السلام مع النفس - محمد سيد حسين عبد الواحد
مدة
قراءة المادة :
8 دقائق
.
أيها الإخوة الكرام:اليوم تحدث عن السلام مع النفس , وفي مستهل هذا اللقاء أود أن أقول:
في تسع وثلاثين سورة من سور القرآن الكريم , في سورة النساء , في سورة هود , في ابراهيم, في الحجر, في النحل, في الإسراء, في الكهف, في الحج ، إلى غيرها من سور القرآن الكريم
في تسع وثلاثين سورة وفي ست وخمسين موضعا من تلك السور تحدث رب العالمين سبحانه وتعالى عن (الإنسان) فماذا قال ؟
قال الله تعالى:( {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} ) وقال ( {وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا} ) وقال ( {وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا} ) وقال ( {وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا} ) وقال ( {إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا} ) وقال ( {بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ} ) وقال ( {إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ} )
في معظم الآيات التي أتى فيها لفظ (إنسان) قصد به الإنسان الكافر, ولم يقصد بها الإنسان المؤمن ، في معظم المواضع التي ذكر فيها لفظ (إنسان) قصد به الإنسان الجاحد لنعم الله تعالى المنكر لفضل الله سبحانه وتعالى فقط..
الدليل:
قول الله تعالى(وَالْعَصْرِ, إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ, إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا..) الدليل الثاني قول الله تعالى ( {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ, وَطُورِ سِينِينَ, وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ, لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ, ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ, إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا} )
الإنسان في هذه الآيات صاحب الصفات المذمومات هو الإنسان غير المؤمن, لذلك لا تعجب حين تعلم أن هذا الإنسان يعيش معيشة ضنكا, وأنه يحشر يوم القيامة أعمى, لا تعجب حين تعلم أن هذا الإنسان الجاحد يعيش في كبد, يعيش يئوساً قنوطا, والعياذ بالله ..
هذه هي حال كل إنسان إلا المؤمن..
فالمؤمن يسعد بإيمانه بربه يسعد بحبه لربه يسعد بحسن ظنه بالله تعالى ( {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} ) المؤمن لا يعيش معيشة الضنك ولا الكبد ولا الشقاء قال الله جل وعلا ( {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى} )
المؤمن يعيش في سلام مع الله سبحانه وتعالى , وسلام المؤمن مع ربه إيمان , سلام المؤمن مع ربه عمل صالح ، سلام المؤمن مع ربه حسن ظن وحب لله, سلام المؤمن مع الله رضا بالله , رضا عن الله , رضا بما قسم الله وفي الحديث يقول النبي عليه الصلاة والسلام (وارض بما قسم الله لك تكن أغنى الناس)
المؤمن كما يعيش في سلام مع الله سبحانه وتعالى هو يعيش في سلام مع نفسه, فسلامه مع ربه ينعكس بالخير والسعادة على نفسيته , فالمؤمن أهدأ الناس هدوئه أمارة سلامه مع نفسه ، المؤمن أعقل الناس, المؤمن أحكم الناس, المؤمن يحسن التصرف في السراء والضراء لأنه مؤمن, والله تعالى يقول (إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا, إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا, وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا, إِلَّا الْمُصَلِّينَ ) يعني ( إلا المؤمنين )
{(إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا, إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا, وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا, إِلَّا الْمُصَلِّينَ, الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ, وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ, لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ, وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ, وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ, إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ, وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ, إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} )
المؤمن بشر ككل البشر:
لكنه متميز بإيمانه, متميز برضاه عن الله تعالى, متميز بسلامه مع نفسه, متميز بسلامه مع الناس, فلا يظلم أحدا, ولا يجهل على أحد, ولا يحقد, ولا يحسد, المؤمن في ظل السلام مع نفسه سعيد الدنيا سعيد الآخرة بنص حديث النبي عليه الصلاة والسلام
قَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ: « كُنَّا يَوْمًا جُلُوسًا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «يَطْلُعُ عَلَيْكُمُ الْآنَ مِنْ هَذَا الْفَجِّ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ» قَالَ: فَطَلَعَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْأَنْصَارِ تَنْطِفُ لِحْيَتُهُ مِنْ وُضُوئِهِ، قَدْ عَلَّقَ نَعْلَيْهِ فِي يَدِهِ الشِّمَالِ فَسَلَّمَ، فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَ ذَلِكَ، فَطَلَعَ ذَلِكَ الرَّجُلُ عَلَى مِثْلِ الْمَرَّةِ الْأُولَى، فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الثَّالِثُ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَ مَقَالَتِهِ أَيْضًا، فَطَلَعَ ذَلِكَ الرَّجُلُ عَلَى مِثْلِ حَالِهِ الْأَوَّلِ ..
