أرشيف المقالات

رواء مكة.. قصة تحول في رحاب الحرم

مدة قراءة المادة : 8 دقائق .
رواء مكة
قصة تحول في رحاب الحرم
 
حسن أوريد: سياسي وكاتب مغربي، تم تعينه كأول ناطق رسمي باسم القصر الملكي، وتتلمذ في المدرسة المولوية بالرباط مع الملك محمد السادس الذي كان حينها وليًّا للعهد، وبعد حصوله على البكالوريا التحق بكلية الحقوق والعلوم السياسية بالرباط، ثم حصل على الدكتوراه في موضوع «الخطاب الاحتجاجي للحركات الإسلامية والأمازيغية في المغرب».
 
تولَّى عدة وظائف بوزارة الخارجية، فأصبح مستشارًا سياسيًّا بسفارة المغرب بواشنطن، ثم أستاذًا جامعيًّا، ثم ناطقًا رسميًّا باسم القصر، ثم واليًا على مكناس، ثم مؤرخًا للمغرب، ثم رئيس مركز «طارق بن زياد» للدراسات والأبحاث.
 
يقول حسن أوريد في كتابه الماتع «رواء مكة»:
♦ في أحد المؤتمرات بماليزيا أجريت للكاتب عملية الزائدة الدودية على عجلٍ، يقول عنها حسن أوريد: واستفقت على آلام الجرح، ولكن شيئًا أخذ يعتمل في نفسي القلقة.
 
في فترة النقاهة التي أمضيتها بمستشفى بكوالالمبور انغرست بذرة في فؤادي.
 
كان الطبيب حفيًّا بي، وكان أن رزق ولدًا، ولكنه رأى ألا يبرحني، وسألته والطبيبة التي كانت تساعده لِم أنتما حفيان بي؟
أجابا: لأنك أخ في الإسلام، ولا يمكن أن نتركك وشأنك وقد غادر وفد بلدك.
 
آه لو يعلمان كم من سماوات، وكم من بحار تفصلني عن الإسلام.
 
♦ في مسرى حياتي وقد بلغت أشدي لقيت كثيرًا من الرؤى التي اعتورت طفولتي: الاشتراكية، القومية العربية، الحركة الأمازيغية، وكان لي لقاء آخر لم أكن أُقدر أن سيحدث، لقاء بالإسلام بعد فراق طويل.
 
♦ أكتب هذه الخواطر ثلاث سنوات بعد أدائي فريضة الحج، وأسعى أن أفهم ماذا جرى، كل التحولات العميقة في حياة الأفراد كما في حياة المجتمعات، تأتي وئيدة حتى لا تكاد ترى، كنت تعبًا حقًّا من أن أسكن بيتًا ليس لي، وكانت هناك إشراقات تغري بأن أعود إلى بيتي الأول، بيتي الذي سمعت فيه صوت القرآن يتلى من الفجر يصدح به والدي، وفيما ناغتني به والدتي من أشعار أمازيغية في مدح الرسول عليه أزكى الصلاة والسلام، أو هي تتلو علي قصة النبي يوسف عليه السلام، ثم فيما غرسته جدتي في نفسي ورعاه والدي.
 
ولكن ذلك الميراث أضحى في فترة من حياتي طقوسًا ونصوصًا وكان يصدني عن السير، ماذا جرى؟

حدث ذلك التحول الذي أحالني شخصًا آخر في رحاب مكة، وقد أنهيت طواف الإفاضة والسعي، وانثنيت في زاوية من باحة السعي بين الصفا والمروة أتساءل: هل لكل هذا من معنى؟

لم يطرح ذلك السؤال في رحاب الحرم الشريف، بل انفجر هناك كما ينفجر البركان، وقد كان يعتمل في نفسي لسنوات، على رسلك أيها القارئ..سأبوح لك بكل شيء:
♦ إنها الكعبة دلالة تقوي بصيرة المتبصر، وتسدد فكرة المتفكر، العبدري الحيحي: الرحلة.
 
♦ أتممت الحج، كانت الكعبة المشرفة لقاءً مع ذاتي، كان طوافي بحثًا، ولما أن فرغت سعيت، وبعد السعي، انزويت جانبًا أنظر إلى ما حولي وأتملَّى حياتي، قد كان لحجي ألا يكون إلا شعيرة، وفجأة نعم كما يتفجر من الأعماق تحول رواء انبجس من داخل نفسي، كنت أشرب من ماء زمزم من كوب من ورق مقوى، وأنا أنظر إلى جموع الساعين يمشون في رفق، ثم ما يلبثون أن يهرولوا، هل لكل ما أرى من معنى؟ وفجأة وقفت، وأنا أردد: بلى، وهل الحياة إلا تلبية لنداء الله، له وحده لا شريك له، في كل مكان، وفي كل زمان، نعم، كنت أردد النداء في لحظة معينة، وفي مكان معين، ولكنها تهيئة لفهم قصده في كل لحظة، وفي كل مكان..
ومشيت لخطوات وأنا أردد بالفرنسية، ولا أدري لِمَ، أنا مسلم، لربما لأنها اقترنت في ذهني بشعور وجودي، وأثر فلسفة سارتر عليَّ، الإسلام ليس استسلامًا ولكنه فلسفة حياة، فلسفة فاعلة، مقدامة أساسها العزم، وهو المفهوم الذي يعز على الترجمة، واعتبرته النظرة الغربية في جانب منه الذي هو التوكل تواكلًا واستسلامًا وانهزامًا.
 
