أرشيف المقالات

النزعات القومية والعنصرية

مدة قراءة المادة : 5 دقائق .
مما لا يخفى أن أساس الأخوة الإسلامية هو العقيدة الإسلامية المشتركة بين المسلمين في شتى أنحاء المعمورة، وأنه بقدر تمسك المسلمين بهذا الرباط المتين يقوى ترابطهم وتماسكهم، كما تقوى كذلك وتترسخ أخوتهم، ويتحدون في مواجهة أعدائهم، والعكس صحيح.
 
ولقد ظل المسلمون أحقاباً من الزمن مؤتلفين برباط عقيدتهم؛ يوالون ويعادون، ويسالمون ويحاربون، ويَصِلون ويقطعون على أساس هذه العقيدة، فكانت الأخوة بينهم يومئذ ظاهرة المعالم، قوية البنيان، عظيمة الخطر، فاعلة الأثر.
لكن أعداء الإسلام والمسلمين جَدُّوا واجتهدوا ودبروا وخططوا لتعكير صفو هذا الإخاء، وتوهين رباطه، وإضعاف تماكسه، كي يتمكنوا من التغلب على الأمة الإسلامية، فتفتقت أذهانهم الماكرة عن بث وزرع فكرة القوميات في العالم الإسلامي، ليعود المسلمون إلى ما كانوا عليه في جاهليتهم من الخلاف والتناحر، نتيجة التعصب للأجناس والتحيُّز للأقوام، فيضرب بعضهم رقاب بعض، ويعودوا كما كانوا أشتاتا متنافرين، وأشلاء متناثرين.
 
ومع إشاعة القوميات كانت هناك جهود مستميتة لإحياء النزعات العنصرية الإقليمية القديمة في كل قطر، ومحاولة بعث الحياة فيها بشتى الطُّرُق، فيتفاخر الناس بما كان وبمن كانوا قبل الإسلام، من فراعنة، وبابليين، وآشوريين، وفينقيين...
وينتسبون إليهم، ويجتمعون على أساس الصلة التي تصلهم بأولئك القدامى، وينسون شيئا فشيئا رابطة الدين وأخوة الإسلام، بل وصلة العروبة، ويصبح العربي المنتسب إلى عرق معين كالفرعونية أجنبيًّا عن أخيه العربي الذي ينتمي إلى عرق آخر كالفينيقية، فضلاً عن كونه يصير أجنبيًّا عن بقية المسلمين الذين لا ينتمون إلى قوميته أو عصبيته.
ولقد غزت العالم الإسلامي في العصر الحاضر الدعوات إلى القوميات، مثل القومية العربية، والقومية الطورانية، والقومية الفارسية، وغيرها، وتبعتها الدعوات العنصرية الإقليمية مثل الدعوة إلى الفرعونية، وما يتبعها من إحياء للتاريخ الفرعوني الوثني، وشغل الناس به، ونحوها من الدعوات.
 
ولا يخفى دور أعداء الإسلام والمسلمين في إذكاء الدعوة إلى القوميات والعنصريات، وتولي كبرها؛ لعلمهم علم اليقين بفداحة خطورتها وأضرارها على الإسلام وأهله.
جاء في تقرير القسيس المستشرق الأمريكي "زويمر 1867 - 1952" سنة 1927م: "إن هدم الإسلام في نفوس المسلمين له أهمية كبرى في شيء واحد؛ هو مثول الفكر الغربي كصديق دولي، وإن أول ما يجب عمله للقضاء على الإسلام هو إيجاد القوميات"[1].
وإلى مثل هذا أشار المستشرق البريطاني "هاملتون جب 1895 - 1971" وزملاؤه، فقال: "وقد كان من أهم مظاهر فرنجة (أي تغريب) العالم الإسلامي تنمية الاهتمام ببعث الحضارات القديمة، التي ازدهرت في البلاد المختلفة التي يشغلها المسلمون الآن، فمثل هذا الاهتمام موجود في تركيا وفي مصر وفي إندونيسيا وفي العراق وفي فارس، وقد تكون أهميته محصورة الآن في تقوية شعور العداء لأوروبا، ولكن من الممكن أن يلعب في المستقبل دوراً مهمًّا في تقوية الوطنية الشعوبية وتدعيم مقوماتها"[2].
 
إن الدعوة إلى القوميات والعصبيات والعنصريات العرقية، وإشاعتها في العالم الإسلامي وباءٌ مهلك، وداء فتاك، ينذر بتلاشي الأخوة بين المسلمين، وإقامة جدر عازلة بين كثيرين من المسلمين وباقي إخوانهم، وتبديل ولاء المسلم ونصرته لينصرف إلى أعداء دينه وأمته؛ حيث يكون ولاؤه وبراؤه من منطلق الروابط والعصبيات والعرقيات الجاهلية، فتهن صلته بإخوانه المسلمين الذين لا يدخلون في دائرة القومية التي ينتمي إليها، بل وربما انقطع ولاء بعض المسلمين عن شعوب مسلمة، لأنها خارج دائرة قوميتهم التي يتعصبون لها في الوقت الذي يمنحون ولاءهم وحبهم ونصرتهم لكثيرين من أعداء الدين، بزعم أنهم شركاء في قوميتهم التي إليها ينتمون.
 [1] معالم التاريخ الإسلامي المعاصر، أنور الجندي، ص 151.
[2] الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر، د.
محمد محمد حسين 2/141، مؤسسة الرسالة - بيروت.
نقلاً عن كتاب إلى أين يتجه الإسلام، للمستشرق الإنجليزي (جب) وآخرين، ص 342.
ولمزيد من التفصل حول هذا الموضع يراجع: الغزو الفكري التحدي والمواجهة، للمؤلف ص 221 - 242، دار الكلمة - مصر، ط الثانية 1434هـ - 2013م.
___________________________
أ.د.
إسماعيل علي محمد

شارك الخبر

مشكاة أسفل ٢