فَلَمَّا قَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَبِعَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ فَقَالَ: إِنِّي لَاحَيْتُ أَبِي، فَأَقْسَمْتُ أَلَّا أَدْخُلَ عَلَيْهِ ثَلَاثًا، فَإِنْ رَأَيْتَ أَنْ تُؤْوِيَنِي إِلَيْكَ حَتَّى تَمْضِيَ الثَّلَاثُ فَعَلْتَ، قَالَ: نَعَمْ..
قَالَ أَنَسٌ: كَانَ عَبْدُ اللَّهِ يُحَدِّثُ أَنَّهُ بَاتَ مَعَهُ ثَلَاثَ لَيَالٍ، فَلَمْ يَرَهُ يَقُومُ مِنَ اللَّيْلِ شَيْئًا، غَيْرَ أَنَّهُ إِذَا تَعَارَّ انْقَلَبَ عَلَى فِرَاشِهِ، وَذَكَرَ اللَّهَ وَكَبَّرَ حَتَّى يَقُومَ لِصَلَاةِ الْفَجْرِ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: غير أَنِّي لَمْ أَسْمَعْهُ يَقُولُ إِلَّا خَيْرًا، فَلَمَّا مَضَتِ الثَّلَاثُ، وَكِدْتُ أَحْتَقِرُ عَمَلَهُ..
قُلْتُ: يَا عَبْدَ اللَّهِ، لَمْ يَكُنْ بَيْنِي وَبَيْنَ وَالِدِي هِجْرَةٌ وَلَا غَضَبٌ، وَلَكِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ: «يَطْلُعُ الْآنَ عَلَيْكُمْ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ» ، فَطَلَعْتَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَأَرَدْتُ أَنْ آوِيَ إِلَيْكَ لَأَنْظُرَ مَا عَمَلُكَ، فَأَقْتَدِيَ بِكَ، فَلَمْ أَرَكَ تَعْمَلُ كَبِيرَ عَمَلٍ، فَمَا الَّذِي بَلَغَ بِكَ مَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: مَا هُوَ إِلَّا مَا رَأَيْتَ قَالَ: فَانْصَرَفْتُ عَنْهُ، فَلَمَّا وَلَّيْتُ دَعَانِي فَقَالَ: مَا هُوَ إِلَّا مَا رَأَيْتَ، غَيْرَ أَنِّي لَا أَجِدُ فِي نَفْسِي عَلَى أَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ غِشًّا، وَلَا أَحْسُدُهُ عَلَى مَا أَعْطَاهُ اللَّهُ إِيَّاهُ إِلَيْهِ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: هَذِهِ الَّتِي بَلَغَتْ بِكَ هِيَ الَّتِي لَا نُطِيقُ» ..
أن يأتي عليك الليل فتنام وليس في قلبك غش لأحد, وأن ترى أصحاب النعم فلا تحسدهم ولا تحقد عليهم هذا هو أبسط تعريف للسلام مع النفس..
نسأل الله تعالى أن يؤت نفوسنا تقواها إنه ولي ذلك والقادر عليه.
الخطبة الثانية
بقي لنا في ختام الحديث أن نقول:
إن السلام مع النفس نعمة جليلة ..
لكنها نعمة لا تكتمل ولا تبلغ
تمامها إلا إذا انسحبت على الجميع ..
فالمسلم فيما أرى من سلمت كل الخلائق من أذي لسانه ويديه وعينيه وأذنيه وأفعاله ..
المسلم من سلم الجار من تجسسه وشره، المسلم من سلم زوجه من قهره وبطشه، المسلم من سلم الصديق من ظلمه وغشمه، المسلم من سلم القريب من قطيعته وهجره، المسلم من سلم الضعيف من تسلطه وكبيره ، المسلم من سلم الإنس والجن والبهائم والهوام من أذاه..
قال ابن مسعود:كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، فانطلق الرسول لحاجته، فرأينا حمرة معها فرخان، فأخذها فرخيها ,فجاءت الحمرة فجعلت تفرش، فجاء رسول الله فقال من فجع هذه بولدها؟ ردوا ولدها إليها..
قال ابن مسعود ورأى رسول الله قرية نمل قد حرقناها، فقال من حرق هذه؟
قلنا نحن فقال عليه الصلاة والسلام إنه لا ينبغي أن يعذب بالنار إلا رب النار ..
نسأل الله تعالى أن يرزقنا في الدنيا بكرمه السلام وفي الآخرة بفضله دار السلام إنه ولي ذلك ومولاه وهو على كل شيء قدير .