هو شعور مبدؤه النية ثم التصور، فالإقدام مشفوع بالصبر والتواضع، كل مرة أقرأ في صلاتي: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا ﴾ [فصلت: 30] إلى: ﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾ [فصلت: 33]، إلا تذكرت تلك اللحظة في الحرم المكي، وما الدين عند الله إلا هذه الفلسفة التي تقبل على الحياة، دون أن تشطط بها النفس، هذه الفلسفة التي تجليها آية أخرى: ﴿ وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ﴾ [القصص:77].
 
هو ذا الإسلام، هو صرح فلسفي تجليه الآية الكريمة، من نزع الإنسان من عوالق الدنيا دون أن ينسى نصيبه منها؛ لأن بها وجوده، ثم سعيه للخير والبر والإحسان لا كمنة بل كدين، وكيف يدرك الإنسان الدنيا بالهزء منها؟ هو ذا فهم يعز على القوالب الغربية، فهي في مرجعيتها الإغريقية لا يمكن أن تجمع بين النقيضين، وهي ترى العلاقة بينهما على أساس تضارب، وهي في صيغتها الكاثوليكية إعراض عن الدنيا، وفي صورتها البروتستانتية مثلما ذهب «فاكس فيبر» في «الجذور الأخلاقية للرأسمالية»، إقبال عليها، أما الإسلام فيرى التكامل بين ما قد يظهر متناقضا في النظرة الغربية، هو لا يجعل من النجاح في الدنيا غاية، بل وسيلة لشيء أسمى يعطي للحياة معنى، هو الدار الآخرة.
 
ثم بحثت وسط الحجيج عن منفذ خارج الحرم الشريف، كنت كريشة، أشعر بخفة وأشعر بحيوية، ولم أكن قدِّرت ما سيفضي له هذا الشعور من تحول في حياتي.
 
♦ يقول ابن عطاء الله السكندري: لا ترحل من كون فتكون كحمار الرحى، يسير والمكان الذي ارتحل إليه هو الذي ارتحل منه، ولكن ارحل من الأكوان إلى المكون، ﴿ وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنتَهَى ﴾ [النجم:42].
 
♦ وتحولت، أصبحت لحياتي معنى، أدركت المعاني الدقيقة لنداء «لا إله إلا الله، محمد رسول الله»، أدركت معنى الله أكبر.
 
كنت منقبضًا، فأصبحت منشرحًا، كنت أخشى الحياة وصروفها، وأصبحت أهزأ منها ومن أحابيلها، كنت أهوى نفسي وأأتَمِرُ بهواي، وأضحيت أضبط جماحها أو أسعى لضبط جماحها، وكان الهوى يثبط العزيمة ويفت من الإرادة، كانت غشاوة ترين على ذهني فلا أبصر، وانجلت الغشاوة، كنت مقحمًا كالبعير المكبلة التي ترفع رأسها في شمم وإباء، وترفض أن تكرع من الماء، وانحنيت بلا تأفف، لم يَثننِ وضعي، ولا ما نلت من معرفة وعلوم عقلية لأنهل من نبع ثر صاف يكرع منه المؤمنون، ذلك الرواء غير حياتي رأسًا على عقب، وأرى أنه غيرها نحو الأحسن، أضحى البعيد قريبًا، ومن حسبته قريبًا صار بعيدًا.
 
إخوتي ليس من يجمعني وإياهم عرق أو لسان، إخوتي إخوة إيمان، من يرددون معي نفس النداء، نداء «الله أكبر».
 
♦ الإسلام هو فلسفة الحياة، تبدأ بإشراقة الإيمان، وعلى هديه يسير العقل، وتنتسج حياة المرء كلها من نور الإيمان ورفقة العقل، سدى ولحام، مسار يكون العقل فيه صاحبًا لا سيدًا، فلا يشتط في الأمر أو يجور عن القصد، ذلك الإشراق أو ذاك النور هو الذي يملأ حياة المرء، فيزيح الغشاوات ويبدد الظلمات، ثم إن الإسلام دعوة للعدل، ولذلك لا يمكن أن يكون استكانة للظلم ورضوخًا للاستبداد وعبادة للأصنام وتبعًا للسحرة، الإسلام تحرر، وهذا التحرر لا يكون إلا بالجهاد، جهاد النفس أولًا، والقيام ضد الظلم إن اقتضى الأمر.
 
الإسلام تربية وتزكية للنفس في أي مضمار تخوضه، تزكية لها في كل أوجه حياتها، بما في ذلك ما يهم شؤون الناس وقضاياهم، ولو فصلنا الإسلام عن قضايا الناس، لأصبح طقوسًا بلا معنى ولأضحى رهبنة.

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٣