط، ونفس الفساد الحاصل من المشابهة قد لا يظهر ولا ينضبط، وكل ما كان سببًا إلى مثل هذا الفساد، فإن الشارع يحرمه؛ فالمشابهة في الظاهر تورث نوعًا من المحبة والمودة والموالاة في الباطن، كما أن المحبة في الباطن تورث المشابهة في الظاهر، وهذا أمرٌ يشهد به الحسُّ والتجرِبة، حتى إن الرجلين إذا كانا في بلد واحد، ثم اجتمعا في دار غربة كان بينهما من المودة والموالاة والائتلاف أمر عظيم، وإن كانا في مصرِهما لم يكونا متعارفين، أو كانا متهاجرين، فإذا كانت المشابهة في أمور دنيوية تورث المحبة والموالاة، فكيف بالمشابهة في أمور دينية[4]، فإن ذلك ينافي الإيمان)[5].   ومِن هنا كانت أهمية قطع الطرق وسد الذرائع المؤدِّية إلى الموالاة، المؤدية إلى الكفر والفساد والفتنة، ومن ذلك ترك التشبُّه بالكافرين في أقوالهم وفي أفعالهم، وترك معاونتهم وموافقتهم، بل إن الواجب مخالفتهم، قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 104]، يقول ابن كثير: (والغرض أن الله تعالى نهى المؤمنين عن مشابهة الكافرين قولًا وفعلًا)[6].   ومما يُؤسَف له أن بعضَ المسلمين ينظرون إلى دول الغرب نظرةَ احترام وتعظيم؛ وذلك لما وصلوا إليه مِن تقدم علمي ومن حضارة ومدنية، وقد نسي هؤلاء أو تناسَوا أن هذه الحضارة قامت على أنقاض الحضارة الإسلامية، وأن هذه الحضارة الغربية قامت على العلم المادي، وأهملت الجوانب الروحية والأخلاقية، ولهذا تفشَّت في هذه المجتمعات الأمراض المدمِّرة لهذه الحضارة، فإن كل نظام مِن وضع البشر يحمل في طياته عوامل هدمِه، فقد قال الله تعالى: ﴿ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ ﴾ [محمد: 1]، ومِن هذه الأمراض المدمِّرة المستعصية مرض نقص المناعة (الإيدز)؛ وذلك بسبب الفوضى الجنسية والشذوذ، وكذلك الأمراض النفسية والتي تؤدي إلى الانتحار، أما عن ظلم الفقراء والمستضعفين، والاعتداء على بلاد المسلمين، وقتل الأطفال والنساء في الصومال أو في أفغانستان - فليس المجال تفصيل ذلك، فهؤلاء الذين ينظرون إلى الغرب بعينِ الاحترام والتعظيم قد عَمِيت عيونهم وبصيرتهم، وفقدوا الصِّلة بدينهم، وتنكَّروا لتراثهم وعقيدتهم، ولهذا عمَّتِ الفتنة والفساد وهو إضاعة الدين وذَهاب الريح.   معنى الاستثناء في الآية الكريمة: قال تعالى: ﴿ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ ﴾ [الأنفال: 73]، والاستثناء هنا له أهميةٌ كبيرة؛ لأنه يحمل تحذيرًا مِن وقوع الفتنة والفساد الكبير، فما معنى الاستثناء، وإلى أي شيء يعود؟ يقول القرطبي: (الضمير في قوله تعالى: ﴿ إِلَّا تَفْعَلُوهُ ﴾ عائد على الموارثة والتزامها، وقيل: يعود على النصر للمسلمين في الدين، وقيل: جعل الله المهاجرين والأنصار أهلَ ولايته في الدين دون مَن سواهم، وجعل الكافرين بعضهم أولياء بعض، ثم قال: ﴿ إِلَّا تَفْعَلُوهُ ﴾، وهو أن يتولَّى المؤمن الكافر دون المؤمنين، ﴿ تَكُنْ فِتْنَةٌ ﴾؛ أي: محنة بالحرب وما انجرَّ معها من الغارات والجلاء والأسر، الفساد الكبير: ظهور الشرك)[7].   ومن هنا يجب على المسلمين الالتزام بتلك المبادئ والأحكام؛ وهي: 1- أحكام الموارثة بين المؤمنين وبعضهم، وبين الكافرين وبعضهم. 2- التناصر والمؤازرة فيما بين المؤمنين، وحرمتها بين المؤمنين والكافرين. 3- حفظ العهود مع المشركين. 4- مناصرة المسلمين الطالبين للنصرة في حدود العهود المبرمة. 5- حرمة الولاية بين المؤمنين والكافرين، ويتبع ذلك حرمة التشبه بالكافرين، وحرمة معاونتهم ومساندتهم، وحرمة تعظيمهم ومودتهم، قال تعالى: ﴿ لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ ﴾ [المجادلة: 22].


[1] روح المعاني، ج6، ص53. [2] سنن الترمذي، باب ما جاء في إبطال الميراث بين المسلم والكافر، رقم 2107، وقال: حديث حسن صحيح، وأسامة بن زيد: هو حِبُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويكنى بأبي محمد، وأمه أم أيمن، حاضنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، استعمله النبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثمان عشرة سنة على سرية فيها أبو بكر وعمر، مات بالجرف في آخر خلافة معاوية. [3] سنن الترمذي، باب لا يتوارث أهل ملَّتينِ، رقم 2108، وجابر: هو جابر بن عبدالله بن عمرو بن حرام، شهِد العقبة مع السبعين، وكان أصغرهم، وأراد شهود بدر فخلفه أبوه على أخواته، وكن تسعًا، وخلفه أيضًا في أحد، ثم شهِد ما بعد ذلك، توفي سنة 78 هـ بالمدينة. [4] كالاحتفال بأعياد النصارى ومشاركتهم. [5] اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم؛ شيخ الإسلام ابن تيمية - مطابع المجد التجارية، بدون تاريخ، ص 221. [6] تفسير ابن كثير ج1، ص148. [7] تفسير القرطبي ج4 ص2896



شارك الخبر

فهرس موضوعات القرآن